الحدود   

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي هاني

لا جرحاً حاداً كإرادة الإله    

                    _Lingua ignota.                                 

كنت معلقا من أسفل قدمي اليسرى، عاريا تماماً، أسفل السحب بمسافة قصيرة.. كان الحبل سميكا مربوطا بعناية، يمتد من السماء لا أعلم من أين يبدأ، لكني كنت أعلم أنه سيأتي وقت وتتفكك تلك الخيوط المتشابكة واحدة تلو الأخرى، ورأسي سترتطم بقوة الأسفلت، كل ما أردته أن أستر عورتي رغم أنني كنت خارج مرمى البصر، ربما بين الدقيقة والأخرى لمحت طيفا بشريا، لكن لم يرفع  أي منهم نظره نحوي، أو ربما لاحظوني ولم يرد الإمعان ضعفا أو شفقة أو تقززا، ثم لمحت بعض الملائكة تحوم حولي تحجبها السحب بطبقة خفيفة وأجنحتها البيضاء تخفق بعنف وصل إلى نبضات قلبي، كلما سرقت نظرة نحو وجه واحد  منهم وجدته مبتسماً ابتسامة راضية لا تمت لي بصلة، ثم حدث ما كنت أنتظره، بدأت الخيوط تنقطع، ببطء واحدة تلو الأخرى، أغمضت عيني وانتظرت المحتوم، حتى شعرت بوجوده، قلبي صمت تماماً واختبأ داخلي، انفتحت عيني عن آخرهما تلقائيا كأن رجالاً أشداء يشدون جلد وجهي من الطرفين، وضعت يدي فوق فمي حيث كل جزء مني يصرخ بي بأن اصرخ،  النفس أصبح يخرج بعنف غير مكتمل، رأيتني من عينيه.. تمزقت من داخلي كأن الأرض هي من صعدت إلى جسدي ودهسته.

بدأت في تثقيل وزني قدر المستطاع، مسعور كالعداء وهو يركض، أحمل الوزن علي قدمي ثم أرخي أعصابي، بدأت الخيوط تنفصل إلى نصفين، لم أرد أن أفكر في توابع أي شىء.. فقط أغمضت عيني عنوة حتي وجدتني كالسيف أقطع الهواء بجسدي، اردت فقط أن اركز نظري علي نقطة ما، لكن السقوط كان بسرعة مرعبة وجسدي يتحرك يميناً ويساراً لا يثبت في موضع واحد، ومع ذلك شعرت بالأبدية تمر وأنا اسقط دون وصول، قد استمر حتى أصبح كل ما أعرف، إلى أن وجدتني أدخل في ستار هائل وضخم من الدخان وانعدمت الرؤية وشعرت كأنني اسقط  داخل أحشاء واحد من العمالقة، ازداد جهلي جهلاً وضعفاً حتى تبلور السؤال بداخلي، هل وصل الدخان إلى السحب؟

وقع الارتطام وكنت لم أزل مغمض العينين، خفت أن افتحهما وأرى جسدي يبعد عن رأسي بسنتيمترات خاصة وأني لم اشعر بأي شيء، فتحت عيني وكان كل جزء في مكانه يدي متصلة بذراعي، ورأسي لا زالت مثبتة فوق كتفي، وقدمي بالأسفل منبثقة من مؤخرتي.. أعطى مخي الأمر لها أن تتحرك فتحركت و كأن شيئا لم يكن.

نهضت محاولا تنفيض الأتربة من جسدي لكنها التصقت واندمجت مع الجلد، وضعت كفي فوق عورتي وبدأت المشي فوق طريق طويل يمتد إلى الأفق،  رمال الصحراء تحاوطه من الجانبين والدخان يختبئ خلفي، كنت لا أزال لا أفهم.

مشيت إلى أن ظهرت المدينة وبدأ سكانها في الظهور ينظرون قليلا ثم يحركوا أنظارهم، لم يريدوا جرح مشاعري، كانوا يعلمون ربما

وصلت إلى ميدان سانت فاطيما حيث يسكن صديق لي، تعرفت على العمارة بمعاناة حيث كان قد مر ما فوق الخمس سنوات منذ أن رأيته، صعدت السلم وطرقت بقبضتي على الباب بأدب، فتح الباب ونظر إلى بعين فارغة.. وكنت مبتسماً بلزوجة انتظره أن ينفجر ضحكاً حيث لا شيء سوى هذا يفعله، لكنه لم يضحك، فقط أزاح جسده من المدخل وأشار إلى بالدخول، دخلت وانتظرت في الصالة بينما دخل هو إلى غرفة نومه غاب قليلا حتى خرج بقميص أبيض وبذلة باللون الرملي وجزمة كلاسيك سوداء ثم أشار بيده إلى الحمام.

دخلت تاركاً جسدي يهوى داخل البانيو الرخامي والمياه الباردة تعلو حتى وصلت إلى ذقني، استجمعت الهواء في رئتي و خرج الصوت مني في إحراج

_فارس.. عايز سيجارة وولاعة

فتح جزءا صغيرا من الباب وتسللت يده وحدها قذفت بعلبة كبريت ثم تبعتها علبة سجاير كمل اصفر تكتم الأنفاس ثم أغلقه مجدداً

أخرجت السيجارة و تحسستها بأصابعي ثم أطبقت عليها بأسناني خوفاً من أن تسقط في المياه وتتلف، احتك عود الكبريت بعلبته وأشعل السيجارة ثم ارتخت يدي وسقط بجانبي.

أنهيت السيجارة في أقل من دقيقة ربما، شعرت بالتنميل يتأنى خطوة تلو الأخرى في جسدي حتى غفوت لنصف ساعة

نهضت وارتديت ما أعطاني من ملابس وحشرت القميص داخل البنطلون والسجائر في الجيب الخلفي وخرجت كي أشكره.. كان واقفاً أمام الشرفة نصف جسده العلوي خارج منها

ـ أنا هاخد السجاير كمان ماشي؟

لم يرد.. دققت فيه.. فوجدت جسده يرتعش، كتفه يعلو ويهبط رغما عنه.. وصوت البكاء يخرج مكتوما متقطعا.

لم أقل شيئا، فتحت الباب مغادراً إلى شقتي.. نسيت أنني لا املك جنيها في جيبي لكن لم اكن لأعود تحت أي ظرف، ربما إلى الأبد.

سرت على قدميّ حتى وصلت، لم يكن معي مفتاح بالطبع فدفعت الباب بكتفي ثلاث مرات حتى استسلم، دخلت ثم أغلقته بكرسي انتريه ثقيل قضى على ما بقى في من نفس لكنه ادى وظيفته، أضأت نور الصالة فغطى اللون الأصفر كل شىء حولي، خطوت خطوتين تجاه غرفة النوم حتى سمعت صوت مفتاح يعالج كالون الباب.. أزحت جزءا من الكرسي فدلفت سارة تحشر جسدها من الفتحة بملابسها الذكورية التي لا تعرف أي شىء عن الأنوثة عكس جسدها تماماً

نظرت إلى الكرسي

ـ إيه ده؟

ـ نسيت المفتاح فكسرت الباب

ضحكت فأدخلت بعض الراحة إلى قلبي، دفعت الكرسي إلى مكانه بينما تقدمتني هي إلى غرفة النوم:

ـ مجيتش البروڤه ليه النهارده؟

قالتها وهي تخلع ملابسها.. بشرتها البيضاء التي تلتهم العين لا العكس أنستني الكلام حتى عدت إلى الوعي:

ـ كنت متعلق من رجلي في السما

لم تضحك هي الأخرى، رغم ـنها تضحك على أي شيء أقوله.. فقط نظرت إليّ نظرة طويلة.. نفدت تحت الجلد وعرفت أين تقبع روحي.. غابت ملامحها لا تريد النطق ثم دفنت وجهها في الأرض وأكملت خلع ملابسها واختبأت تحت البطانية.

خلعت ملابسي وصعدت فوقها، أقبل كل ما أجد فيها، الفم والعينين والرقبة.. أمر بلساني فوق أذنها، وهي تتحرك كمن يقفز فوق الموج ويهبط بهدوء في مكانه، دفعتني من فوقها برقة ثم صعدت فوقي اتبعت خطواتي ثم فردت جسدها كالطاووس عندما يكشف عن جماله وألوان ريشه، تحركت بإيقاع بطيء ويدها تزحف فوق جسدي، وارتفعت يدي تجذب شعرها حتى خرج البعض وظهرت فروة رأسها، وصلت يديها إلى وجهي تتحسسه، أغلقت عينيّ ثم بدأت تضغط عليهما تدفعهما إلى الداخل حتى انفجرتا، استمرت في ما تفعل حتي شعرت بأظافرها الطويلة تخدش عظام جمجمتي، سالت الدماء في كل جوانب وجهي ببطء لا تعرف أين تذهب حتى عادت داخلي عن طريق فمي.

انتهينا وزحفت إلى الجانب الاخر من السرير تبعتها وأحطتها بذراعي، أرخت رأسها فوق كفها وابتلعت جسدها في وضع الجنين موجها رأسها إلى الجانب الاخر لا تعبأ بأنفاسي وهي ترتطم بها، وجدت عينيها عن قرب في صور متقطعة مخيلتي تحاول جمعها، العين الواسعة التي قطع بياضها خطوط هزيلة حمراء، البؤبؤ متسع لكن لا يستطيع الكشف عن ما يقف أمامه، نهضت رافعاً يدي أمامي أتحسس طريقي، أستمع إلى صوتي داخل رأسي يحدثها بأسرار لا علم لي بها.. ثم صمت.

اتجهت إلى الأجزخانة التي تقبع خلف مرآة الحمام، فتحتها ثم أخرجت الشاش والرباط الطبي ولففتهما حولي رأسي لوقف النزيف ثم اتجهت إلى المطبخ للبحث عن شيء يؤكل.. أخرجت رغيفا وقطعة من اللحم منسية في الثلاجة ووقفت أفكر في أنني أخذت كل ما يمكن أن يؤخذ من هذه الحياة في لحظات، عدت إلى الغرفة مسرعاً، ارتديت بذلتي، عدت إلى الشارع تاركاً الباب مفككا، بخطوات لا ترى ما أسفلها، أريد العودة إلى النقطة التي جاءت منها، لا أستطيع ملاحقة أنفاسي، جسدي ينتفض كأن يد مغتصبة تتحسس جلدي، ترتطم قدمي بالأرض فتجد قطرات مياه تدهس ثم تتحول إلى بركة تبتلع الحذاء، ثم تقفز فوق ملابسي و أناملي،  وتصبح

الراءحة هي أنفي، رائحة دماء أناس أرادوا ايضا أن يفهموا.

سمعت صوت الدماء تتحرك فزعا من أقدام تركض باتجاهي حتي أمسكت يد ما بذراعي الأيسر تعتصره دون أن تفلح في إيقافي فمشت بجانبي، وخرج الصوت من فم عجوز مصحوب بأنفاس تبغ الأرض يحاول أن يمنع المصيبة قبل أن تحدث

ـ هتلف في ارض الله ذهاباً و إياباً، وتطلع السما وتنكرش منها، وتطرح لك مائة جوز من الأعين وتنفقع و مش هتفهم، سيكافأ الطيبون بالجنة، ويعاقب الخنازير بالنار، ملكش دور في القصة.. متبقاش بجم

ثم تركت يدي مستسلمة و لم أسمع لها حركة. لم أبطئ حركتي حتى، أردت أن أصدق انني فقدت السيطرة على جسدي لكن الكذب على النفس ساذج يقع ميتاً بعد ضربتين، في التوقف خيانة وفي الحركة جهل، والدماء قد وصلت إلى ركبتي تحاول منعي من أخذ الخطوة المقبلة، بل حاولت إسقاطي لكني رفضت وبقيت في تفريقهما ليعودا من خلفي و يندمجا مرة أخرى.

وصلت إلى وجهتي، انتظرت لحظات حتى وجدت الحبل يدس في يدي، ربما إبليس، ربما الملائكة، ربطته حول معصميّ ووددت لو أفك خيوطه وربطها في عروق يدي كي لا أتراجع، بدأ يصعد بي والأرض تبتعد والدماء تغادر ملابسي في رثاء إلى الأسفل مع بقيتها، صمت الكون يراقب، يتعجب، لست الاول ولا الأخير، دائرة تنتهي مع الشمس و القمر والحياة بأكملها، الاعتراض لن يغير شيئا، لكن هذا الجنون.. يجب أن يجد مجرى له.

المسافة طويلة، الحبل يصعد ببطء، ينتظر شيئا ما أن يكتمل، يريد أن يرى حدودي.. يمكنه أن يلعب كما يريد، سأصل وأن كان اليوم مثل أيام الإله، وهل سيقطع طريقي شهب من السماء؟ ما في القلب أنت اعلم به مني.. ما الفارق إذا نطق به لساني، هل تتحدث؟ الصمت آخر ما أريد، وصوتك لن أحتاج بعده صوت، فقط تحدث، فقط تحدث، كيف لدموع أن تسقط من أعين لم تعد موجودة؟ انظر إليها بداخلي، لا يخفى عنك شىء، اذ أخبرتني ماذا أفعل سأفعل، أهو خوفي الذي يقف حاجز بيني وبينك؟ هل الخطوات لا تقطع اليك به؟ وكيف اتركه؟ وجوده كوجودك. حتمي و يقيني به كيقيني بك، ام هكذا سولت إلى نفسي؟ انت دائم لا تغادر و هذا حق، لكن اين ابدأ أنا؟ الخوف بُصلتي اليك ام طريق اصعب من السماء و اكثر غموضاً يفصل بيننا؟

أحقا تؤمن بقدرتي على الوصول إلى الإجابة وحيداً؟ وإن خرج من بين أكتافي لألف رأس.. لن اقدر، كيف و رائحة العفن تفوح من الناحية التي خلقت بها قلبي، كيف افصل الظاهر عن الباطن؟ قد توقف الحبل، لا صوت هنا كالحياة قبل الخلق، أتلفت حولي عبثاً كأن لعيني أن ترى شيئا، لا اريد أيا من هذا، استجمعت قوتي، تنفست الخوف وأخرجته، استعددت لصرخة اعتراض لم تصدر في الارض قبل السماء. لكن لم يحدث شىء.. الصمت بقى، بينما صوتي تُرك مفقوداً في الارض، ربما هو في ما بعد الحياة، لم يجد حجتي كافية كي يخرج، تشنجت عظام وجهي، أسناني ترفض الابتعاد عن بعضها مهما حاولت، لساني يترجى يدي أن تمتد للداخل وتقتلعه.. حتى شعرت بكيان يتحرك بسرعة لا يدركها عقل حرك الهواء بعاصفة أجبرتني على الرجوع خطوات للخلف ثم بنصل خنجر يخترق طبقة أسفل بطني.. خارت قوتي، سقطت فوق الارض مهزوماً و الدماء تخرج فوق باطن يدي وشىء ما بجانبها من رأسي.

عدت إلى الارض، سالكاً طريق المنزل إلى أن وصلت، ارتميت بجسدي فوق الكنبة، الكروان يردد الدعاء الذي تعلمه، فرددت معه بإضافة من عندي

“الملك لك يا صاحب الملك

وكلي لك يا صاحب الملك

تفعل بي ما تريد

وما يرضيك عني”.

 

مقالات من نفس القسم