أبو العمدة

محمد فيض خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فيض خالد

في فناءٍ متسع براحه ممتد تحيطه أسوارٌ عالية من اللَّبن، وتحفّه أشجار الكافور العالية تحجب كُلّ شيء، ترابط المدرسة الإعدادية في صفرة لافتة، تبعد عن قريتنا مسافة طويلة، بالجملة أذهلني كل شيء هناك، ولكن ما شدني أكثر تصرف عامل المدرسة العجوز “أبوالعمدة ” فعدم اكتراثه بالمسؤولين مبالغ فيه، جاموسته المسنة ترعى في ارتياح فوق بساط الحوش الأخضر، تتناثر فضلاتها تملأ الأرض، أما حماره الهزيل فنهيقه لا ينقطع، لا يفوقه غير صياح صاحبه يتطاير يغُرِق الفصول، وشتائمه الصَّريحة لا تصدّ ولا تردّ.

حتى الآن لم يتكشف مصدر قوته، يقول عبدالكريم أمين العهدة: “إن ابن عمه مسؤول كبير في مكتب المحافظ”، لم ترهبه تهديدات الناظر ولم تخضه، فتوجيهه رغم صرامته بأن يخلي المدرسة من حيواناته تذهب أدراج الرياح، ذات صباح أشرف حضرة الناظر من شرفة مكتبه، لوح بكاميرته الخاصة ممسوح الأسارير، وبدأ فلاشها يقدح الشرار، لكن صاحبنا لم يعبأ به، بل تقدم في سكون يحمل جردل الماء، وقف أمام جاموسته المدللة علوا في التجاهل.

مرت الأيام سراعا، حتى كان ذلك الصباح الذي تعالت فيه ضحكاته مع الناظر مجلجلة، وقد استغرقا في نكاتهما البذيئة، وأكواب الشاي تتوالى في ود، أدرك المتربصون أنه لا فائدة في التخلص منه، فهذا حاله مع كل نظار المدرسة، ما إن يحتدم الصراع، حتى تطفئه رشقات الشاي وأنفاس الدخان اللزجة، والحق يقال فرغم مهابته، وحدة مزاجه، فإن لكرمه مفعول السحر، خاصة مع القادمين من البندر، فيده ممدودة سخية، يغدق عليهم من لذائذ الريف الوفيرة، من الزبدة والجبن القديم والعجوة وحزم الثوم وخلافه، وأحيانا السلف بعيدة الأجل، يعجب  الجميع، لكنهم يكرهون فيه عجرفته وهندامه المبالغ فيه ، وقريبه الذي يركن إليه، ولقبه الذي يشعرهم بالدونية والضآلة، فهو في مرات عديدة أشهر من ناظر المدرسة، هو ابن وحيد لعمدة سابق، نذره للوجاهة من بعده، لكنه خيب ظنه، واكتفى من دنياه بوظيفته على دناءتها، وميراث أمه الوفير..

كنت كغيري نخشاه أشد خشية من المدرسين، نكره لقياه ونفزع لمرآه، مع أنه لم يصب أحد منا بسوء، بل كان كثير التلطف مع الغرباء أمثالنا، كبرت وألفت الذهاب للاستحقاقات الانتخابية وما أكثرها، تحتضن مدرستنا لجان الاقتراع، فما إن أتخطى البوابة الرئيسة، إلا وصوت الرجل يشرخ طبقات الصمت المطبق، تسري قشعريرة طارئة في بدني، استحضر هيئته المروعة، لكني اطمئن نفسي بابتسامة مرتجفة، فلا وجود اليوم لصاحبي، فقد طواه النسيان..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون