لن تخسر شيئا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

لا شيء يميزه، فرواد المقهى هنا متشابهون، يبدو الأمر وكأنهم مستنسخون، وكأنهم صنعوا من عجينة واحدة، وجوه بلون التراب، قسمات نحتها الفقر والبؤس والعطالة المزمنة، معاطف باهتة، أحذية متهالكة، والكثير من كؤوس القهوة والشاي والسجائر الرخيصة…
ينظر إلى كأسه، يتذوقها على مضض، يرشف منها رشفات خفيفة، يفكر أنه زبون منتظم لهذا المقهى منذ سنوات، وأن آلاف الكؤوس التي تجرعها هنا كانت كلها سيئة، وأنه لاشيء يربطها بالقهوة إلا الإسم والسواد.
تذكر سجائره، أشعل واحدة، سحب منها نفسا عميقا وراح يطرد الدخان من رئتيه، يطرده من فمه وأنفه بالتناوب، ثم يرسله على شكل أعمدة قوية ومستقيمة.
نظر إلى قهوته، أبعد الكأس قليلا بحركة آلية، وقرر ألا يشربها.
خاطب نفسه بصوت مسموع.
– لن أفسد سيجارتي بهذا السائل الرديء…
أخرج أوراق التيرسي من الجيب الداخلي لمعطفه، بسطها على المائدة، ألقى نظرة على شاشة البلازما الضخمة وهي تعرض جداول الخيول المشاركة في الرهان، تأكد من الأرقام والعلامات للمرة الأخيرة، سحق سيجارته في المنفضة، أعاد الأوراق إلى جيبه ومضى.

مشى في المدينة على غير هدى، تتسارع خطواته وتتباطئ على إيقاع هواجسه التي تمور بداخله، يسترجع صورا بعيدة من حياته الماضية، منذ سنوات كان رجلا سعيدا، سعادة من النوع الذي يقنع به الفقراء، بيت بسيط في حي شعبي، زوجة وأولاد، وعمل موسمي يتوقف مرة أو مرتين في السنة.
مرت سنوات ولا شيء تغير في حياته، فقط أحلامه كانت تكبر كل يوم، كان يريد أن يكون غنيا، ويريد أن يحدث ذلك دفعة واحدة، لم يكن غبيا، كان يفهم المسألة بشكل جيد، ينبغي أن يشتغل ليلا ونهارا، وينبغي أن يستمر ذلك ما تبقى من حياته الممتدة، ولكن ذلك لن يجلعه غنيا، كان يعرف أن الفقراء يولدون فقراء، وأنهم عادة يموتون فقراء، أحيانا تتحسن أوضاعهم، يصبحون أقل فقرا، ولكنهم لا يصبحون أبدا أغنياء، وبالمقابل كان يعتقد أن فرصته قادمة لا محالة، وأنه ينبغي أن يكون مؤمنا ومتفائلا، فقط وحدها ضربة حظ قوية، رقم سحري، أو هدية من السماء يمكن أن تغير حياته إلى الأبد.
مرات عديدة، وفي أوقات الأزمات اضطر لبيع بعض القطع من أثاث البيت ليقتني أوراق الرهان، فقط أوراق الرهان، أما حاجاته الأخرى فلا ينجح في تدبر أمرها إلا بصعوبة.
دارت الأيام دورتها، فقد الرجل توازنه الداخلي تدريجيا، وبين الحين والآخر يفقد عمله ويعود إلى بطالته المزمنة، في كل مرة كان يراهن ويخسر، وفي كل مرة يعتبر أنها الخسارة الأخيرة، يخاطب نفسه معزيا.
– لا بأس، كن متفائلا، في المرة المقبلة سوف تفوز…
يحضر إلى هذا المقهى بشكل منتظم كل يوم، يأخذ وقته كاملا، يجلس هناك بهدوء، يجلس وحيدا، يضع الأوراق على المائدة، يقرأ المنشورات وقصاصات الجرائد، ينظر إلى الشاشة، يختار الأرقام، يضع عليها العلامات المناسبة، أرقام يسجلها في ذاكرته وهو يجوب الشوارع، أرقام محلات، أرقام بريد، أرقام سيارات، أرقام يلتقطها وهو عابر…
طبعا، ليست كل الأرقام تصلح للرهان، فهو لا يحتفظ إلا بالأرقام التي يلفها الغموض، أرقام تحرك هواجسه، حدوسه، أوهامه، أرقام يظن أنها سحرية، تخفي سرا مكنونا، وأنها فائزة لا محالة.

في لحظة ما، وجد نفسه أمام بوابة المسجد الكبير، توقف، رفع بصره إلى الصومعة الشاهقة، تردد قليلا، ثم قرر فجأة أن يدخل ويصلي المغرب، لا يعرف كيف خطرت له الفكرة، فقد انقطعت صلته بالصلاة منذ زمن بعيد، ولكنه فكر أنه لن يخسر شيئا.
دلف إلى الداخل، جلس مسندا ظهره للسارية الإسمنتية الضخمة، وراح يستكشف المكان، الفضاء فسيح ومريح بتفاصيل رفيعة، زرابي، مكتبة حائطية انتظمت بداخلها مصاحف مجلدة بشكل أنيق، مكيفات، مراوح، أقواس وقبب تتدلى منها ثريات ضخمة، ساعات حائطية، نقوش، فسيفساء وزخارف مذهبة…
كان المسجد فارغا، فقد غادر المصلون منذ لحظات ولم يبق إلا شيوخ مسنون، بعضهم يتكأ على السواري، بعضهم تمدد في وضعيات مريحة ومسترخية، وبعضهم يغط في نوم عميق.
صلى بمفرده، اختار سارية في الصفوف الخلفية، أسند إليها ظهره، مدد رجليه، أغمض عينيه وراح يمضغ هواجسه، يكلم نفسه، يناجيها، يكلمها بصوت خفيض يكاد لا يسمع، وبين الحين والآخر يشير بسبابته إلى الأعلى وكأنه يخاطب كائنا لا يرى، ثم جمع رجليه، جلس متربعا كما يفعل تلاميذ الجوامع، أخرج أوراق التيرسي من جيبه، تأملها للحظات وأعادها إلى جيبه.
– أنت ترى كل شيء، أنا الآن عجوز فقير، تعرف أمنيتي الوحيدة، وعموما أنت لن تخسر شيئا، فأنت تملك كل شيء…

في الخارج، تغير الجو فجأة، تهب ريح باردة من جهة البحر، ينزل المطر مدرارا، يخفت قليلا، ثم تنفخ فيه الريح فيضرب بقوة أكبر، مشى تحت المطر، يسمع وقع خطواته على الأرضية المبللة، أحس برائحة الأرض تملأ عليه كيانه، استشعر خيوط الماء تخترق نسيج معطفه المتهالك، وتنفد إلى تفاصيل جسده، تملكه شعور مريح، مزيج من الهدوء والتفاؤل، رفع بصره إلى السماء، خاطبها بصوت مسموع.
– أرأيت، أنت لن تخسر شيئا.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون