وائل النجمي
رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر[[1]] تقوم على تصاعد التأويل عبر تداخلات البنية السردية، كأن القارئ يسير من محطة سردية إلى أخرى، وطوال فعل القراءة يكتشف معلومات إضافية عن محطات سابقة قد مر بها، أو كأنه يمر عبر طوابق من البنية السردية المتراكبة، في كل طابق يأتي توضيحا خاصا عما مر سابقا، ويكتشف في كل محطة جانبا آخر من جوانب الحكاية، وتقوم البنية رغم تراكبها من الماضي إلى الحاضر – مع وجود بعض الاسترجاعات، تقوم أيضا على التضافر والثنائيات المتقابلة، خاصة ما بين الشخصيات وبعضها البعض، فضلا عن خصوصية المكان وتأثيره على سير الأحداث وعلى نفوس الشخصيات، وبين هذا وذاك يأتي الظرف التاريخي، الذي يضع كل هذه المكونات في سعير مشتعل من القلق والتوتر مما يجعلنا نتوقع انفجار الشخصيات أو انهيارها في أية لحظة، ومن ثم تأتي الخاتمة التي قد علق البعض أنها غير مترابطة مع فعل الأحداث، إلا أنها تأتي من وجهة نظري كرد فعل طبيعي على هذا الكم من القلق والكبت والقهر في ذوات النفوس، مما يجعلنا أمام رواية تتحدد أبعادها بكونها رواية أزمة الشخصية بالأساس، وفي الوقت نفسه تتناص مع المعطى التاريخي للأحداث، فضلا عن تقاطعها مع ميراث العادات والتقاليد وخصوصية المكان، ثم أخيرا، رواية ذات طابع خاص من الرؤية تجاه الاستعمار وتبادلات السلطة واسقاطات الحاضر على الماضي.
سأحاول في قراءتي هنا استكشاف الوعي المتضمن في الرواية، والكشف عن فنيتها في الوقت نفسه مسترشدا بمقولة (فيكتور شكلوفسكي) التي يقول فيها: «إن غرض الفن هو نقل الشعور بالأشياء كما هي مدركة وليس كما هي معروفة بالفعل. وتقنية الفن [في ذلك] هي “تغريب” Unfamiliar الأشياء، وجعل الصيغ عسيرة، مع زيادة كل من صعوبة ومدي الإدراك؛ وذلك لأن عملية الإدراك غاية جمالية في ذاتها ولا بد من إطالة أمدها. فالفن طريقة لاكتشاف فنية Artfulness الموضوع، أما الموضوع ذاته فليس له أهمية»[[2]]، فكيف أضفى (بهاء طاهر) الفنية على قصته، كيف جعل من معاناة (محمود) وعذاباته حالة خاصة من الجمال القرائي الذي نستمتع به عندما نقرأ الرواية؟ سأبحث ذلك عبر محورين على النحو التالي:
المحور الأول: العنوان وبنية الفصول:
يقول الدكتور (محمد فكري الجزار): «إن أولية تلقي العنوان تعني قيام مسافة مائزة بين العمل وعنوانه، بما يمنح الاثنين استقلالهما، بنسبة أو بأخرى؛ ليستقل العنوان بمقاصد نوعية يفرض – بالتالي – اتصالا أوليا نوعيا بين “المرسل”، و”المتلقي”»[[3]]، إذن الاتصال الأولي النوعي الذي يحدث بين القارئ والنص هنا اتصال يحيل إلى مكان وزمان، يحيل إلى الواحة، بدلالتها اللغوية من صحراء محيطة بها، وهي في حد ذاتها تحمل رمز الخير والخضرة والجمال، ثم هذه الواحة مقرونة بزمن، ينافي الزمن معاني ما فيها من خضرة وخيرية، فوقت الغروب هو وقت يشير للرحيل، والاختناق، وبداية الظلمة، ومن ثم فإن الرواية منذ اتصالها الأولي مع القارئ، تشير إلى حالة من حالات التأزم، المرتبط من تفاعل المكان مع الزمان، واضافة التعريف إلى الزمن، فضلا عن تأخيره يجعلنا أمام حالة من حالات التساؤل النفسي عن هذه الواحة ونشعر بأنها واحة مرتحلة، فالتسمية لو كانت «غروب الواحة» لكنا نتوقع أنها تدور عن أحداث معينة أثمرت عن أفول نجم هذه الواحة، وعن حدوث ما لا يحمد عقباه فيها، أما إضافتها إلى الغروب بالتعريف، فهو ما يجعلنا نتسائل: ماذا تكون واحة الغروب؟ هل هي الواحة التي تقع في الغرب مثلا، وهي تسمية صحيحة من حيث طبيعة المكان، فلماذا لم يكن اسمها اذن الواحة الغربية، أم أن إضافة الواحة بدون تعريف إلى فعل الغروب يدل على استمرارية وتجدد فعل الغروب بدلالته الثقافية من مشكلات وتفاقم الأزمات فيها، إذن العنونة تشير منذ البداية لمكان وزمان في واقع مأزوم، تأتي هنا نقطة أخرى، وهو ما أعتقد أنه غاب عن الكثيرين من الباحثين في مجال سيميوطيقا العنونة.
ففي اعتقادي أن الكثيرين من الباحثين في مجال سيميوطيقا العنونة قد أغفلوا ما يتم اعادة اسقاطه على العنونة بعد قراءة العمل الأدبي ذاته، فإذا كان هو العتبة الأولى، فإن هذه العتبة تتحول في وقت لاحق لعتبة أخيرة بعد قراءة العمل الأدبي لتصبح تحمل دلالات جديدة في تأويل العمل الأدبي. ومن ثم فإن عنوان «واحة الغروب» يحمل دلالة معينة قبل قراءة الرواية، ثم يعود ليحمل دلالة أخرى بعد القراءة، فبعد القراءة نعلم أن الواحة المقصودة هي واحة سيوة، وأن الزمن المشار إليه هو زمن الاحتلال البريطاني ما بعد الثورة العرابية بوقت يسير، وأن الغروب هو لحظة الاختناق النفسي لدى الشخصيات المأزومة – مع التأكيد على أن هذا تأويلي الخاص الذي قد يختلف من وجهة نظر آخرين بالطبع.
إذن يؤثر تقسيم فصول الرواية على فهم معنى العنونة وتحديد الأثر النفسي لها، وفي حالة روايتنا فإن بنائها يأتي متراكبا على نحو يحتاج أيضا إلى توضيح الأمر، فالرواية تأتي على قسمين، وهي تراوح في القسمين بين شخصيات محددة دون غيرها، على النحو التالي:
القسم الأول صـ7 | رقم الصفحة | القسم الثاني صـ142 | رقم الصفحة |
1- محمود | 9 | 9- محمود | 147 |
2- كاثرين | 19 | 10- كاثرين | 161 |
3- محمود | 33 | 11- محمود | 175 |
4- كاثرين | 56 | 12- الشيخ صابر | 188 |
5- الشيخ يحيى | 67 | 13- كاثرين – محمود – الشيخ يحيى | 201 |
6- محمود | 86 | كاثرين | 201 |
7- كاثرين | 105 | محمود | 206 |
8- الاسكندر الأكبر | 121 | الشيخ يحيى | 209 |
14- محمود | 214 | ||
15- كاثرين | 241 | ||
16- محمود | 262 | ||
17- كاثرين | 285 | ||
18 محمود | 308 |
اتخاذ عنونة الفصول أسماء الشخصيات كسمة لها، مع إعطاء الرقم للفصل، بجواره اسم الشخصية، يوضح أن البناء الروائي يأتي بالأساس من خلال تتبع نفوس الشخصيات، المحرك الأساسي، أو الهدف الأساسي من الفصل ليس الأحداث الواردة فيه، بقدر ما هو تعبير عما يحدث في داخل النفس التي تحمل عنوان الفصل[[4]]، ومع ملاحظة أن الشخصية الوارد ذكرها في كل فصل هي من تقوم بالحكي، إلا أنها يمكن أن تحكي عن شخصية أخرى، بل غالبا ما يتم توضيح النقطة الغامضة في الفصل السابق للشخصية التي تحدثت من خلال الشخصية التي تليها، سنضرب لذلك مثال، ففي الفصل الثالث الذي يحمل عنوان (محمود)، يقول وهو يصف الصحراء: «تترامى الصحراء أمام عيني ولا شيء فيها غير الرمال والكثبان والأحجار والسراب اللامع في الأفق. قيظ بالنهار ولسعة برد في الليل، بين الحين والآخر سلاسل من جبال رمادية كأنها بقايا جبل واحد حولته صاعقة إلى أنقاض مهوش.»[[5]]
في مقابل هذه اللحظة التي يبدو لنا فيها (محمود) راويا ملما بجميع الزوايا الخاصة بمتواليته السردية وبحياته، فهو راو عليم، لكننا نفاجأ في مقطع أخر بوجود جانب من راو أخر يوضح جزئية عن هذا الراوي لم نكن نعلمها، ففي الفصل الذي يليه أي الفصل الرابع الذي يحمل عنوان (كاثرين)، تقول عنه: «يغوص محمود داخل نفسه، أراه يغوص أكثر فأكثر، يركب الآن فوق جمله مطرق الرأس كالنائم، دون أن ينظر حوله إلى شيء. توقعت أن تخرجه هذه الصحراء قليلا من قوقعته، أن يرى كم تختلف عن أي مكان رأيناه معا في مصر، لكنه يسألني في دهشة ما الذي يعجبك فيها؟ كيف لا يرى؟ قرأت كل شيء عن هذه الصحراء وعن سيوة من قبل أن نبدأ الرحلة …»[[6]]
سأتحدث في محور لاحق عن أزمة الشخصيات وعن وقوف الشخصيات إزاء بعضها البعض كحالة من الثنائية الخاصة، لكن هنا أتوقف عند قواعد الحكي، فرغم أن الرواية حاولت أن تكون متعددة الأصوات، وقدمت في ذلك تكنيكا يتمثل في اسلام الزمام لكل شخصية في فصلها الخاص للحديث عن ذاتها، ثم تلحق بعض الملاحظات عنها من الشخصية الأخرى المقابلة لها، ليكتمل تشكيل رأي القارئ عن هذه الشخصيات عبر وجهات نظرها لبعضها البعض، مع اختلاف العلاقات بين هذه الشخصيات وبعضها البعض، إلا أن ثبات مستوى السرد، وثبات مستوى اللغة لدى الشخصيات، رغم كونها شخصيات ذات تنويعة ثقافية مختلفة، فهناك الأجنبية متمثلة في (كاثرين) و(فيونا) وشخصيات البدو في (الشيخ صابر) و(الشيخ يحيى) و(زبيدة)، وغيرهم، ورغم هذه التنويعة في الثقافة والأصول والمواقف، إلا أن لغة السرد اتسمت بالثبات مع اختلاف الراوي، وهو ما جعل القارئ يشعر بحضور الأنا الثانية للراوي، فبدا واضحا أن (بهاء طاهر) هو من يتحدث على لسان هذه الشخصيات، بوعيه هو وليس بوعي الشخصيات ذاتها، وربما هذه النقطة هي التي جعلت جانب الرؤية ما بعد الاستعمارية في الرواية يبدو خافتا رغم وقوف شخصية (كاثرين) كمعادل موضوعي لشخصية (محمود) في كون الاثنين شخصيات يطلق عليها في دراسات ما بعد الاستعمارية شخصيات «التابع»، شخصيات خاضعة، وتأتي ذكر هذه الشخصيات في الأعمال الأدبية لمحاولة استنطاقها باعتبارها تعرضت لقمع الإسكات من الثقافة المركزية[[7]] التي تمثل الثقافة البريطانية هنا، ولكن تولي المؤلف للكلام نيابة عن شخصياته قلل من وضوح الرؤية ما بعد الاستعمارية في الرواية.
يتضح إذن مقدار علاقة تراتب الفصول، وكيفية بناء الصيغة السردية للحكي بتعبير (جرار جينيت)، والمسافة التي وضعها المؤلف بين القارئ وبين شخصياته[[8]]، ثم توالي الشخصيات الحكي عن بعضها البعض، وعند ربط ذلك بالعنونة يتضح مقدار الأزمة التي تتفاقم وتتصاعد مع استمرار القراءة داخل النص، وأظن عند هذا القدر يصبح من الممكن الانتقال للمحور الثاني.
المحور الثاني: أزمة الشخصيات:
الرواية إذن عن أزمة شخصياتها، بيد أنه ليس المفروض أن نفهم هذا على نحو مبسط، بمعنى أن الرواية ليست عن شخصيات معينة تعرضت لمواقف أدت لأزمتها، وإنما هي عن أزمات بشرية عامة تخص جانب النوع الإنساني، تعرض الرواية لبعض نماذجها، إذا كان هناك نوع من الشخصيات النمطية في السرديات العربية كشخصية «سي السيد» مثلا عند (نجيب محفوظ)، فإننا في روايتنا هنا إزاء أزمة نفسية نمطية تتمثل في خيانة الذات، واسقاط الشعور بالفشل والإحباط على الواقع المحيط أو ربما بسبب الواقع المحيط، وغيرها من الجوانب النفسية التي هي في حد ذاتها تأخذ دور البطولة في مجريات الرواية، وتتحول الشخصيات لمجرد انعكاس لهذه الأزمات، وليس العكس، أي أنه وكأنما هذه الشخصيات تم استحضارها لذكر الحالة البشرية الناتجة عن مثل هذه الهزيمة النفسية.
يؤيد وجهة نظري ملاحظة أن الشخصيات الرئيسية التي تأتي الفصول بأسمائهم أعني شخصيات (محمود)، و(كاثرين)، و(صابر)، و(يحيى)، نستثني هنا شخصية (الاسكندر الأكبر)، هذه الشخصيات هي وحدها من يتم إعطاء حق السرد لها، فهي من تتحدث سواء عن نفسها أو عن غيرها، وباقي الشخصيات رغم أثرها في الأحداث، كشخصية (مليكة)، و(وصفي) و(إبراهيم) و(سلماوي) كلها شخصيات تأتي مُستحضرة من خلال الراوي الذي يتصدر المتوالية السردية التي تحمل منذ البداية عنوانا يوضح من الذي يحكي عن ذاته ومن خلال ذاته، صحيح هناك نظام من الدقة يجمع تتابع الأحداث، وينسق الربط بين الأحداث وإن اختلف الراوي، مما حافظ بقدر كبير على خطية الزمن، إلا أن هذه فقط هي الأصوات المسموعة خلال الرواية، أو إن شئنا الدقة هي الشخصيات التي يتحدث من خلالها المؤلف عبر سرده.
من المهم هنا تحديد العلاقة بين الشخصيات الأربعة الوارد ذكرها كشخصيات راوية للأحداث، فهناك (محمود) والذي تقابله علاقة طبيعية مع (كاثرين) بوصفها زوجته، لكننا نجد في هذه العلاقة نفسها نوع من الغرابة، فطوال الرواية لا نعرف على وجه التحديد ما الذي أعجب (محمود) في (كاثرين)، فيستجيب للزواج من أجنبية غير مسلمة مع استمرار بقائه على علاقة بسيدات غيرها أيضا، شعر براحة لها عندما عرف أنها ايرلندية واقع عليها قمع المحتل البريطاني مثله، فهل هذه هي ما كانت سببا لشعوره بالانجذاب نحوها؟ أنه وهي يقعان تحت ذات القمع من المستعمر الإنجليزي؟ على أية حال ولدت العلاقة بين (محمود) و(كاثرين) منذ البداية متوترة، خاصة أن لكل منهما أزمته الخاصة كما سيأتي.
إذن من ناحية البناء الروائي للشخصية يمكن القول أن (محمود) و(كاثرين) يقفان معا كبنية واحدة في مواجهة (الشيخ صابر) و(الشيخ يحيى) [[9]]، وكما أنه من المفترض أن تكون العلاقة بين لحمة أبناء البلد الواحدة باعتبار أن الشخصيتين يمثلان الواحة، في مقابل (محمود) و(كاثرين) اللذان يمثلان السلطة وذراع الدولة البريطانية المستعمِرة أيضا، ولنلاحظ هنا الذكاء في تنوع حالات الاخضاع، فتارة يكون (محمود) و(كاثرين) تحت مستوى الاخضاع لسلطة المستعمِر الإنجليزي، يعيش كل منهما عذاباته الخاصة جراء ذلك، ثم تارة يصبحا كلاهما ممثلا للسلطة وقائما بعملية الاخضاع تجاه أهل الواحة، فيقوم (محمود) بجمع الضرائب لصالح الدولة المصرية الواقعة تحت الاحتلال، وتقوم (كاثرين) بإخضاع أثار الواحة للبحث العلمي الذي هو في النهاية مظهر تعبير تفوق الغرب على الشرق، إنها دائرة مراوغة من دوائر الوقوع تحت السلطة وممارستها في الوقت ذاته.
على صعيد آخر، بين (صابر) و(يحيى) تناقض كبير، بين من يرغب في الوصول إلى السلام النفسي و الطمأنينة بين البشر، نادما على كل ما سُفك من دماء من قبل، ومحبته الحقيقية لأبناء بلده وإن بدى حادا على قومه لكن الجميع يعلم ما فيه من مسالمة وموادعة وحدة أيضا – أقصد شخصية (يحيى)، بينما (صابر) يتربص لأخذ ثأره من الجميع انتقاما لما حدث لوالده، على أمل أن يتم موالاته منصب العمدة للواحة.
من ناحية أخرى، تختلف علاقة (صابر) و(يحيى) بـ(كاثرين)، فبينما يبدي (صابر) ترحابا ظاهريا بها، إلا أنه يكرهها من داخله، ويستغل تحركاتها في تأجيج الواحة ضد (كاثرين) والمأمور (محمود)، وعلى النقيض (يحيى) إن كان يبدو حادا على (كاثرين) إلا أنه في الواقع قلبه مشفق عليها وعلى أختها، يأتي الآن دور الشخصيات الثانوية، خصوصا (فيونا)، تلك التي يقول عنها (الشيخ يحيى): «عرفت في حياتي أمثالها في كل دين وملة وجنس. قلة يولدون وقد وهبهم الله السماحة وصفاء النفس. منحة من الوهاب لا فضل لهم فيها. وهم قلة لأنه سبحانه لم يشأ أن نكون ملائكة»[[10]]، هذه الحالة من القدسية التي يتم اضفائها على (فيونا)، والأهم الإشارة إلى تصالحها مع ذاتها رغم ما وقع لها من أحداث، وأخذ أختها (كاثرين) منها خطيبها (مايكل)، ويأتي الحديث من (الشيخ يحيى) الذي يستطيع أن يصل لسلامه النفسي عبر اعتزال البشر جميعا، ثم يحاول الشيخ صابر الوصول لسلامه النفسي عبر التواطؤ مع اليوزباشي (وصفي)، والذي أيضا يواصل طريقه للصعود على حساب (محمود) عبر ارسال تقارير فيه، ومن ناحية أخرى تحاول (كاثرين) أن تصل لسلامها النفسي وتعويض فشلها بمحاولة اكتشاف مقبرة (الاسكندر الأكبر)، إذن كل الشخصيات في حالة صراع هنا للوصول ناحية التوافق النفسي، وهي إما أنها معترفة بمأساتها وفي حالة رضا عن السبيل الذي اتخذته لتعويض هذا النقص، كما حالة (كاثرين) وحالة (الشيخ يحيى)، أو أنها قد وصلت لهذا الرضى ولم يعد يهمها من الدنيا شيء كما في حالة (فيونا).
بينما على النقيض من كل ذلك تقف شخصية (محمود)، فهو غير قادر على مسامحة ذاته، ففي حواره لذاته يقول: «المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائما في منتصف شيء ما. لم أقتل مليكة بيدي لكني تركتها للقتل، أردت أن أنقذ محمود الصغير لكن في منتصف المحاولة تركت إبراهيم يكسر ساقه…» [[11]]
كرد فعل طبيعي لم يتحمل (محمود) هذه الحالة من لوم ذاته، وعدم اندماجه فيما حوله، وعدم قدرته على قبول ذاته بهذه الكيفية، لتكون النهاية باتخاذ قرار لا يمكن قبوله على غرار المنطق، لكن يمكن تفهمه في ظل تصاعد الصراع داخل شخصية (محمود)، فهو يضيق ذرعا بكل ما حوله، ولا يجد سبيله للخلاص، لم يعد قادرا على الاستمرار مع (كاثرين) فضلا عن عدم قدرته على التضحية بها أيضا، يعشق اختها (فيونا) دون أمل في الوصال معها، يرى (وصفي) يتقدم لاحتلال مكانه دون رغبة في مقاومته، فضلا عن رأي (وصفي) المهين في المصريين والثوار وفي عرابي، تنزاح الواحة بعيدا عن قبضته حاملة له كل كراهية، معلية من نجم الضابط الجديد الذي مع المفارقة ربما يكرههم ولا يراهم سوى مطية للترقي بعكس (محمود) الذي يتعاطف معهم أكثر، وفي الوقت ذاته (محمود) غير قادر على أن يكون أداة في يد المستعمر لتحصيل الضرائب، ولا قادر على ادانة الثوار والتملق للمستعمر الأجنبي أو التملق للأجواد، حتى يصل لمرتبة أعلى، ولا قادر بالطبع على المقاومة، هذه الحالة من عدم الاستقرار أدت إلى قراره بإنهاء حياته، وانهاء المعبد الفرعوني الذي يحمل شاهد عظمة الأجداد، والذي كان سببا في هوس (كاثرين)، وسبب أزمته مع ذاته في انقاذ الطفل (محمود)، ورمز سيادة كانت في تاريخ يتم اكتشافه من سيد أجنبي يفرض سلطته على الحاليين.
وكأن هذا هو فعل التمرد الوحيد القادر عليه، هو فقط قادر على انهاء حياته، وهدم معالم التاريخ تاركا كل المشاكل من حوله كما هي، ولا نعرف على وجه الدقة ماذا حدث بعد حادثة تفجير المعبد، وهي واقعة قد يكون مهما في التأويل ماذا حدث بعدها؟ فماذا حدث لكاثرين وفيونا ووصفي ويحيى وصابر وإبراهيم وسلماوي؟ لا نعرف كيف تلقوا الخبر أو أثر عليهم هذا الأمر؟ ماذا مثَّل بالنسبة للشرطة هل أبلغ (وصفي) بما حدث؟ هل تولى هو منصب المأمور، لا نعرف لأن بؤرة الرواية كانت موجهة إلى (محمود) وأزمته مع نفسه أكثر مما هي موجهة إلى باقي الصراعات التي من حوله.
…………………………
[1] – بهاء طاهر: واحة الغروب، دار الشروق، ط11، القاهرة، 2013م
([2]-)Victor Shklovsky: Art as Device, (1917), Abbreviated, Taken From The Internet, Date: 13-05-2006, «http://courses.essex.ac.uk/LT/LT204/D EVICE.HTM»
[3] – د.محمد فكري الجزار: العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية لاعامة للكتاب، سلسلة دراسات أدبية، 1998م، القاهرة، صـ7-8
[4] – راجع حول دور الشخصية في بناء السرد: د.يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفرابي، بيروت، لبنان، ط3، 2010م، صـ113
[5] – بهاء طاهر: واحة الغروب، صـ 33
[6] – السابق، صـ 33
[7] – راجع: ديبيش شاكرابارتي: دراسات التابع والتأريخ ما بعد الكولونيالي، ترجمة ثائر ديب، مجلة «أسطور»، العدد 3/ ديسمبر 2016. صـ12
[8]– جيرار جينيت: خطاب الحكاية: بحث في المنهج، ترجمة: محمد معتصم، وعبد الجليل الأزدي، وعمر حلي، ط2، المجلس الأعلي للثقافة، ، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1997م، صـ177-178.
[9] – راجع حول بناء الشخصية الروائية: جوناثان كولر: البنيوية وبناء الشخصية الروائية، ترجمة: محمد درويش، مجلة الأقلام العراقية، العدد 6/ 1986م. صـ73
[10] – بهاء طاهر: واحة الغروب، صـ 281
[11] – السابق، صـ 235