لا زبائن في صباح شتوي قاسٍ كهذا.
يبدوا أنهم يغطُون في نوم عميق تحت أغطية شتوية ثقيلة ، حتى أحذيتهم المُتعفنة تكون نائمة في مكان دافئ يقيها من شر الشتاء . . يا للسخرية !
وأنا أداوم مهنتي منذ السادسة صباحاً ، يكاد جسدي أن يتمزق من قسوة الشتاء عليه
حسناً ، أبدأ يومي بهُتاف غاضب ، يخفف عليّ سخرية الأقدار التي تلازمني .
– ورنِّش ، ورنِّش ، ورنِّش ..
أمسكُ بيدي اليسرى كيساً أبيض بداخله أواني المهنة ، علبة الورنيش تُصافح قطعة الإسفنج ، واللماع يُداعب صدر الأحذية القديمة والمتعفنة عند كُل صباح.
وبيدي اليمنى براءة اختراع لن تُسجل ، آلة موسيقية تُدَوزِن نَغم مِهنتي ، صنعتُها من أغطية مشروباتهم الزجاجية ، أهزها بيدي فتصدر أنغاماً محببة الى قلبي . لكنها قاسية على قلوب زبائني.
– كٌف عن الضجيج ، وإلا حبستك في زنزانة المشردين ..
إنه صاحب المقهى دائماً يأتيني صوته صاخباً ، مُتذمراً ، يهددني بتلك العبارة كلما أوغلت في المسير وسط زبائنه أتوسلهم كي ما أنظف أحذيتهم الفخمة . لم أكن أحصل على حذاء .. كان يتلذذ بطردي من المقهى وسط ضحكات الزبائن . وفي حضرة رائحة طعام شهية تنبعثُ من مطعم يجاور المقهى.
لا .. هل قلتُ رائحة الطعام ؟ !
هل هذا وقتُ الطعام ؟ لا أملك الآن في جيبي سوى حجر !
والجُـوع كائن أصفر اللون ، مُفترس بلا رأفة ، شيّد مسكنه بداخلي بعد أن التهَّم ثُلة العصافير التي كانت تضحك في بطني كلما نفد الغذاء.
كـاد الجوع أن يقضي عليّ يومها ، كانت ليلة مشئومة ، حين صارعني بعد أن كان يصرخُ بأعلى صوته ، حاولت أن أتماسك حينها لكن دون جدوى ، أسقطني أرضاً ، كان البرد حليف الجوع يومئذ في تلك المعركة ، ولم يكُن لي من حليف سوى الحظ الذي جلب احد سكان المدينة واصطحبني إلى المشفى في ذلك المساء ؛ لولاه لكُنت الآن أغطُ في نوم عميق تحت تراب هذه الأرض التي تكتظ بالجوعى وبحلفاء الموت الأشرار.
لو خلا الليل من أيامنا لكُنت قد عشتُ متماسكاً دون أن أُبرم معه أية اتفاقيات .
لامناص إذاً ؛ فالبرد قارص ، ومخيف جداً ، وبقائي صامداً على سطح هذا الكوكب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتخلص من الجوع كأساس للانطلاق نحو صناعة حياة أفضل أكون متماسكاً فيها بالقدر الذي يوفِر قطعة خُبزٍ لي ولأخوتي الجوعى على أرصفة المدينة .
أقنعتُ الجوع بعد جدال كثيف بأني سأوقع معه اتفاقية أكون بموجبها متماسكاً ، ولأضمن قطعة خبز يومية لي ولإخوتي تبقينا أحياء صامدين .
عرضتُ عليه اتفاقية (الغذاء مقابل الصمود)، وبالفعل اتفقنا، لكنه كان منذ يومها يتضجر ويتذمر كلما تأخرت في تنفيذ البنود .
يخاطبني بصوته المتضجر الذي يَدُك حُصون بطني :
– لن تقوى على المسير إن لم تتعجل في تنفيذ بنودنا التي اتفقنا عليها.
– ستموت واقفاً في هذا الشتاء ..
ما أصعبه من موت كلا ..لن أموت واقفاً ، كلا لن أموت هكذا .. أقول في نفسي ..
ونفسي التي باتت تصارع هوى نفسي تأبى أن تموت ، وأخرى تفضل الموت من هذا الضجر . لكنني أنصاع لمطالبه في نهاية المطاف حينما أفكر ملياً في مصير إخوتي الذين يتوسدون أرصفة المدينة يغرقون الشوارع بالدموع .
– بدلاً من فتات الخُبز ، ستأكل وجبة كاملة في كل يوم .. يقول الجوع.
– لا ، لا أملك ثمن الوجبة ، سأكل قطعة خبز واحدة .. أقول أنا ..
– إذاً ستموت واقفاً ..
– حسناً ؛ سأتناول الطعام كما اتفقنا ، وستقدم لي مايقيني من شرور الموت وحلفائه في هذا الشتاء .
– لن تنجو من برد الشتاء ..
– دعك منه ، سأقاومه إن لم تخرق عهدك معي ..
الليل كائنٌ أعمى متوحش بلا رحمة أخشى قُدومه في كُل يوم خاصةً في أيام الشتاء القارص ، الشوارع تكون باردة وجوالات “الخيش” التي أتوشحها صباحاً تكون كما قطعة صغيرة أمسك بها ليلنا الأعمى ويوشكُ على التهاما في سواد الفناء المظلم .
وإخوتي الجوعى الصغار يغرقون شوارع المدينة بالدموع ، لايتوسدون سوى التراب ، لايحلمون سوى بقطعة خبز تبقيهم احياء صامدين .
يكون الليل قد غزى شمس المدينة ويكون الجوع مثل بقية الاشرار في هذي المدينة قد نقض اتفاقه معي بعد أن أهديته قطعة خبز يابسة كما نقض عهده مع كُل الكائنات الضعيفة .
ثُم مضى يبحثُ عن حلفاء آخرين.
صاحب المقهى يرتدي معطفه الأنيق ، يمسك قداحة سوداء فاخرة ، وسيجارة أشعل بها ناراً في قلبي .. وقد صوَّب نحوي نظرات الاضطهاد البغيضة بعد أن أيقظ موسيقى الجُوع من نومها على مسرح مساء شتوي قُدِّر لي أن أكون ضحيته.
ترنحتُ أنا في الدروب راقصاً على أنغام موسيقى الجوع، وتوشحت جوال الخيش ، وضربت بآلتي الموسيقية جرساً أخيراً قبل أن اسقط.
– ورنِّش ، ورنِّش ، ورنِّش.
الموت أهون من حياة الجوع .. سيظل قلبي ينبض من تحت الأرض للأطفال في أرصفة المدينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قاص من السودان
خاص الكتابة