عبد الرحمن أقريش
الأصيل،
يوم من أيام يونيو الحارة.
في الخلفية تمتد غابة الأركان، ترسم خطا لأفق لا نهائي، يعم صمت رهيب، تهب ريح خفيفة من جهة البحر، يسمع هديره من بعيد.
في مجرى الساقية يندفع الماء قويا، ينزل شلالا سخيا، دافقا، يمتزج صفاءه بخيوط الشمس، يستسلم (المامون) لقوة الشلال، يغمض عينيه، يغمره إحساس جميل ودافئ، تمتد يده، يمسك التميمة المشدودة إلى عنقه بخيط حريري أبيض، يتحسسها، يبدو مترددا للحظة، ثم يفك الخيط المبلل في حركات هادئة، ينتزع التميمة من غلافها، يفتحها، ينظر إليها بعينين شلهما الماء وضوء الشمس، يقرأ الآيات القرآنية بصعوبة، يقرأ الجداول والطلاسم بصعوبة أكبر، تلاعب الماء بالحبر، وامتزجت الكلمات بالأرقام والخطوط.
…
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.
في كل مرة يستعيد فيها (المامون) قصة التميمة، يبتسم بداخله، تجتاحه مشاعر غامضة، شيء يشبه الحزن، والندم، ورثاء الذات.
لسنوات كان الأمر غامضا ومستعصيا، لم ينجح والده في فهمه، بدا له وكأن روحا شريرة قد استوطنت روحه وجسده، وكان يعتقد أن تلك التميمة سوف تعيد إليه ابنه الطيب، الجميل والهادئ، وأنها بدون شك، ستخفف من جرعة التمرد وفورة الغضب التي تملكته بفعل المراهقة، ونداء الهرمونات، وجرثومة الكتب.
…
تردد (المامون) قليلا، بدا وكأنه يفكر أو يتخذ قرارا، ثم بسط التميمة في كفه اليسرى، وراح ينظر بهدوء لخيط الماء وهو يمسح كل شيء، تملكه شعور غريب، أحس فجأة وكأنه تحرر من قيد رهيب، أحس كمن استعاد أخيرا حريته.
ثم، عندما انمحت التفاصيل تماما، واستعادت الورقة بياضها، تركها تسقط، تنفلت من بين أنامله، وراح ينظر إليها وهي تنجرف بفعل التيار، تبتعد، تدور، تتوقف قليلا، ثم أخيرا تختفي.