الحرمان

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الزمن، 1980.
المكان، جنوب المغرب.
صحراء، شمس حارقة، سراب، جفاف، صخور كلسية وجبال قاسية، امتداد جغرافي لا حدود يختزل تاريخا طويلا من الإهمال والازدراء والتهميش اسمه (المغرب المنسي).
تميل الشمس نحو المغيب، تفقد حرارتها، تخترق خيوطها غابة الأركان الممتدة وترسم أفقا لغسق جميل وهادئ.
في الخلفية بعيدا يسمع صوت البحر.
أخيرا، أنهى (بيهي) العطار جولة عمله اليومية.
كان مستنزفا ومهدودا من فرط التعب، فقد جاب معظم القبائل المبثوثة هناك بين الجبال، دواوير، مداشر، مسالك وعرة.
عالم لا تبلغه أقدام الغرباء إلا بشق الأنفس.
قرر (بيهي) أن يبيت ليلته بجوار دوار شبه مهجور.
مال إلى سور حجري، أنزل (الشواري) من على ظهر الحمار، وبدأ في تهيئة المكان.
تملكه احساس غريب، نوع من الحدس الغامض، أحس أنها ستكون ليلة رهيبة.
كانت الكلاب تنبح، تنبح بدون توقف، فقد اشتمت رائحة الغرباء.
يغرق الدوار في ظلام دامس، سكون جنائزي، صمت رهيب ينكسر بين الحين والآخر، رعد وبرق من غير مطر، كلاب تنبح، ذئاب تعوي، أصوات ترتفع، تعلو، تنخفض، تسافر، تمضي، تتلاشى وراء الجبال ثم تعود رجعا بعيدا.
على بعد خطوات من المدخل الحجري انفتحت البوابة الكبيرة للدوار، خرجت منها سيدة في منتصف العمر، تمشي على استحياء، تقدمت بهدوء في اتجاه الرجل الغريب، توقفت غير بعيد، بدت مترددة، بدت وكأنها تفكر أو تقرر أمرا ما.
انخرطت كلابها في نوبة من النباح الشديد.
بحركة خفية من سبابتها، تتراجع الكلاب، تلوذ بالصمت.
سألها الرجل.
– أنا غريب وعابر سبيل…هل لي أن أحظى بشيء من كرمك سيدتي؟
– مرحبا سيدي، مرحبا بضيف الله!!
توارت المرأة خلف البوابة، اختفت للحظات، ثم ظهرت ثانية وهي تحمل صينية بها طعام قليل، وبراد شاي دافئ، ثم عادت أدراجها، واختفت من جديد.

كان العطار بين النوم واليقظة عندما سمع خطوات تقترب منه، فتح عينيه بصعوبة، كانت المرأة أمامه مباشرة، تحمل في يدها اليسرى (لمبة)غاز، تلقي هالة خافتة من الضوء على المكان، فرك الرجل عينيه، تأكد أنه لا يحلم، انتابته مشاعر متناقضة، أفكار رهيبة، مزيج من الخوف والرجاء، حاول أن يستوعب الموقف، لم ينجح، ولكن المرأة كانت قد حسمت الموقف.
– تفضل، زيد ادخل!!
لم يجب، وقف جامدا مثل تمثال، تردد للحظات، ثم دخل.
كانت المرأة قد هيأت حماما دافئا، مناشف نظيفة، وعشاء فاخرا لضيفها العابر الغريب، هذا النوع من الطعام الذي يعتبره الفقراء وليمة.
تحصن الرجل بالصمت.
لم يكن الكلام ضروريا، فالإشارات تكفي، كان صهيل الرغبة يسمع من بعيد، اقتربت منه بهدوء عاصف، كانت أنفاسها محمومة وقوية، استدرجته بهدوء إلى الأرض العطشى، الأرض اليباب، كانت حياة الوحدة والحرمان قد حولتها إلى جمرة مشتعلة وحارقة.
فجأة استيقظت حواسها كلها.
تسلقته صعودا وهبوطا، ثم في لحظة ما، اختلطت عليها الألوان، أبيض، أسود، أزرق، أحمر، ثم أبيض، أبيض، أبيض…
تهذي، تتوسل إليه برقة، تأمره بقسوة، تبكي، تضحك، تصرخ.
تغرق، تغرق، تغرق، يسمع أنينها يملأ المكان.

كان الرجل عاجزا ومشلولا تماما، فقد تملكه الخوف وحوله إلى جثة متخشبة بلا روح.

لم يبق من الليل إلا هزيعه الأخير عندما أيقنت المرأة أخيرا أنها تنفخ في حفنة من رماد، وأن الحياة لا تعود للموتى.
ارتسمت على وجهها الخطوط الأولى لتعبير قاس وغامض، شيء يشبه الندم ورثاء الذات.
تخاطب نفسها.
– الأشجار الميتة لا تمنح ظلا!!
كانت رغبتها الملتهبة قد بلغت منتهاها، ثم في نقطة ما بدأت تنحدر تدريجيا، تخبو، تنطفئ وتهوي إلى قرار سحيق.
تملكتها مشاعر قوية وقاسية، مزيج من الحرمان، والغبن، والحقد والغضب.
أمسكت رأس الرجل بقوة وراحت تدقه بعنف إلى الجدار الحجري، وفي كل مرة كانت تقترب منه، وتوشوش له كلاما قاسيا وجارحا.
– (أركاز اللاروب)، أنت رجل إلا ربعا، ناقص وحقير، أين رجولتك أيها المخصي، لست أكثر من جثة ميتة، لم لا تدفن نفسك، تريح وتستريح…
تألم الرجل، أحس بالمرارة.
في قرارة نفسه تمنى لو يموت فعلا.
فكر في الدفاع عن نفسه، فكر في أن يعتذر لها عن الخوف والعجز والشلل، أن يقول أي شيء، لكنه لم يجرأ على الكلام.
ثم، أخيرا رحل، رحل حزينا يائسا ومهزوما.

لاحت التباشير الأولى للصباح، خلف الجبال ترسل الشمس أشعتها الدافئة، وترسم بداية شفق جميل صامت وحزين.
تعود الحياة إلى تفاصيل المكان، دواجن، حمام بري، كلاب، رعاة، وماشية تسير في اتجاه البحر.
تنشر المرأة غسيلها على الأشواك، تنظر بعينين حزينتين إلى الطريق الأفعوانية.
في الأفق كان الرجل قد تحول إلى نقطة سوداء، تتحرك، تبتعد، وتختفي تدريجيا.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

الجازية