وهنا تكمن عدة تساؤلات: هل معنى الثورة ينحصر فى وقائعها وأحداثها السياسية والاجتماعية؟ هل تصير “الثورة”، فى حد ذاتها، “جمالية” من جماليات الفن؟ وهل تصبح الأعمال الفنية ذات قيمة تحررية أو ثورية بحديثها عن الثورة و بأقوالها الراديكالية أم بشكلها والتقنيات التى تختارها وتقوم عليها كإستجابة للواقع المادى أو الوضع القائم ( حتى فى حالات التخييل والفانتازيا)؟
هل أوجدت الثورة جماليات فنية أخرى للمقاومة وسيرة جديدة للتمرد؟
يرى البعض أن ما يستتبع الثورة من طرائق فنية للكتابة وأساليب نوعية سوف يحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى تتكشف الرؤى، وتتم الإحاطة بالأحداث المتلاحقة والتحولات والتوترات المتصاعدة، وتكوين وجهات نظر فريدة ومتعددة تنتهك الرؤى النمطية والسرديات التى يتبناها الجميع؟
إذن، هل تكتفى “الكتابة” مؤقتا بالرصد المباشر والتوثيق وتدوين الوقائع والمشاهدات والأحداث؟ أم كاستجابة سريعة للأحداث نلجأ إلى استعادة أعمال بعينها؟
●●●
يفتتح الفيلسوف الكبير سلافوى جيجيك كتابه “سنة الأحلام الخطيرة” ، والذى يتحدث فيه عن أحداث عام 2011م ( الربيع العربى وكافة الحركات الاحتجاجية فى مختلف بلدان العالم مثل “احتلوا وول” ستريت وغيرها)، بالتعبير الفارسى الرائع : “ور نام نهادن” .. ويقول أنه يعنى: “أن تقتل شخصا، وتدفن جثته، ثم تُنمى زهورا حول جثته لتُخفيها”.
ويبين أن المهمة الأولية للإيديولوجيا المهيمنة كانت ” تحييد البعد الحقيقى لهذه الأحداث”، وكان رد فعل الخطاب الإيديولوجى للأنظمة نوعا من “ور نام نهادن” حيث ” قتَل التحرر الجذرى الكامن فى الأحداث، ثم نمى الزهور حول الجثة المدفونة”.
لكن بعض الأعمال الفنية تكمن فرادتها فى طاقتها على بعث تلك الجثة، و قدرتها على عدم الانخداع بمنظر تلك الزهور، والقبض على الجذر الكامن للتحرر، واقتفاء أثر القاتل. استعادت الذاكرة والذائقة الأدبية أعمالا بعينها فى أيام الثورة الأولى والشهور التى تلتها: أشعار أحمد فؤاد نجم وأغانيه مع الشيخ إمام، الأبنودى و “أحزان عادية”، أمل دنقل وكعكته الحجرية، أصبحت الطبعة الجديدة من رواية جورج أورويل الفريدة 1984 فى كل المكتبات وعند باعة الصحف والمجلات، أعاد الكثيرون قراءة “الحرافيش” لنجيب محفوظ .
هل من الممكن تسمية هذا بالتنبؤ؟ أم أن الفنان فى تفاعله مع الحدث ينتج صيغته الجمالية الخاصة، والتى يستخدم فى التعبير عنها طرائق لغوية وأسلوبية فريدة، تجعل رؤيتها شديدة الصدق والنفاذية، وبالغة الأثر فى عملية التلقى. توهبها طزاجة وتجدد وكأنها كتبت للتو. فمثلا، عند أحداث مجلس الوزراء فى ديسمبر2011م، ظهر بعدها غلاف جريدة أخبار الأدب وهو يحمل أبيات أمل دنقل من ديوانه “تعليق على ما حدث”:
قلت لكم مرارا…
إن المدافع التى تصطف على الحدود، فى الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء
إن الرصاصة التى ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لاتقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا وتقتل الصغارا !
يبدو التنبؤ ، كمعطى أو معنى ميتافيزيقى، واهنا أمام اختيار الشاعر أو الفنان الصدق، وأن يبتعد عن سرديات الجوقة، وأن يكشف عن منظور ذاتى وفريد للعالم، يقبض من خلاله على مفهوم القمع فى تماثلاته داخل الأزمنة المختلفة، التى تتماثل بتماثل القمع فيها.
ما فعله جورج أورويل هو محاولة تخيل المستقبل عن طريق ابتعاث وتغير وتجميع صور يعرفها مجتمعه من قبل معرفة واعية أو غير واعية، كما يوضح ديفيد لودج. فى الحرافيش و دواوين أمل دنقل وأشعار الأبنودى توظيف للعناصر القصصية الجمعية المستمدة من القصص الشعبى والدينى ومن الحكايات التراثية، والكتاب المقدس، و”إعادة صياغة لأساطير الخلق والسقوط والطوفان، والمخلص الإلهى”. وهو ما يبين فرادة تلك الأعمال وقدرتها التعبيرية عن التوق الإنسانى الدائم إلى التحرر، وتناقضات النفس الإنسانية،الأمل واليأس، ورفض تبديات القمع المختلفة.