البحث عن الذات والبناء الدرامي في رواية “رسائل دامية” للزهرة رميج

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد المسعودي

ماذا نقصد بالبحث عن الذات؟ وأين يتجلى في رواية “رسائل دامية”؟ وكيف يُسهم هذا “البحث عن الذات” في بناء متخيل الرواية وتشكيل بنائها الدرامي؟ وما الأبعاد الدلالية والفنية لهذا “البحث عن الذات”؟

في ضوء هذه الأسئلة سنقارب النص الروائي الجديد للمبدعة المغربية الزهرة رميج، وهو نص يمتد على 538 صفحة من القطع المتوسط، لكنه على الرغم من طوله، فإنه يأسر المتلقي بانسياب لغته، ورشاقة أسلوبه، فضلا عن طرافة عوالمه، وعمق ما يعالجه من أسئلة إنسانية وفكرية واجتماعية راهنة شكلت جوهر متخيله.

و”البحث عن الذات” المراد في عنوان هذه القراءة هو بحث بطلة الرواية وشخصيتها المحورية “دامية” أو “زهيرة” عن موطئ قدم لها في الحياة، وفي دنيا الناس. وهو بحث مضن خاضت دونه صعابا كثيرة، وقاست بسببه ويلات كثيرة حتى تمكنت من تحقيق بعض ما طمحت إليه، واستطاعت أن تجد لها حيزا مشرقا ومُرضيا في ظلمة حياتها، ولو إلى حين.

وعبر تتبع مسار شخصية “دامية”، ومعرفة تفاصيل حكايتها نتمكن من ضبط تشكل البناء الدرامي في الرواية، وهذا البناء لا يتشكل من خلال تصوير معاناة “دامية”، فحسب، وإنما يتبلور من خلال رصد مقاساة شخصيات أخرى عديدة في الرواية، ومن فئات اجتماعية مختلفة، بما يجعل البناء الدرامي في النص متعدد الأوجه، متشابك الأحداث، متنوع الدلالات. وعبر هذا التشكيل الفني في الرواية تستطيع الروائية الزهرة رميج كشف اختلالات اجتماعية ونفسية وفكرية وروحية يعاني منها المجتمع المغربي من خلال متخيل يطرح أسئلة عميقة وجوهرية.

وبهذا فإن العوالم المتخيلة في الرواية وهي تنطلق من حكاية “دامية” وتتمحور حولها تتسع لتقدم رؤية شاملة عن واقع عام يسوده القهر والحرمان والعدوان والظلم وانهيار القيم، تصوره الرواية في سياقات متخيلة، وعبر شخصيات متشابكة مع شرطها الإنساني تشابكات لا تسلم من صراع وعنف، ومحاولات مستميتة من طرف هذه الشخصيات للانعتاق والتخلص من أسر هذا الشرط والتمرد عليه وتجاوزه، ولعل على رأس هذه الشخصيات نجد “دامية” تلك الصبية اليتيمة التي بدأت حياتها خادمة في البيوت، وكان مسار حياتها ينبئ عن استمرارها في مزاولة هذا العمل إلى آخر نفس منها، لكنها كانت في أعماقها تتوق إلى الخروج من شرنقة العبودية والانفلات إلى عالم رحب، عالم عرفته في أول بيت اشتغلت به، ومن خلال سيدة كريمة عاملتها معاملة إنسانية راقية، بحيث ساوت بينها وبين ابنتها في كل شيء، وبخاصة في محاولة تعليمها وتحريرها من الأمية والجهل. وقد كانت الرغبة في التعلم والحصول على شهادة البكالوريا، ثم الانفتاح على المعرفة من أهم محركات البطلة “دامية” للإقبال على الحياة، وعلى تحدي شرطها الإنساني التراجيدي. وقد تمكنت، فعلا، من خلق ظروف مكنتها من تحقيق مبتغاها، ومن ثم تحول وضعها الاجتماعي، وتغير حياتها نحو أفق إيجابي انتهت إليه، وانتهت إليه روايتها.

ومن خلال كل ما عرضته “دامية” باعتبارها الساردة لحكايتها نتبين أن الكاتبة استطاعت أن تقدم الصراع الدرامي لشخصيتها من خلال مستويات ثلاثة:

-المستوى النفسي من خلال الغوص في دواخل الشخصية الموزعة بين قهر وضعها الإنساني المأزوم وتوقها إلى التحرر منه.

-المستوى الاجتماعي من خلال تجسيد صراع “دامية” مع المجتمع وتسلطه وقسوته وممارسته العبودية ضد كل فرد ضعيف.

-المستوى الأسري المتمثل في صراعها مع زوجة الأب، ثم مع زوجها (الفقيه)، أو هما معا.

وعلى الرغم من هذا الصراع الدرامي المتشعب تتمكن بطلة الرواية الانعتاق من وضعها وتحقق نوعا من الحرية وتحقيق الذات كما ألمحنا أعلاه.

ولكن القارئ، وهو يقرأ فصول هذا النص، لا يقف على دقائق معاناة “دامية”، فحسب، وإنما يقف على معاناة شخصيات أخرى ارتبطت بها في سياقات مختلفة: بدءا من معاناة الأب والأم مع أعراف المجتمع وسلطة الأسرة، ومرورا بمعاناتها هي –أي دامية- مع زوجة الأب، ومع الفقيه والسمسار وياسين.. وغيرها من الشخصيات التي تقاطعت معها، ومعاناتها مع السيدات التي عملت معهن وأذقنها صنوفا من المهانة والذلة، ومرورا بمعاناة زميلاتها في خدمة البيوت، وانتهاء بتصوير بعض أوجه معاناة نساء ورجال الطبقة الغنية التي عملت في بيوتاتها. وبذلك تقدم الرواية صورة بانورامية شاملة عن وضع درامي كان نتيجة خلل اجتماعي واقتصادي وسياسي وقيمي تجلت آثاره في حيوات شخصيات الرواية، وهي شخصيات أدت أدوارا رمزية ودلالية هامة لتكشف عن رؤية الكاتبة لما يقع الآن، وفي العالم من انهيارات في مختلف أوجه الحياة، كما ألمحنا.

وبذلك كان تمثيل الواقع في هذه الرواية ينبني انطلاقا من رؤية لا تقف عند وضع اليد على الجراح الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، بقدر ما تستشرف أفقا للأمل من خلال ما جسدته البطلة “دامية” من روح التحدي، وإصرار على التعلم، ومن ثم التحرر من عبودية زوجة الأب، ومن قهر زوجها “الفقيه”، ومن ذل العمل بالبيوت، ومن عار السقوط بين براثن الدعارة عبر التعلم والعمل الشريف. وهكذا كانت الروح الإيجابية عند “دامية” حافزها الأساس نحو تحويل مسارها الدرامي نحو أفق منفتح على الأمل ومترع بحب الحياة.

وتتدرج الرواية في كشف بحث “دامية” عن ذاتها وسعيها إلى الخروج من شرطها الإنساني المهين الذي وجدت نفسها رهينة محبسه في بيت والدها وتحت سلطة زوجة الأب ثم عشيقها “الفقيه” الذي صار زوجا لدامية رغما عنها. وقد كانت لشخصية “الضاوية” أو “مي الضاوية” كما تسميها الساردة/ دامية دورا في تشكل وعي الشخصية بواقعها، وبإمكانات التحرر من معاناتها، كما أن لقاءها بشخصيات أخرى مثل فوزية والأستاذ المحامي بنعمور كان محركا كبيرا نحو تحقيق غاياتها، وبالتالي الإصرار على تحقيق ذاتها وتغيير مصيرها.

وهكذا نرى أن الوضع الدرامي الذي حكم قسطا هاما من حياة “دامية” أو “زهيرة” كان عنصرا فاعلا في تكوين شخصيتها، وتشكيل كينونتها، كما كان حافزا جوهريا نحو بحثها عن ذاتها في واقع ظالم، ومن ثم توقها إلى تغيير شرطها الإنساني البئيس نحو إمكان أفضل. ولا ننسى أيضا أن حبها الميأوس منه للمحامي بنعمور شكل جانبا آخر من جراحها، وكان حافزا إضافيا نحو توقها المستمر إلى تحقيق ذاتها، ومن ثم الإصرار على التعلم، وبالتالي الاقتراب مرة أخرى من الأستاذ (المحامي) على الرغم من وعيها باستحالة أن يربط بينهما رباط العاطفة أو الزواج. وهكذا عملت سكرتيرة في مكتبه، وكانت مساعدته لها كبيرة وقيمة مكنتها من الخروج من مستنقع حياة المذلة والهوان الذي تخبطت فيه طويلا، وشكل بؤرة التصوير الدرامي في الرواية.

……………………

*الزهرة رميج، رسائل دامية، الفاصلة للنشر، طنجة، 2025.

 

مقالات من نفس القسم