عبد القادر القادري
– «مجرد هذيان..».
قالها في نفسه وهو يضع القصة جانبا على الطاولة، بعد ان تعب من القراءة.. فقد إبراهيم القدرة على التركيز.. مضت أيام طويلة وهو يبحث، بلا جدوى، عن حدث يصلح لأن يكون موضوع قصة.. جف القلم واعتراه الخمول.. مزاجه تغير.. غابت عنه الفرحة.. حالات من الشرود تحاصره بين الفينة والأخرى.. وصارت الكآبة ظلا لا يفارقه منذ أن ترك أهله في القرية وجاء إلى المدينة ليشتغل معلما بمدرسة الحي.. عرف بالاستقامة والإخلاص في العمل.. لا يغادر بيته إلا لزيارة أهله، أو لملاقاة أطفاله ألصغار في المدرسة.. زملاؤه في العمل يلقبونه «بالرجل المعتكف » لكثرة الوقت الذي يقضيه في بيته هائما بين أكوام الكتب و الاوراق..
جال ببصره في أرجاء الغرفة: ليس يرى غير هذه الكتب المكدسة التي علاها الغبار، وهذه الصور الباهتة التي تزين الجدران، وتؤرخ لبطولات قديمة..
النهار يبدو شاحبا بعد يوم عاصف حزين.. والشمس خجولة محتشمة بدأت تنشر أشعتها الخريفية.. وهدوء الصباح أخذ ينسحب ليترك المكان لصخب الأطفال وهم يلعبون في الشارع..وتساءل إبراهيم: «أي شعور غريب هذا الذي يأسره..يحاصره ويفقده لذة الكتابة ؟..» لطالما حاول أن يطرد عنه هذا الشعور.. ولطالما أتعب نفسه وملأ رأسه بعناء التفكير بحثا عن موضوع للقصة.. ولكنه ظل جهدا ضائعا بلا فائدة.. أصدقاؤه في المدرسة نصحوه بالإدمان على القراءة.. ويأتيه صوت من الأعماق: بل هرمت ايها المعلم، وصرت تدمن الكسل والخمول.. فماذا تظن؟ أتحسب أن القصة درس تلقنه للأطفال الصغار مثلما كنت تفعل دائما؟ كثيرة هي الأشياء التي تغيرت. وتغيرت أنت كذلك.. تلاشت أفكارك وانكسرت أحلامك، ولم تعد تقوى على القراءة أو التركيز.. فاطرد عنك شبح الكآبة، وعد إلى نشاطك القديم..».
ظل شاردا، وفجأة سمع طرقات على الباب فانتصب واقفا واخذ يخطو ليعرف من الطارق..
وقف ساعي البريد محملا بكومة من الرسائل، يسلمه ورقة صفراء وهو يقول:
-هذا إشعار لك يا أستاذ بوصول رسالة بالبريد المضمون..
تسلم إبراهيم الإشعار..تأمله جيدا..فطافت بخاطره كلمات صديقه العياشي:
– سأكاتبك حالما أصل.. سأحدثك عن وصولي. عن مقامي بمدينة الأنوار كما يسمونها. سأكاتبك حتما..
بذلك وعده صديقه متحمسا في آخر لقاء جمع بينهما قبل شهرين.. كانا صديقين جمعتهما الدراسة بالجامعة سنوات..لكن طموح العياشي تجاوز كل حد فقرر ان يترك مهنة التعليم، ويلتحق بإحدى الجامعات الفرنسية لمتابعة الدراسة في علم النفس..وهكذا عزم أن يرسم لنفسه مسارا آخر، بعيدا عن التعليم، يحدوه الامل في غد مشرق ومزدهر..
-لاشيء..لاشيء..يا أخي..حروف وكلمات تكررها..كل يوم..وبعدها التقاعد أو الفناء..
كلمات العياشي كانت تفيض يأسا وغضبا، وهما يغادران فضاء المدرسة..وفكر إبراهيم كأنه يعاتب نفسه:«وأنت..أنت ايها المعلم..ماذا صنعت؟ تجتر همومك اليومية مع الأطفال في المدرسة، وتعلك أوهامك مع القصص والحكايات..».
في المركز البريدي وقف ينتظر تسلم الرسالة..اقترب من الشباك ومد الورقة الصفراء لموظف البريد..وبعد لحظات وجد نفسه واقفا، يتأمل الرسالة بين يديه ويقرأ: دعوة الحضور لتسلم الجائزة، بعد أن فازت مجموعته القصصية الأخيرة بالمرتبة الأولى في مسابقة للقصة القصيرة نظمها نادي «القلم الأدبي» بالرباط.
-« أيكون الخبر مجرد هذيان؟..»
قالها في نفسه مبتسما، وهو يخطو خارجا من المركز البريدي.