جاء القليوبي ليناقش فكرة التحول والتطور من أحد افراد الجنس البشري لكائن يستحق لقب إنسان في قالب فنتازي ساخر، وتعد إفتتاحية الفيلم من اكثر الافتتاحيات السينمائية المصرية هدوءا وتشويقا، حيث حسين جالس على مكتبه في العمل ويطلب منه الذهاب إلي مكتب المدير لنكتشف جميعا أن حسين هو الوحيد في عمله الذي يرتدي بنطاله، بينما الجميع عراه من الأسفل والاغرب أنهم يستهجنونه كأنه الخارج عن المألوف، لنكتشف انه كان مجرد حلم ليصحو منه حسين على زوجته تعنفه بقسوة كونه نسى ونام وهو يرتدي البنطلون، افتتاحية رغم مباشرتها إلا إنها أيضا تحمل من الإبداع و التشويق الكثير، ليطوف بنا القليوبي عبر مشاهد متواليه لنرى مدي العدائية والروتين الذي يعاني منه حسين على يد زوجته وشقيقها وشقيقته وزملاء العمل وحتي الأصدقاء.
وفي ظل كل هذا الكم من العدائية و الروتين الذي يعاني منه حسين تظهر منه لمحات تشير لرغبته في الهرب من الجحيم الذي يعيش فيه مثل نظرته لسيد بص “نجاح الموجي” أو إطراءه على محاولات أحد اصدقاءه المستمرة في جذب النساء إليه.
أراد القليوبي ان يدخلك في الحالة التي يعاني منها حسين فجعل إيقاع الفيلم في البداية بطئ نسبيا لتشعر بكمية الملل والروتين الذي يعاني منه البطل ولكن الأمر خرج من يديه فجاءت بعض المشاهد رتيبة ومملة للغاية.
نقطة تحول “صفعات متتالية”
وعلى الرغم من إنسانية حسين الجمة والتي منعته من الاستمتاع بإحدى العاهرات التي قدمها له أحد أصدقائه كهدية عيد ميلاده الذي نساه الجميع حتي حسين نفسه وانخراطه في متابعة الأحداث العنيفة التي كانت تدور في البوسنة والهرسك على شاشة التلفاز، إلا أنه يقرر ان يثور ليخرج من الدائرة الخانقة التي يدور فيها فيقرر حسين الثورة بعدما يقفد الامل في حلم الإنجاب و بعدما يستخدم شقيق زوجته سلطاته كرئيس مباحث لتقوم الشرطة بالقبض على حسين في أحد الملاهي الليلية بعدما نجحت الشلة في جذب أنظار رواد المكان وفتيات الريكلام بلعبهم للطولة، يقضى حسين ليلته في التخشيبة ليخرج وفي عينيه نظرة جديدة على هذا الوجه المنهزم المستسلم، يخرج ليجد الجميع يتنكر له اصدقاءه يطالبونه بالابتعاد لاعتقادهم أن له نشاط سياسي خطير، وزوجته تعنفه لأنه ارتاد “كباريه” وتركها، ينام حسين ليحلم أنه يجاري الآخرين في حياتهم ولكنهم يتهمونه بالجنون أيضا، يستيقظ على صوت زوجته تعنفه مرة اخرى لأنه تأخر على موعد عمله، ليبدأ حسين ثورته الصامتة على العالم فلا مبررات يعطيها ولا مطالب فقط سار حسين يوزع صفعاته على الجميع: زوجته وأخته زملاؤه في العمل حتي مديره المباشر الذى أدي دوره الفنان ” حمدي يوسف” والذي برع في لقطة تلقيه للصفعة بنظر ندم وخوف كطفل صغير تعاقبه أمه وهو يعلم أنه مخطئ، حتى اصدقاءه ينالون نصيبهم من الصفعات، ليخرج حسين بعد ذلك إلى عالم جديد يقرر ان يعيش إنسانيته المكبوتة دون قيود.
سيد بُص
يدخل حسين عالمه الجديد عن طريق أول “خمارة يصادفها” بعدما يفك أزرار قميصه أمام البحر، وككل طفل يهجر عالمه ليدخل عالم جديد يحتاج إل دليل ومرشد في رحلته الأولى، ليجد حسين سيد بص في انتظاره، بينما يعاني أحد رواد البار حاله من الوحدة الشديدة تدفعه للاعتقاد بأن الكل اصبحوا صديق عمره الذي لم يعد موجودا في مشهد مؤلم برع فيه الفنان “منير مكرم” يتعرف حسين على سيد بُص، ليكون دليله ومرشده في العالم الليلي، ومنقذه ايضا، سيد بص الإنسان طيب القلب على الرغم من كونه “فهلوي” و”بورمجي” وجد ببصلته الخاصة هذا الكم من الإنسانية الذي يفيض من حسين ليدخله العالم الجديد من اوسع ابوابه.
لا نملك حينما نشاهد فيلم “البحر بيضحك ليه” إلا الوقوف طويلا أمام فنان بقامة نجاح الموجي الذى استطاع ان يستوعب شخصية سيد بص غير التقليدية وغير النمطية الشخصية ذات الابعاد العديدة ولكن نجاح الموجي بمهارة فريدة وموهبة لامحدودة استطاع الإمساك بتلابيب شخصية سيد بص وظهر هذا جليا في أول ظهور حقيقي للشخصية في البار في المقابله الاولى مع حسين.
لينتقل بنا نجاح الموجي في كل مشهد من لمحة إلى اخرى في شخصية سيد بص التي ربما واحدة من افضل الشخصيات التي كتبها القليوبي.
العاهرات
منذ فجر الفن تعد شخصية العاهرة أو فتاة الليل أو بائعة الهوى واحدة من اكثر الشخصيات الدرامية ثراء، فلم يكن من المقبول أن يمر القليوبي في رحلته للبحث عن الإنسانية المفقودة دون التوقف امام شخصية العاهرة، بداية من القوادة “رفقة” جليلة محمود وفتاتها اللتان حاولتا النصب على حسن وسرقته مرورا بالعاهرات الأربعة اللائي يصادفهن حسين في رحلته.
وعلى الرغم من وجود 4 عاهرات في الفيلم وهي مساحة واسعة يمكن من خلالها الخوض أكثر في فلسفة الإنسانية المفقودة إلا أن القليوبي رفض أن يستغل تلك المساحة ليفرد مساحة أخري لقصة الحب الطفولية التي نشبت بين حسين الذي يقرر أن يمتهن مهنة الحاوي ونعيمة ولعة “نهلة سلامة”.
العاهرات الأربعة تعرف عليهن حسين في رحلته إما عن طريق أزمة تمر بها كأن يضربها قوادها في البار أو ان يلقيها أحد الزبائن من سيارتهم في الطريق في إشارة للعنف الذي تتعرض له فتيات الليل رغم طيبتهن الشديدة، وأخري سمعت عنه من صديقة فجاءت ليستغل القليوبي العاهرات الأربع ليظهر تغير جديد في شخصية حسين، في لقطة من أفضل ما في الفيلم حينما نراهم جميعهن نائمات شبه عاريات في إشارة لممارسة الجنس معهن جميعا ما يحمل دلالة على تفهم حسين لفكرة الرغبة و ممارستها بانسيابية دون تعقيدات أو مبررات واهية، وإن كانت مبرر حسين في امتناعه عن ممارسة الجنس مع أول عاهرة قابلها في رحلته أن لا يستطيع ان يلمس امرأة لا يحبها، فهو استطاع ان يحب أربعة بجوار نعيمة في دلالة وإن جاءت جيده من الناحية البصرية ولكنها قد تثير تأفف أخلاقي لدي المشاهد يؤثر على معناها.
عن الحب
تطرق القليوبي في رحلته الإنسانية إلى الحب بأكثر من شكل، فهناك الحب الشهواني من طرف واحد بين سعيد “محمد لطفي” ونعيمة ولعة “نهلة سلامة” وهناك الحب الإنساني الخالص بين “زيزي صديقة الطلبة” حنان شوقي وحسين “محمود عبدالعزيز” والحب السلطوي التملكي بين زوجة حسن وزوجته، وهناك الحب الخالص الصافي الأشبه بقصص الحب الطفولية بين نعيمة ولعة وحسين.
ليبرهن القليوبي مرة أخري على قيمة الإنسانية حتي و إن كانت هناك معركة دائرة بين رجلين على قلب إمرأة فالمعركة بين سعيد الذي يعشق نعيمة ولعة هذا الحب الشهواني والذي يوجد به بواقي نزعة تملك واضحة يصطدم بالإنسان القادم والدخيل على عالمهم حسين الذي تنجذب نعيمة لإنسانيته في البداية ثم تغرق في حبه حتي بعدما يتزوج من العاهرات الأربع وكأنما علمت نعيمة ببوصلتها الإنسانية إلى ان ما فعله حسين لا يعد خيانة ويمكن تسميته ضرائب الإنسانية كما تتفهم نعيمة لهفة زيزي على حسين بعد عودته للحياة مرة أخري.
الميلاد
يظن الجميع أنه توفي بينما كل ما في الأمر انه نام بعمق ربما لأول مرة نام كطفل يكتمل نموه بالنوم ليخرج بعدها إنسان، ولان عمر ضابط المباحث شقيق زوجته السابقة يرغب في ان يدفن جثمانه سريعا ويدفن معه إنسانيته التي رآها فضائح، حينما يعود في صباح اليوم التالي ليأخذ الجثمان لا يجده فيقرر إقامة جنازة وهمية حتى يتخلص من فضائح حسين ومن عار الإنسانية إلا أن حسين حينما يرى الجنازة وبها عدد من معارفه يتصرف بتلقائيته الشديدة ليهرب الجميع هلعا ليقف في النهاية امام عمر و بينها النعش الخالي لتعلن نظره عمر ميلاد حسن الجديد إنسان مكتم الإنسانية يحب و يعق و يتزوج و يمارس إنسانيته ببساطة و تلقائية في رحلة بحث هادئة عن مغزي الإنسانية وماهية الإنسان.
يولد حسن من جديد ليجد عالمه زوجته الجديدة “نعيمة ولعة” وأصدقاءه من العالم السفلي، ليقوم سيد بُص بالإلان عن حسين الجديد الذي ولد بنفس الإسم حينما يرفع عقيرته مناديا ” بُص بُص بُص ” على طائرة ورقية لطفل تحلق عاليا بعيدا عن باقي الطائرات في إسقاط جيد على ما وصل له حسين فى نهاية مرحلة البحث عن الإنسانية المفقودة وبداية الحياة الجديدة.
لقطات متفرقة
على الرغم من المعالجة السيئة من ناحية الصورة والكادر السينمائي للفيلم ولكنه ينجح في لمس وتر خفي في نفوسنا وتر إنساني للغاية يجبرك أن تشاهد الفيلم مرات عديدة، ربما تكمن ميزة سينما القليوبي في صدق شخصيتها و إنسانيتهم التلقائية الصادقة والمتدفقة دون حساب.
على مدار مدة الفيلم يقدم القليوبي عدد من اللقطات المتفرقة كلقطة المنتقبات الخارجات من البحر في إشارة لمحاولة البعض على الاستمتاع بحياتهم في ظل التشدد المحيط، ربما اختار القليوبي النقاب كدلالة على التشدد ولكنه لم يرد هنا الإشارة المباشر للتشدد الديني فقط بل يريد تجاوزه للتشدد و التضييق من كافة العوامل والمؤثرات “العادات التقاليد الاديان الممنوع و المسموح” بل إن القليوبي يشيد بهذه المحاولة على الرغم من بؤسها الشديد عن طريق نظرة عين حسين التي تجمع الحسرة عليهن و على حاله و الإعجاب بفكرة المحاولة حتي و إن كانت بائسة ويائسة.
وفي مشهد الكباريه يشيد القليوبي ايضا بضرورة المحاولة ويؤكد عليها صراحة عن طريق صديق حسن الذي لا يمل من محاولة الوصول إلى النساء رغم افتقاره لكافة المقومات التي قد تساعده على ذلك كالوسامة أو المال الوفير، ففكرة المحاولة وحدها كفيلة بالتشجيع، فخروج حسين من محبسه الروتينى الممل كان محض محاولة أراد لها القليوبي النجاح ليناقش من خلالها فلسفته حول فكرة الإنسانية.
ولكن
على الرغم من إنسانية الفيلم وحواره الذي حمل العديد من الجمل المضيئة والشخصيات التي تنبض بالحياة في كل مشاهدها و الاداء المتقن للممثلين إلا أن الفيلم تعرض لظلم شديد من محمد كامل القليوبي الذي لم يستطع خلق صورة سينمائية توازي وتساوي هذا الزخم الإنساني الذي حمله الفيلم، كما وقع الفيلم أيضا في فخ المباشرة في مشاهد عديدة أبرزها مشهد الحلم الذي يراه في الجزء الأخير من الفيلم، وأيضا مشهد تعريفه لنفسه بكونه يعمل “إنسانا” فجاءت المشاهدة المباشرة كتفصيل بعد إجمال انتقصت من الحالة العامة للفيلم.
ولكن على الرغم من كل السقطات التي وقع فيها القليوبي في فيلمه، إلا انه نجح أن يقدم فلما محملا بمشاعر إنسانية صادقة وربما الصدق في الطرح والفكرة يشفع كثيرا للقليوبي في مشواره السينمائي.