البحث عن هوية المسرح العربي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 88
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.إقبال محمد علي

تواجه الباحث والمتتبع لموضوعات المسرح في الوطن العربي، العديد من الطروحات ذات الأهمية الفكرية والعملية التي تحاول بأشكال مختلفة التأثير في توجهاته. يمكن تلخيص هذه الطروحات باتجاهات رئيسية ثلاثة : الأول منها، يدعو للتخلص من المسرح التقليدي وبعض أدواته فيصفه بالمسرح الأوروبي أو بالعلبة الايطالية حيث المسرح معزول في مكان متميز من القاعة تجري عليه العروض أمام الجمهور المتلقي، وبدلا من ذلك يشجع التوجه للتقاليد الفولكلورية والعناصر الموروثة في اشكال الفرجة الشعبية او ما اصطلح على تسميته ب “الأشكال قبل المسرحيه” فيحث على تطويرها كقوالب مسرحية تحت لافتة البحث عن هوية متميزة او خصوصية او ما تجري حاليا تسميته بتأصيل المسرح العربي. مقابل هذا يقف اصحاب الأتجاه الثاني، داعين إلى استخدام تقنيات وقواعد المسرح الكلاسيكي نظراً لامتلاكه خصائص المسرح المتكاملة. أما الاتجاه الثالث، فهو اتجاه تجريبي يحاول ايجاد صيغ تستفيد من الافكار التي يطرحها الاتجاه الاول والتقنيات والخبرات التي انتجها الاتجاه الثاني .

دعوات الاهتمام بالنماذج الشعبية، الفولكلور، و الموروث الشعبي في  الثقافة العربية والاسلامية كانت بتأثير نهوض الوعي القومي والوطني بين الحربين العالميتين ، و مرحلة الاستقلال، فيما بعد. فهي مرحلة من اهم مراحل بدايات نهوض الامة العربية الحديثة، تبلورت نتيجة الظروف الاقتصادية ،السياسية والاجتماعية. فالعوامل التي حددت ورسمت ظهور هذه الاتجاهات هي عوامل فكرية في الجوهر ، كالموقف الايديولوجي والنظرة الى مجموعة من المفاهيم، كالمعاصرة والتراث والاصالة ، كذلك تاثيرات المدارس المسرحية في اوربا يضاف الى ذلك ،الوسائل التقنية المتطورة التي دخلت الى حياة المسرح . وليس غريبا بعد كل ذلك ان تطبع هذه الدعوات بطابع الحماس والتطرف حيناً، وعدم التمحيص والدقة حينا آخر.  وقد ارتأينا ان نخصص معالجتنا هنا للافكار التي يطرحها الاتجاه الاول لأهمية مضمونها في تطوير المسرح العربي مستقبلاً .

يرى اصحاب هذا الاتجاه، والمعنيون بالتنظير له، أن اسباب  عجز المسرح في البلدان العربية عن تحقيق تفرده او ما يسمونه “هويته” ، يكمن في طبيعة الشكل التقليدي القائم، الذي يمنع الجمهور من التواصل معه بسبب الانقسام الحاصل بين المبدعين والمتلقّين مما يؤدي الى ان تصبح العلاقة غير متكافئة، يكون الجمهور فيها مستهلكاً وحتى بمنزلة أدنى، ويأخذ الممثلون ومن يقف وراءهم (المخرج او كاتب النص) دورا متميزاً أعلى من فهم الجمهور. هذه الحالة دفعت الكثير من المتخصصين  إلى التطرف في الدعوة للتخلص من طبيعة العرض التي يقوم عليها هذا المسرح . كما ان بعضهم لايفصل بين هذا المسرح وبين حرية التعبير واسباب غيابها فيعتقد الناقد حسن المنيعي أن “……المسرحيين العرب مهما حاولوا ان يضيفوا ثقافة مسرحية الى التراث الدرامي العالمي فان رفض الشكل الايطالي يبقى العائق الاساسي بالنسبة اليهم، لانهم لايستطيعون التخلص منه لأسباب سياسية نجد على رأسها القمع المتوحش السائد في المجتمعات العربيه” 2))

ويعزو الباحث محمد عزيزة غربة المسرح عن الجماهير الى ” الهوة العميقة التي مازالت تفصل بين المسرح العربي وجمهوره. والتخلف الذي يدور فيه بالنسبة لغيره من المسارح في العالم، ربما يعود الى فكرة الثقافة المستوردة فعوضا ان يطور المسرح العربي عناصره )الما قبل المسرحية) ويحولها الى لغة مسرحية متينة البنيان، فأنه قد اضطر كي يثبت وجوده الى سلوك منعطف طويل مستعملا طرقاً غريبة عليه“(13) .  وهكذا تصبح اراء من هذا الطراز مسلمات يستند اليها باحثون آخرون في مجال المسرح يصوغون وفقها استنتاجاتهم فالناقد المسرحي المغربي حسن المنيعي  يعيد و يؤكد ان “المثقفين العرب لم يستطيعوا الى حد الآن خلق مسرح عربي له مميزاته وخصائصه رغم مرور أكثرمن قرن على اول تجربة مسرحية عرفت الوجود (اي مسرحيه البخيل) لمارون النقاش 1848”. (2)

ومهما يكن من أمر فان طرح المسألة بشكلها الواقعي هو المنفذ الوحيد للخروج من المأزق الذي وصلت اليه الحركة المسرحية ،فواقع الحال يدلل بما لايقبل الشك أن مساعي عقد المهرجانات المسرحية على ضرورتها، وبالرغم من تعددها سواء المحلية منها او على النطاق العربي لم تستطع ان تبلور مدرسة او منهجاً كما يطمح اصحاب الهوية المتميزة والخصوصية، كما لايمكن التعويل عليها كوسيلة بديلة، تاركين البحث في الاسباب الحقيقية لتخلف الحركة المسرحية .

ان الاقرار بولادة المسرح في مصر و سوريا و لبنان في منتصف القرن التاسع عشر متأثراً بالمسرح في اوربا هو حقيقة تاريخية لابديل منها. وان هذه الظاهرة الاجتماعية – المسرح – مهما تنوعت اشكالها ،أضحت ضرورة لا غنى عنها في الحياة الفكرية والثقافية لمجتمعاتنا العربية. فمحاولة البحث عن هوية ومميزات لمسرحنا العربي المعاصر لاتحتاج الى التطرف والأحادية في الرأي قدر ماتتطلب فهماً موضوعياً لأسباب ظهوره وتطوره في بلداننا التي كانت تعيش ظروفاً اجتماعية واقتصادية وثقافية متقاربة سواء في أقطار المشرق العربي او أقطار المغرب. بمعنى ان نقوم بتفهم الاشكال التي ظهر عليها المسرح في هذه البلدان وفق تطورها وكيفية مساهمته لاحقاً بالتأثير  في ظهور المسرح في البلدان العربية الأخرى كما في دول الخليج كالكويت والبحرين والامارات العربية المتحدة. وحينما نقوم بدراسة هذه الظاهرة وفق هذا المنطق نستطيع الاستفادة من التجارب الناجحة وهو ما نحن بأمس الحاجة اليه دون اهمال خبرة المسرح العالمي، و ما أشرنا  إليه لا يعني النقل الميكانيكي ، فالاستنتاج القائل بان “……المسرح العربي في كثير من اقطارنا العربية لا ينحو منحى التجريب والبحث بل يلتزم سبل التقليد مما يخلق ازمة اخرى….” (15)، دفع بعدد من المسرحيين في محاولة التجاوز، الى الانغلاق والعودة الى مبدأ البحث عن هوية محلية او إقليمية بحجة الخصوصية، وذلك يعني رفض حالةٍ خاطئةٍ بطريقة أكثر خطأ .

إن  الظروف التاريخية التي أشرنا لها قادت الحركة المسرحية في بعض الأقطار العربية،  إلى البحث عن اشكال وصيغ مسرحية (قوالب) بديلة. فمفهوم المسرح البديل مثلا  كان نتيجة لحاجة واقعية في وقت ومرحلة سيادة المسرح التجاري ومسرح الغرائز المبتذل، كما كان موقفاً إيجابياً ضد التيارات الفكرية التي ظهرت في المسرح وحاولت المساهمة في تثبيط عزائم القوى الوطنية والقومية في مرحلة الستينيات والسبعينيات. بالضرورة كان محتوى المسرح البديل نقيضاً للسائد.  فهو دعوة للتعبير في سعيه الى كشف الحقيقة والوصول الى الجمهور الواسع، حين سعى هذا المسرح لاختيارات حاولت التعبير عن اهداف الجماهير وهمومها وبحثت عن وسائل اسرع لمد الجسور معها، وبطرح أكثر بساطة لمضامين وأفكار مهمة تجسد نفسيتها وعقليتها. فمحاولة التجاوز المسرح  ، لصالة حتمتها حالة السعي للقاء جمهور اكبر في مكان نشاطه المهني والاجتماعي كما فعل مسرح الحكواتي اللبناني في تقديم عروض للعمال في المعامل، ومسرح الشوك في سوريا، وبعض محاولات د.جعفر علي و د.سعدي يونس في المقاهي العراقية ،لم تؤدِ بهؤلاء إلى الاستغناء عن استخدام خشبة المسرح سواء كانت مدورة او غير ذلك لتقديم عروضها. وبقيت اطراف العملية المسرحية كما هي: جمهور ومبدعون. فالدعوة للتجديد في هذه الحال كانت فكرية – سياسية ، تتلخص بتوظيف الفن المسرحي في عملية التغيير الاجتماعي، ولابد من القول ان هذه التجارب تتمتع بأهمية تستحق الدراسة.

إن الافكار الاولى التي تتمتع باهمية استثنائية والتي طرحت مسأله البحث عن خصوصية وهوية للمسرح العربي جاءت في دعوات يوسف ادريس “نحو مسرح مصري”، في مجلة الكاتب المصري عام 1964. ان هذا الشكل الذي خطا نحوه ككاتب مسرحي وكمنظر، استمد أصوله من الموروث الشعبي المصري  (السامر والممثلين الجوالين والمرتجِلين) والنموذج المسرحي الوحيد الذي لايزال حجة في تجسيد افكاره  هو”  الفرافير”. تبع ذلك في عام 1967 مانشره الاديب والكاتب المسرحي توفيق الحكيم من اضافات جديدة في هذا السياق طبعت في كتابه ” قالبنا المسرحي” داعياً فيه الى استخدام أشكال الفرجة الشعبية:  المقلداتي – الحكواتي – المداح . ومما يميز هذه الطروحات ويجعلها تكتسب اهميتها في البحث والدراسة هو ليس فقط دعوتها الى استخدام العناصر المسرحية في التراث والموروث الشعبي والفولكلور فحسب، بل اقترانها  ببحث الافكار النظرية للفن المسرحي بالرغم  من انه لايخفى على الباحث تأثرها بنظريات ستاتسلافسكي والمسرح الملحمي لبرشت.

رافقت الدعوة  إلى تجديد المسرح العربي و بعثِ هوية متميزة له، مناقشاتٌ تتعلق بجدوى واهمية النص المسرحي وتنتقص هذه الطروحات من دور المؤلف، وهي متأثرة وبشكل مشوه بأفكار المخرج البولوني كروتووسكي. ترى الناقدة المصرية صافيناز كاظم أن” ليس هناك كاتب مسرحي بل صانع مسرحية ….لانك لايمكن ان تقرأ مسرحية….انك عندما تكتفي بقراءة مسرحية تكون قد اجهضت جنيناً في رحمه ….فقراءة  مادوّنه المؤلف المسرحي لاتعطينا الصلاحية لفهمه او الحكم عليه إذ تظل المسرحية ناقصة ولا يمكننا الحكم عليها”  . (5 )

 نحن لانعتقد ان هناك كاتباً مسرحياً لايسعى كي يعرض ماكتبه على خشبة المسرح .  كما ان التجربة المسرحية تشير الى ان عدم اختيار نص معين لانتاجه على خشبه المسرح  كان وراءه واحد او أكثر من الاسباب. ولهذا فأن تقسيم النصوص المسرحية الى نصوص ادبية تقرأ واخرى ذات مسميات ومواصفات في اذهان اصحابها، يتعكزون عليها لرفض النص المسرحي وكاتبه بشكل مطلق، انما فيه تجاوز على التجارب المتعددة في المسرح العالمي والعربي. وبدافع نزع التصور الادبي عن العمل المسرحي تسقط هذه الافكار في سوء فهم فاضح، إذ لا يمكن نكران دور النص المكتوب واهميته بالنسبه للعمل، كذلك ضرورة  كل من المخرج والممثل في انجاح العمل المسرحي على حد سواء فلكل منهم وظيفه يؤديها. وحتى كروتووسكي لايلغي النص المسرحي بل يعترف به كونه “حقيقة فنية لها وجودها في المفهوم الموضوعي”  .(9)

واستفاضةً في عرض هذه الموضوعة نورد رأي للكاتب المسرحي المغربي محمد مسكين حول عدم اهمية اللغة والحوار في العمل المسرحي” يمكن ان يغيب الحوار ويستمر المسرح” ويحاول ان يثبت ذلك فيقول” ….حين نشاهد” في انتظار كودو” او ننتهي من قراءتها ننسى كل شي ولكن يستمر معنا “فلاديمير” او “استركون” ان ذاكرتنا تسقط كل شي. تسقط لغة “سوفوكل” و”شكسبير” تسقط الاحداث المسرحية بكل اشكالها ومضامينها وتستمر “اوفيليا” و “عطيل” (15) . ان تصور امكانية الغاء حوادث المسرحية للتدليل على اهمية الشخصيات يستند عنده الى المنهج المثالي في التحليل، فبقاء صور شخصيات المسرحية مكثفة في وعينا كمعاني هو نتيجة لانعكاسها. و لا ينفي ذلك ضرورة الحوار الذي استكملنا بواسطته تتابع احداث العمل الابداعي وبلورة ماهية هذه الشخصيات فبقيت كتعميمات في ذاكرتنا، واللغه ومانقلته كانت الوسط الذي جعلنا نتعرف بواسطته على الجوانب المنوعة لشخصية عطيل واوفيليا ، لهذا استمرت معنا بعد انتهاء العرض المسرحي .

اما الاراء القائلة بأن النص المسرحي هو العرض المسرحي ككل أو النص المسرحي لاتكتمل ولادته الا فوق خشبة المسرح    فهي حقائق لاتقلل من اهمية النصوص المسرحيه المطبوعة التي وجدت لها قراء، لكن ذلك لايعني ان هذا الجمهور يفضل قراءتها بدلاً من مشاهدتها على المسرح . ورغم عدم صعوبة التوصل  إلى هذه الفكرة بالنسبة للمتخصصين فأن الناقد محمد مسكين، والكاتب المخرج المسرحي عبد الكريم برشيد يسميان هذا الشكل من النصوص ( بالتقليدية ): “ان الكتابة المسرحية ليست نصاً انها ما سيصير نصاً انها مشروع النص، ان النص المسرحي اذا بقي في حدود الكتابة تغرب في مسالك الكلمات والحروف”، فالشكل الجديد الذي يفترضونه هو النص المسرحي المفتوح الذي يساهم فيه المتفرج ويكون الممثل حراً في توجيه الاجابة على ردود أفعال الجمهور لخلق حالة ( احتفالية ) . هذا التصور للعرض المسرحي يصب في نفس الاتجاه الذي يدعو له  د. علي الراعي في مفهومه  عن الإرتجال في المسرح ، حيث ان المسرحية المرتجلة بالنسبة له هي : نص مكتوب قابل للتغيير حسب الاحوال، وممثلون يؤدون هذا النص على الخشبة وهم مهيأون نفسياً لتقبل اي طاريء عليه ومؤلف يختبيء مرتين ويظهر مرة … يختبيء في المرة الاولى وراء كلمات نصه الاصلي ويختبيء للمرة الثانية في الكواليس يلقن الممثلين ردودهم  فيجري اذ ذاك نوع طريف من التأليف هو التأليف الفوري ً” . (7) .

وليس غريباً ان لانتفق مع الدكتور الراعي بتصوره لأهمية الارتجال في المسرح ( التأليف الفوري ) وجعله هدفاً يتطلع اليه المسرح المعاصر في الوطن العربي، محاولاً ان يجد له جذوراً  بدأت مع  بدايات ظهور المسرح في البلدان العربية. لا  يمكن لمسرح ينشد ان يأخذ له دوراً في بناء انسان المستقبل، بالأعتماد على الارتجال والعفوية كمنهج له  .

ويكشف الباحث المغربي محمد الكغاط حقيقة كادت تختفي في خضم اللهات وراء الرغبة في التنظير لدى الكثير من الباحثين والنقاد المسرحيين حيث يقول … النص المسرحي العربي الذي مضى على ولادته اقل من قرن ونصف مايزال يبحث عن نفسه واعتقد انه من التعسف ان ندعو الى الغاء النص المسرحي و نحن لم نعثر عليه بعد” . ( 14) وهذه الحقيقة تنسجم مع الدراسة التي قدمها الكاتب المسرحي المصري نعمان عاشور المعنونة  خالق النص .. وصاحب العرض”  التي تؤكد حقيقة مرت بها الكثير من الاقطار العربية التي عرفت المسرح منذ القرن الماضي كلبنان، سوريا، مصر و العراق، في ان ” مسرحنا لم يعرف النص المسرحي المتكامل الا مع بدايات النصف الثاني من هذا القرن ..”. ويقصد بالنص المسرحي المتكامل، النص الذي يمتلك القيمة الادبية والفكرية والفنية، و لا تنقصه القابلية على ان يمثَّل لأنه يستوفي الشروط الدرامية الصحيحة للعرض المباشر على الجمهور .(11)

ان دعوات تطوير المسرح في واخراجه من صياغاته التقليديه تضنمت افكاراً خطرة تشوه مفاهيم حيوية كمفهوم الواقعية  الذي اصبح اتجاهاً مهماً لايمكن لأية حركة مسرحية نامية ان تتجاوزه او تتجاهله، وهي في هذا تتأثر بتجارب التمرد الثقافي في الغرب وتصف اتجاهاتها في الكتابة  … بعدها عن الواقعية والطبيعية … معاداة الواقعية والطبيعية ”  (4) .

ويأتي في مقدمة العوامل الحقيقية التي أدت  إلى كبح تطور المسرح في البلاد العربية ، التطور الثقافي البطيء نتيجة الأستعمار والتخلف الحضاري والامية السائدة والفقر الاجتماعي، غياب الديمقراطية السياسية عن الحياة، صرامة الرقابة على النصوص المسرحية ، غياب الدعم بأقل مستوياته وضعف التقنيات المتوافرة  ، كذلك ضعف النصوص المسرحيه وتكرار موضوعاتها  ( للرقابة دور في ذلك ) وأخيراً وليس آخراً قلة عدد الفرق المسرحية الناشطة وضعف برامج عروضها ( الرييورتوار ) بل وحتى غيابه احيانا. فهل يمكن خلق هوية متميزة للمسرح في بلداننا بتجاهل هذه العوامل او بعضها الذي لايزال موجودا !! فلأجل صيرورة المسرح  العربي، لا ينبغي التنكر لماضيه وللسبل المسرحية التي استخدمها في ظروف وفترات تأريخية مختلفة حتّمها مستوى التطور الفكري – الفني – التقني، نتيجة مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي .

ان   الهاجس الذي يستند اليه ابرز المسرحيين العرب ينطلق من اعتبار الثقافة ومنها المسرح، من مقومات دفع العملية الاجتماعية الى امام . وهكذا فأن اراء احد المخرجين والمؤلفين للمسرح في العراق كقاسم محمد في البحث عن هوية المسرح تبدأ من هذه النقطة بالذات “… إن المسرح ظاهرة تقتضي الاستقرار في الاوضاع الاجتماعية والسياسية كي نتبين ونتبصر في الواقع ، لتعبر عنه وتضيف اليه وتكشف عنه .. إن هذا الواقع غير مستقر اصلا … ومتغيراته كثيرة ، ناهيك عن انصراف اغلب الحكومات العربية عن المسرح بل ان اغلبها لا يشجعه ولا يدعمه وبعضه لا يريده اصلا .. ولا ننسى امر الحرية في التعبير التي يعاني منها المسرح العربي … فبدون حرية التعبير في الطرح والمعالجة ستكون هناك ازمات لا ازمة واحدة ” (8) وتتوافق هذه التصورات مع افكار الباحث المغربي حسن المنيعي في ” .. ان شروط انتاج حركة مسرحية متحررة وجماهيرية الافاق مرهونة بأنتاج شرط اجتماعي ديمقراطي .. ” ( 2 ب ) لقد اكد البيان  الختامي  لندوة التراث العربي المسرحي التي اقامها المجلسي الوطني للثقافة والفنون والاداب في الكويت عام 1984 ، وشاركت فيها وفود  من عدة اقطار عربية على اهمية ” تعميق حرية التعبير وتوسيع مجالات الابداع الفني ورفع الوصايا عن الفكر المرتبط بالمسرح”. (17) ان عملنا في مجال المسرح ودراستنا لظروف نشوء وتطور الحركة المسرحية في العراق دفعنا لأستعراض اهم الافكار والمناقشات التي كانت صدى للاتجاهات والدعوات لبعث الشخصية والهوية المتميزة في حركة المسرح في البلدان العربية التي جرى تشخيص بعض جوانبها.

بقيت اتجاهات الحركة المسرحية في العراق غير متأثرة لفترة بتجارب وتمرد المسرح البرجوازي في دعواته لألغاء النص المسرحي، كما ان الفهم لدور واهمية النص كان واقعيا، الا ان البحث والتساؤل حول شخصية المسرح في العراق و  هويته  كان ولا يزال مستمرا. ويرى المخرج جعفر علي” إن عراقية المسرح العراقي انما هي ضرورة لفظية وحسب … وان المبرر الوحيد لذكر ” المسرح العراقي ” هو النسبة الجغرافية … ان ذلك بعيد في نهاية المطاف عن القيمة أو مجموعة القيم المتعلقة بالمضمون”. (1 )  ويؤيد ذلك الناقد محمد الجزائري ” المسرح هو مصطلح مجازي يعني انتماءه للوطن وليس اصطلاحاً ثقافياً تقنياً ذا ملامح وخصائص مدرسية ( اكاديمية ) معترف بها ولم يشكل بعد تجربة عالمية يمكن تعميمها ” .(12)  ويطرح المخرج ابراهيم جلال جملة من الافكار بصيغة تساؤلات  بالمقارنة مع بعض المدارس  مثل ستانسلافسكي، برشت، المدرسة الطليعية “كلها جاءت ووجدت، لكن ما الذي فعلناه .. قد نكون قلدناها ، مازجنا بينها، لكننا لم نضع مدرسة او تراثاٍ فنياٍ تستند عليه الاجيال القادمة ” . ( 3)ولهذا فهو يقترح كوسيلة، أن  ” علينا ان نغور في واقع التراث …  نغور في  الجانب المشرق من التراث ، بما يطابق و يلائم واقعنا. التراث هويته محققة و معروفة ، ومهمتنا ان نستند عليه من اجل تحقيق هوية واقع جديد .(3  ) لكنه من خلال طرحه لهذه الافكار لا يشير الى الغاء المسرح التقليدي ، فتطوير العرض المسرحي هي مهمة اخراجية قبل ان تكون ادعاء البحث عن ” هوية وخصائص ” .

ويصف قاسم محمد دور المسرح في العراق بأنه يتميز ” … بوجوده على خارطة المسرح العربي بحضور فنى ذي مستوى تقني وثقافي عال، وذلك من حيث طرائق الاخراج المتقدمة واساليب الاراء المؤثرة ومعالجات النواحي التجسيدية والادائية المتنوعة والتي ينظر اليها المسرحيون العرب بتقدير كبير … وهذا الامر لم يأتِ اعتباطاً البتة، بل جاء نتيجة لأصالة الحركة المسرحية العراقية وارتباطها بالثقافة الوطنية والقومية والتزامها بقضايا الجماهير الثقافية والتربوية ”  .(8) وفي هذا الجزء بالضبط يمكن تشخيص سبل التوصل الى الهوية، فهاجس بناء الوطن وسعادة المواطن كمثل جمالي اعلى جعل المسرح في العراق وجهاً واضح القسمات وشخصية غنية الجوانب . ان تجربة المخرج سامي عبد الحميد قادته الى استنتاج مفاده ” أن التمييز يعني امتلاك المنهج الفكري الواضح والاسلوب في الاخراج والتعامل مع النص . ( 4) , ويعتقد الناقد ياسين النصير  أن اسلوب خلق هوية وتمايز في المسرح ” يتطلب توافقاً جماعياً في الابداع وان فقد هذا الشرط بقي متميزا من جانب منه وضعيفاً او مكرراً في جانبه الآخر ” والحقيقة ان ما يذهب اليه في مقالته هو عين الصواب ” . ان لمسرحنا ملامحه المتميزة  إلا أنها ظهرت بأجتهادات متفردة ومتباعدة ولم يجرِ حصرها او تطويرها، بدأنا وكأننا بلا هوية وبدأ مسرحنا وكأنه يبدأ كل يوم من جديد ” (16) ويرى أن استبيان هوية المسرح في العراق يكمن في بحث ” علاقة المسرح بالظروف، بالانسان ، وبالافكار ” لكنه وللأسف يترك هذا المنهج الذي يقترحه والذي يتضمن سر التوصل للفهم الحقيقي لمعنى الهوية ويستبدله في مقالته هذه، بتناول الطرائق والمعالجات الاخراجية لدى المخرجين العراقيين، أمثال سامي عبد الحميد، ابراهيم جلال، قاسم محمد وتمايزهم ، كأساس لأكساب المسرح في العراق هويته العراقية. ان هذا المنهج في رأينا خاطئ تماماً اذ انه يتناول هؤلاء كمخرجين فقط وليس كمحصلة للنشاط المسرحي الذي جعل منهم ( مخرجين – مؤلفين ) لهم مساهمتهم في وضع النص المسرحي وبالتالي فان ما قدموه من نصوص تضمن بشكل من الاشكال مخططات لرؤاهم الاخراجية.

إن حقيقة الشخصية المبدعة المتعددة الجوانب لبعض فناني المسرح في العراق كونهم ( ممثلين – مؤلفين او مخرجين – ممثلين – مؤلفين  ) ، أدت الى توجيه أنظار بعض المخرجين إلى جدية التعامل مع  النصوص المسرحية المكتوبة باللغة العربية الفصحى  لكسر الحاجز بينها و بين الجمهور. فأقدم  بعض المخرجين – المؤلفين  و بذكاء على مزج العامية و الفصحى في النص المسرحي  كما فعل قاسم محمد في مسرحية “بغداد الأزل بين الجد و الهزل” و من ثمَ  في مسرحيته “كان يا ما كان” و التي كانت تجربة جديدة،  فريدة و ممتعةلم يعتدها المتفرج العراقي من قبل، وقد قاد هذا البحث العملي في تطوير علاقة المسرح بالجمهور. ومن المفيد أيضا توجيه الاهتمام الى مفهوم الاصالة الذي يتردد بكثرة كمحدد لقيمة العمل الابداعي ولنفي صفة التقليد، ويسترعي انتباهنا في هذا الصدد ما يشير اليه المخرج سامي عبد الحميد ” اذا ما اردنا ان نثبت مقدرتنا في الخلق والابداع فيشترط استخدام المضامين الاصيلة والمحلية واخراجها بأشكال واساليب عالمية لكي يكون العمل الفني اصيلا ” ويحدد سامي عبد الحميد  ، سمات الاصالة ” بأيجاد شخصية متميزة لها حدود ثقافية واتجاهات وملامح متفردة ” (4)

إن تفحصنا للأعمال المسرحية العراقية يقودنا الى استنتاج ان بعض الاعمال المسرحية قد تخلصت والى حد كبير من المشاكل التي تعاني منها المسرحية العربية كالتصنع و التجديدات المفتعلة  والانشاء الادبي ذي الالفاظ الطنانة، وعرض العواطف بشكل ساذج وسطحي والمبالغة في عرض المواقف و نسخ تجارب الاخرين.

ونجد لزاما علينا التطرق الى ذكر بعض المحاولات التي لا تتجاوز اهميتها تبادل الخبرة والاحتكاك وتحركها دوافع اعلامية بحتة، لكن تجري المبالغة في ضرورتها في التوجه الى مسرح عربي الهوية، فهي تقصد ربط المواقف في اطار المجتمع العربي لعكس واقعه برؤية شاملة ونسيان الهموم التي تخص قطراً عربياً معيناً ” وهكذا يختلط الماضي بالحاضر وتتشابك المواقف النضالية القديمة وتتلاقى مع المواقف النضالية المعاصرة من خلال نسيج فني واحد” (10) وكنموذج لهذا يشار الى مسرحية ” واعروبتاه ” تأليف الفريد فرج، اخراج كرم مطاوع والتي قدمت في بغداد ومثل فيها مجموعة من الممثلين العرب والعراقيين . يرتكز هذا الاتجاه على اللغه العربية الفصحى كوسيلة لتجسيد الهوية العربية للمسرح، اذا انها تتيح للمسرحية الحركة خارج حدود القطر العربي الواحد . أن تجميع الممثلين العرب وجعلهم يتحدثون اللغه العربية الفصحى لايصنع للمسرح هويته العربية  .

ان مساعي كبيرة قد بذلت لتؤسس وتطور ماجرى بناؤه تأريخياً، مكرسة تقاليد جديدة في مسارح البلاد العربية تستند الى التراث العربي الشعبي بحوادثه وعوالم شخصياته، ورواة شعره وملاحمه وامثلته، أغانيه وموسيقاه وفولكلوره و ربطها بالعناصر المسرحيه الموروثة، مستفيدة من التجربة الانسانية والحضارية موظفة ذلك ضمن الشروط الممكنة لبلورة الوعي الحضاري للمجتمع العربي وهو ما سيؤدي بكل تأكيد  إلى هويّة متميزة للمسرح العربي، كما في كتابات واساليب الفريد فرج، يوسف ادريس، نجيب سرور ونعمان عاشور من مصر. سعد الله ونوس ومعين بسيسو من سوريا. الطيب الصديقي واحمد الطيب العلج من المغرب. عز الدين المدني من تونس كاتب ياسين من الجزائر. روجيه عساف من لبنان، يوسف العاني، طه سالم، عادل كاظم، محي الدين زنكنه، نور الدين فارس، وقاسم محمد من العراق. ابراهيم بوهندي وحسن يعقوب العلي من الكويت .

مما سبق يمكننا أن نستنتج غياب صياغة واضحة ومحددة لمفهوم الهوية او الشخصية في المسرح العربي. فاذا ادركنا ان هوية المسرح مفهوم متحرك قد تطور تأريخيا، نتيجةً موضوعيةً لعلاقات الواقع و ارتباطها العضوي بالمتغيرات المحلية والعربية والعالمية، فهذ بالتأكيد سيساعد وسَيُمَكِن من صياغة مفهوم الهوية الذي نسعى له. فالهوية بمعنى الحداثة أو التجديد، تتحقق بمقدار انسجام مجموع القيم الفنية مع المضمون الاجتماعي الذي تطرحه و المثل الاعلى الجمالي الذي تدعو له. معيار امتلاك المسرح في الوطن العربي،هويةً، يكمن في اعتقادنا،بفاعليته الاجتماعية وسعيه في هذا السبيل. ومن اجل انجاز هذا فلا مناص من امتلاك الوضوح في الرؤيا والاستناد لمفهوم الواقعية الحيوي، الاساس الذي سيجعل المسرح يتطور بشكل منسجم وعقلاني مع ظروف ومتطلبات المجتمع العربي الحديث.  (1988) 

…………………..

*الصورة: مشهد من مسرحية أضواء على حياة يومية، 1977، ويظهر فيه د. إقبال محمدعلي و د. فاضل خليل، تأليف و اخراج الفنان الراحل الكبير قاسم محمد على خشبة “فرقة المسرح الفني الحديث”

المراجع :

   1- جعفر علي :” مقدمة لدراسة المسرح “/ مجلة الثقافة الجديدة – بغداد,1975, العدد 61  

   2- حسن المنيعي :” محاولة البحث عن صيغة مسرحية متميزة” / مجلة خطوة , العدد3/4.الدار البيضاء,العدد3/4 .

  3- حوار بين أبراهيم جلال و سامي عبدالحميد :”البحث عن هوية متميزة للمسرح العراقي , 

    جريدة الفكر الجديد,بغداد,1978,العدد 287      

  4- سامي عبد الحميد :” الأصالة و التجديد في المسرح العراقي” / مجلة المثقف العربي, بغداد 1971, العدد1. 

   5- صافيناز كاظم : ” في تكوين الناقد  المسرحي” /مجلة آفاق عربية,1980,العدد 2 .

   6- عبدالكريم برشيد : “كتاباتنا المسرحية بين التجريب و التأسيس” /صحيفة أنوال الثقافي,1987,العدد289 . 

   7- علي الراعي : “الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري” / كتاب الهلال,1968, العدد212  .

     ( 7 ب)  “بعض التجارب المسرحية في أدبنا المسرحي”/مجلة الأقلام العراقية,بغداد,1971,العدد3,السنة التاسعة ..

  8- قاسم محمد :” مقابلة مع قاسم محمد”/ جريدة الخليج ,الشارقة, 30/03/1985 .

  9- كرتوويسكس جيرزي : ” ترجمة كمال نادر” / دار الؤون الثقافية العامة,وزارة الثقافة و الأعلام  ,بغداد . 

   10- نبيل بدران : “واعروبتاه:خطوة نحو مسرح عربي “/ مجلة آفاق عربية,بغداد 19 ,العدد12 .

   11- نعمان عاشور :”خالق النص و صاحب العرض” , مجلة فصول, الهيئة المصرية العامة للكتاب ,1982, العدد 3 .  

  12- محمد الجزائري :” أعطني مسرحا جيداً,أعطيك شعبا مثقفا”,1976,السنة الثانية,العدد 1 .

  13- محمد عزيزة :”الأسلام و المسرح”/ترجمة رفيق الصبان / دار الهلال ,1971, العدد243  .

   14- محمد الكغاط :”بنية التأليف المسرحي في المغرب من البداية الى الثمانينات”/ دار الثقافة و النشر,الدار البيضاء 1986 

  15- محمد مسكين :”كتابة النفي و الشهادة” / صحيفة أنوال الثقافي, المغرب,1980,العدد 298 .                               

 16- ياسين النصير :”البحث عن هوية المسرح العراقي”/ صحيفة الفكر الجديد, بغداد 1976 .  

 17- يوسف العاني :” ملاحظات حول التراث العربي و المسرح” / جريدة الجمهورية, بغداد4/03/1884 .

 

 

مقالات من نفس القسم