محمد مصطفى الخياط
أخرجت نصفى الأعلى من تحت الغطاء، وأسندت ظهري مستسلمًا إلى ظهر السرير المعدني البارد، يغط الجميع في نوم عميق، على العكس منهم جميعًا، اترقب مرور يوم الجمعة بفارغ الصبر، يداهمني ثقل في صدري من عصر الخميس حتى صباح السبت، يمر الوقت ثقيلاً كئيبًا، تتمطع فيه الدقائق والثواني، تتلكأ في خطوها الممل، خطوة للأمام وعشرة للخلف. لا عمل ولا أشغال تستهلك الوقت يوم الجمعة، فقط شئون إدارية تنحصر في غسل ما اتسخ من ملابس وأحيانًا المرور على الحلاق ثم دش قبل الصلاة.
أترقب انتهاء اليوم بفارغ الصبر، لتبدأ رحلة مكابدة النوم، مسلسل يتكرر كل يوم وليلة منذ جئت هذا المكان الكئيب. مضي زمن نسيت قدره، وبقي زمن لا أعرف قدره. تتشابه الأيام في كآبتها، وبطء مرورها، ورتابتها.
ما زلت أتذكر القاضي وهو يتلو الحكم بصوته المعدني، حكما نافذا بلا رجعة، لا طعن، لا استئناف. نظرت من خلف زجاج نظارتي المغبش بالدموع إلى زوجتي وابنتي ثم مضيت مع الحارس. وحين تعلقت بي، طلبت منها أن تنساني، وألا تأتي لزيارتي، ثم نظرت لابنتي وعزيتها في أبيها الفقيد، وطلبت منها أن تترحم على روحي وتقرأ لي الفاتحة كل صباح.
حضرتا بعدها أكثر من مرة لزيارتي، ورفضت مقابلتهما، أردت أن تنسياني تمامًا، أن يتعاملا معي كميت يستحق الرحمة، لا أكثر. ذات يوم استدعاني المأمور، وجدتهما جالستين بملابس سوداء أمام مكتبه، كم كانتا بائستين ومنطفئتين. نظرت نحو المأمور بوجه جامد، فبادرني متسائلاً، “إيه؟ .. مش تسلم على مراتك وبنتك ؟”، نظرت نحوه صامتًا، وعندما كرر السؤال، أجبته “من حقك إنك تقيد حريتي، وتسجني .. وأنا من حقي أقرر أقابل مين”.
عاودوا بعدها محاولاتهم مرة أو مرتين على فترات متباعدة، ثم يأسوا وانتهى الأمر. مضى على ذلك شهور وسنين طويلة لا أذكر عددها، ولا أعرف كم تبقي لأخرج، لم يعد الأمر يهم، بل كثيرًا ما راودني خاطر ألا أخرج من هنا، اكتفي بالاحتفال بالمفرج عنهم، وأشاطر القادمين الجدد رغيف أحزانهم.
أيامي نسخة مكررة مملة لا تتغير وتيرتها، لا قيمة لحياة تتكرر أحداثها. ذات الجدران. ذات الأحداث. ذات الأشخاص.
يتقلب “أبو صفيحة” في السرير العلوى فتصرخ القوائم المعدنية، لا تنفك الكوابيس تطارده ولا يتراجع هو عن النوم لأقل من عشر ساعات يوميًا، النوم ملاذه للهروب خارج الأسوار. حكي لي بوجه جاد أنه أوشك أن يفلت من قبضة البوليس، لولا إصرار زميله “دلدق” على إيقاظه. سبه ولعنه وضربه على قفاه، فما كان منه إلا أن صاح فيه، “افطر وارجع كمل الحلم”، سبه ثانية بأمه ثم مضيا معًا نحو الميز، كعادتهما، يقصفان ويتدافعان ويتشاتمان، “أبو صفيحة” بجسمه الضخم ككشك مرطبات، ودلدق بجسمه الناحل الضئيل وملابسه الفضفاضة كبلياتشو.
يعرف أبو صفيحة أنه لن يستطيع استكمال حلمه بعد الإفطار، ويعلم دلدق أن أبو صفيحة سوف يتركه بعد قليل بحثًا عن حلم آخر يعيش فيه، وأنه لن يتورع عن سبه بأمه وأبيه متى أيقظه. سنوات طويلة وهما على هذه الحال، بدا معها واضحًا أن عقل أبو صفيحة في جسم دلدق، بينما عقل دلدق في حجم جسم صاحبه.
حين دخلت العنبر أول مرة، استقبلني أبو صفيحة بجسمه الضخم وصوته الأجش، مُظهرًا سطوته، كنت هادئًا مستسلمًا، تتساوى عندي الأفعال وردود الأفعال، لا شيء يستحق !. أشار بعصبية نحو سرير خال في الركن، انزويت عليه. فيما بقي يحدجني من حين إلى آخر، وصدق حدسي، رغم شراسته البادية كانت عيناه طيبتان، فبعد نحو شهر جلس على حرف السرير وراح يطمأن علىّ بصوت كله مودة، سألني عن سبب سجنى، فأجبته “السبب مش مهم .. لأنه لم يكن كافيًا لإقناع القاضي ببراءتي“، هز رأسه وبدا أنه لم يفهم شيئًا، ثم طلب منى نقل متاعي إلى السرير الذى يعلو سريره، أخبرته أن خشونة المفاصل يناسبها الأرضي، فرد وهو يقف متناولاً علبة الأدوية الخاصة بي ويمضي نحو سريره “ولو”، ثم نادى بأعلى صوته “دلدق … يا دلدق الكلب”.
مشيت خلفه اتحامل على ساقي اليسرى ومعي بعض متعلقاتي، بينما علق دلدق حقائبي في كتفيه ووضع البطانية فوق رأسه فانسدلت عليه وتدلت على الأرض ومشي كشبح يتخبط في الأسرة المعدنية والمساجين. أخلى أبو صفيحة متعلقاته ورفعها إلى السرير العلوي، وساعدني دلدق في فرش سريرى.
لا أعرف سبب إطلاق هذين اللقبين عليهما، إنما المؤكد أنك لو سألت على دميان تادرس وأحمد نعمة الله، فلن تجد من يدلك عليهما، حتى الضباط والعساكر ينادونهما بلقبيهما. في أوقات الصفاء يقصان علينا بعض المواقف، ثم لا يلبثا أن يتشاتما ويتضاربا. يصر أبو صفيحة أن عدم بيع دلدق للموبايل الماركة الذى استوليا عليه في إحدى عملياتهما وراء القبض عليهما. ويصر دلدق على أن سُكر أبو صفيحة وراء إفشاء سرهما. يتبادلان الاتهامات إلى أن يقطعها أبو صفيحة بضربة على رأس دلدق تطيح به من السرير العلوى وتطرحه أرضًا، فلا يزيد الأخير إلا أن يُصدر صوتًا استنكاريًا من منخره وفمه في آن، فيشوح أبو صفيحة بذراعه غير مكترث ويقول له بصوت آمر (انجر اعملنا شاي)، فيرمقه دلدق باستهانة ويمضي كأننا لن نراه ثانية، لكنه لا يلبث يعود حاملاً صينية الشاي بالقرنفل وعلى وجهه ابتسامة عريضة. يمد ذراعه بالكوب مع كلمة أو كلمتين تختلفان بحسب من يناول؛ (الباشا، العصفور، عمنا، الكبير،…)، ويختصني بلقب الاستاذ، أما أبو صفيحة فبأجزاء حساسة من جسم أمه، فيتناولها ضاحكًا، وكأن كل ما كان بينهما لم يكن.
يحمل أبو صفيحة هم الإفراج عن دلدق قبله بنحو عام، لا يعرف كيف يعيش بعيدًا عنه، يجن جنونه حين يصيح دلدق في وجهه بصوت عال (بكره أخرج واسيبها لك)، ذات مرة جذبه من سترته وشد ياقتها على رقبته ورفعه عاليًا وصاح بأعلى صوته (على جثتي)، كاد دلدق يختنق، وبصعوبة أخبره، وقد أحمر وجهه، أنه سيقدم التماس للمأمور لمد فترة سجنه حتى خروجه، عندها أنزله أبو صفيحة وراح يستحلفه أن يفعل، فأجابه من وسط سعاله ونهجان صدره أنه سيفعل، فقبل رأسه وربت على كتفيه وقال (تسلم يا شقيق).
كنت أظن أن دلدق يسايره ليتقي سطوته، لكنني فوجئت به ذات يوم يطلب منى كتابة الالتماس، ظننتها مداعبة، فأقسم لي أنه جاد. أمام الحاحه كتبت الالتماس، ومن بعد التماس ثان وثالث، حتى استدعاه المأمور وأخبره رفض طلبه، رجع إلى العنبر حزينًا دامعًا، نكس أبو صفيحة رأسه وقرر من يومها ألا يكف عن محاولات الهرب من السجن عبر بوابة أحلامه.