الباب الثالث للنجدة

موقع الكتابة الثقافي art 55
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسماء علاء
                                         (1)
لما كان الكل ذاهباً
لما كان الزَّبد خلفي
لما كنا هناك ثم عدنا
هل حقًا عُدنا؟
وإن كنا قد عُدنا
فلمَ أقف الآن بمفردي؟
كان وجهي قبالة البحر
وكانت قدماي تسبران الشاطئ
أنا لم أُبحِر قط
حتى عندما كنتُ في البحر
 لم أُبحر قط
أنا كما أنا.. حالم على الشط
غارقٌ في البحر
أنا هنا وأرى نفسي هناك
الرياح هي الشراع والمرساة قدماي

..

صديقي يلوح لي من البحر، أنظر إليه ولا أبتسم، أنظر إليه ولا ألوح له، كيف لي أن أسأله؛ إن كنتَ مبتور الساقين فكيف تسبح؟ كيف لكَ أن تقطع كل هذا المدى وتعود دون قارب؟

أنا هنا
أطرافي على الشاطئ وروحي لم تُبحر قط
أنا هنا
محدق في المدى
مُخـــيَّل كما تشاء يد الصغير على الورقات
وتلك اليرقة على الشجرة أبحرت ولم أبحر بعد
..
كانت قادمة من الشرق تركض على قدمٍ واحدة. حدقتُ فيها مرتعبًا لكنها عبرت على الذعر كأن الرمال تعرفه، نظرتْ إلى قدميّ في لحظة ثم في اللحظة الأخرى كانت تبتعد ولم أستطع أن أحدد اتجاهها. من هي، وكيف تركض على قدمٍ واحدة؟ لمَ أنا مدهوش للحد الذي لا تخرج معه الأسئلة؟

                                           (2)
كيف يبدو العالم بدون نافذة تراقب من خلالها البحر والنجوم التي تعيش وتموت مثلنا. كيف يبدو العالم وقدماي موجهتان للخلف بينما عيناي مثبتتان على البحر؟ هل أذكر النافذة لأنها لا تبصر سوى السماء مثلي؟
عُدتَ وانتزعتني من الأفكار، سألتكَ كيف تسبح بدون سيقان؟ فحاولتَ أن تخبرني كم أنا مجنون، كنتَ تضحك لكنني لم أكن أمزح. أخبرته عن المرأة ذات القدم الواحدة فضحك أكثر، لكنه ظل هادئًا ينظر مطولًا كأن النظر في عيني أحدهم سينتزع منه حقيقته. لقد مرت أيام طويلة عرفتُ فيها كيف يصبح المرء مكتئبًا، كيف يصبح اليوم قائمًا على قدميه؛ لا تدبان حتى يدب ولا تقفان حتى يستوي. كيف يلفظ المرء في اليوم كلمات قليلات ويحدق في الحائط نصف يومه؛ يحدق وينسى الكلام، يهمل كل التفاصيل وتهمله، لا يعرف الحديث، ينتظر مُضي النهار وينتظر مرور الليل، يشعر أن صوته يتلاشى وأن الحياة لا تكفي. لم يعد يعرف معنى أن تكون بالخارج تسمع أصواتًا جديدة، أن تدع عينيك تومضان في ساحة خريفٍ ربما يكون الأخير. لديه هذا الألم وينسى؛ ينسى أن يكون نفسه، ينسى أن يبحث عن نفسه في الوحدة لأنَّ لا أحد سيقتحم ظلمته سواه. ثم جئتَ أنتَ يا صديقي مبتور الساقين لكنكَ تُكذب ما أراه وتقطع البحر دون أن يقتل الموج رجُلً يسبح بلا ساقين.

                                            (3)
أي طرفٍ يظهر
وأي طرفٍ يختفي؟
 تلك كانت اللعبة
 أيما يشير السحاب
وهناك ستختفي
تكشط السماء غبرة المطر الأسود
وأنا هنا
هالع حتى الأحشاء
..

تركض المرأة قادمة من الشرق، تركض على قدمٍ واحدة. تلك المرة لوحت لصديقي في البحر ثم ابتعدتْ ومجددًا لا أستطيع تحديد وجهتها. تركض على قدمٍ واحدة كأنها تملك قدمين وصديقي يلفحه المد لكنه يعبر بسلاسة، ينهض من الخضم ويذعن للجذب ومجددًا يطفو. لا أحد يعبر البحر بدون ساقين لكن عيناي تقولان إني كاذب. حين تختبرنا الدنيا نبدو في الشمس سائرين على كرات من اللهب، كل الأمواج تهرب منا، كل الطيور ترتفع خائفة، كل البرودة تنقشع عن الجو وكل الأبواب مرصودة. كنتُ من وضع الشمس بالغرفة ورفع من وراء أسوار الجحيم نوافذ للطيور المهاجرة تُحدق في الغرفة وتُلقي الشفقة ثم تهرب. لم أبق في بيت الشاطئ لأنني لم أُرد الاختباء ولأنني أردتُ أن أتنفس، لكنكَ تسبح بلا ساقين والمرأة تركض على ساقٍ واحدة وأنا راسخ في الرمال لا آتي على حركة ولا أحصل على جواب. الليلة مُقمِرة والغد زائف، لا أريده أن يأتي، لم أعد أريد للغد أن يأتي؛ ستعود المرأة للركض سيلوح لها صديقي ثم يجلس بجانبي بعد أن عَبر البحر.

                                      (4)
ستموت الليلة وهذا حسنٌ
سيتحول نصف وجهك إلى ظل تتناثر عليه النجوم
والنصف الآخر مشطور بين البحر وبين النزاع
النزاع الذي سيكون مآله إلى الهزيمة ثم السَكينة
 قُل لي أن الحياة كانت تستحق كل هذا
..

هذه الأقدام المفقودة ليست مجرد أقدام، وكل تلك الآثار عنهم حتمًا ليست مجردة منهم كما يبدو الأمر. في عيونهم نسيج يتآلف بينما أنظر في عيني فأجد الفوضى، ما زلتُ أقترب من نفسي لكنهم ابتعدوا قدر ما استطاعوا عن أنفسهم وما زالوا يبتعدون. النسيج طعنة والطعنة لا تُصاب بمثلها، لكن الخذلان يصيب الفوضى بسهولة وكل هذا الوجوم على وجهي ليس سوى بداية. الشمس تنسكب على الأفق، الجسد الأزرق يفقد بريق الليل، الموج يتلاطم، صديقي لم يخرج من البحر منذ سبع ساعات، المرأة عبرت ثلاث وتسعين مرة، بيت الشاطئ من ورائي يشعر بالوحدة، النافذة لا ترصد الأرض التي أقف عليها وكل الطيور الحزينة ألقت صلواتها ثم هاجرت إلى حيث لا يُشرق الموت على الجثث.
ربما هما مبتوران لكن لا يدميان. أظن أن كل شيء شُيد هنا ليبتر فينا ولنبتر بعضنا البعض حتى لا يبقى شيء قط. نبحث عن العاطفة ونلهث في وحشيتنا بحثًا عن المرفأ الآمن، وفيما تخمد واحدة وتشتعل واحدة نظل نعود للمرفأ نبحث عنا وعن السَكِينة. هل حقًا عبر صديقي البحر كل يوم أم أنني لم أرى آلامه، أم أنه بارع في الاختباء وراء الصور أم أنني لم أبصر سوى الأوهام كما يقول؟ البعض يقطع الحياة بالحزن، يتألم ثم يغلف رئتيه التراب؛ ذاك التراب العنيد إذا غلف قطع الثلج. وإن الألم كالثلج، ستبذل قصارى جهدك لتزيح الغبار بصعوبة فتجد الثلج جاثمًا يثير الجمود ثم تدرك أن الشمس تمتد من وراء الغبار وأن الآلام لا تنهزم في البرد.
الغضب، فالحزن، ثم نرسو في البحر لكنه سيكون رسوًا ذات مرة لا تُجدي الأقدام نفعًا بعدها إن لم يذُب الثلج، إن لم يتفكك الألم. إن كنتَ غاضبًا يا صديقي فالغضب يزول وإن كنتَ حزينًا فالحزن يزول، لكن بتر محل الألم سيضعنا في البرد للأبد بعيدًا عن الشمس، بعيدًا عما يمكن أن نكون وسيزول الألم لكنكَ أيضًا ستزول حتى لو حركت أنفاسك الرمال.

                                       (5)
المرأة عائدة لدورتها الرابعة والتسعين. لم تكن تركض تلك المرة، كانت تجر ساقًا محمومة، تحاول الركض لكنها لا تركض ولا تسير أيضًا، قدم تعوي أمام ساقٍ تزحف، وجهها هَلِع كأنها تهرب من شيء ما. وفي خضم كل هذا لاحظتُ أن الموج يعلو، وأن صديقي يجاهد للطفو على سطح الماء لكن الموج يقتُل فيه والطيور المهاجرة تنوح في الأفق متجهة إلى الشرق. المد يتفاقم، الجسد يواصل انغماره، لم يعد بإمكاني رصد حركاته، لا أرى سوى قسوة البحر والليل الذي يختلج صورة النهار على الموج. المرأة سقطت أرضًا، لا تأتِ على حركة، وجهها مائل إلى الزرقة يثير الفزع، ما زالتْ جفونها تعلو وتهبط، ما تزال حية أو هكذا آمُل.
أنا هنا
عيناي في مواجهة البحر
وقدماي تسبران الشاطئ
أنا هنا
لا آتي على حَراك
كل الصراخ يحترق من الداخل
لأنني لن آتي على حركة
أنا هنا
أنفض الظلال عن رأسي
وأحدق في الحقيقة
أنا هنا
وقد أدركت
أن الطريق كان يجب أن أسيره وحيدًا منذ البداية

..
الرمال لم تعد تحيط قدماي، أشعر أن الرابضين عليهم ولوا فجأة. أظن أنني عرفت الزيف، عرفته على الوجوه التي لا تضحك، وعلى السيقان المبتورة، عرفتُ النقصان وعرفت ألا شيء يندمل إلى نفسه كما كان أول مرة لكننا نمضي. بوسعنا أن نمضي كما نحن مع شيء من الحَيطة، أو ندعي كل يوم أننا شيء آخر ولا باب آخر للدق، لا باب ثالث للنجدة.
كنتُ أراه؛ كنتُ أرى كل هذا التمزق لكنني لم أميزه وراء الطلاء حيث هذه أرض جديدة وهؤلاء رفاق جدد وهذه السماء لم تُرى من قبل. هناك وراء كل هذا الطلاء كانت تقف بالكاد هشاشة مطلقة. لكنني أعلم الآن، إن بترتَ كل مَصاب لن يتبقى شيء ليحيا، وأنا ما أنا عليه لأن الشمس فوقي والأرض تنبت على جسدي.
ألم الفقد يُفقد
ألم الفقد يُفقد
أنا هنا
ويمكنني الحركة أخيرًا
أنا هنا
ولا صوت استغاثة من البحر الخالي أو الشاطئ
أنا هنا حيث المرفأ
أنا هنا
عيناي وقدماي في الاتجاه ذاته
وكل هذا الزَّبد لم يعد بالخلف
أنا هنا
والآن أعلم ألا أحد يركض على قدمٍ واحدة
ألا أحد يسبح بلا ساقين
وأنا أبحرت لكنني لا أذكر
..

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار