الاغتراب بين ميكانزمية الاسترجاع وتأويلية الرمز

منال رضوان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منال رضوان

تتمحور فكرة «أيام الشمس المشرقة» -الرواية الأحدث للروائية د.ميرال الطحاوي- حول ارتحال مجموعة من الأشخاص إلى مكان آخر، ورغم اختلاف ثقافاتهم وأصولهم العرقية وتعدد مشاربهم الدينية، غير أننا نلمس مدى التأثير العامل فيهم والناتج عن الاغتراب، ومحاولاتهم التأقلم مع كل ما هو مختلف طبوغرافيّاً وحضاريّاً وثقافيّاً، وسواء أكان هذا المكان الجديد مُرتَحلا أو مهجراً أو نفياً قسريّا للفرار من قسوة الواقع السابق إلى فضاء يتصوره البعض الحلم، ويضلّ البعض الآخر الطريق نحو إيجاد مفردات التميز ليوتوبيا مزعومة، بينما تشرد ثلة أ?يرة مكتفية باجترار ذكريات الماضي البعيد في أرض المولد، غير أن هذا المزيج العجائبي من دهشة ونفور وضيق وأمل ومرارة لا يبرح كؤوس الجميع.

اعتمدت الطحاوي في روايتها على المفارقات لتوضيح مدى التباين بين السكان الأصليين والعابرين، ففي مباغتة صافعة تعمل على التفات ذهنية المتلقي، تبدأ الرواية بواقعة انتحار جمال ابن نعم الخباز، وهنا تبرز أهمية المفارقة التي تمهد الطريق لمفارقات عديدة، ففي حين أن جارتها سوزانا تعرضت للموقف نفسه وفقدت ابنتها التي قُتلت على يد صديقها؛ إلا أنها تمارس حياتها بشكل طبيعي وتستقبل أصدقاءها على الفراش الذي قُتلت الفتاة عليه، على العكس من نعم التي حاولت تغيير السجاد واستبدال آخر به يحمل لون الصبار كي تستطيع العيش في منزلها. ?ذه المفارقة ليست الوحيدة التي برعت الطحاوي في استخدامها، فعندما تتحدث عن أرض الأحلام تجدها تخلع عليها مفردات القسوة والجفاف، «هنا حيث لا تنبت غير أشجار المسكيت والصفصاف والسنط والنباتات الشوكية وتتضخم أشجار الصبار».

تلك النباتات التي لا توحي سوى بالجدب الذي تتشرب به مسام أبطال الرواية، فنجدهم عبارة عن هياكل مفرغة من أيّ مشاعر إنسانية سوية، ومجرد أيدٍ تكدّ من أجل البقاء بينما تتماهى أمام أعينهم إشراقات الحياة مع ظلال الموت وهم يتسكعون جيئة وذهاباً في «حديقة الأرواح» ولتي يوحي اسمها بالحياة والأمل، لكننا نكتشف أنها ليست سوى مقبرة لدفن الموتى في أرض الشمس المشرقة!

لجأت الروائية لأسلوب الفصحى السلس ما خلا الحوارات التي استخدمت فيها الألفاظ الدالة على البيئة التى انحدر منها أبطالها، كما اتبعت أسلوب السرد المباشر مع استخدام حيلة الاسترجاع لقص تاريخ كل شخصية على حدة وربطها بمجريات الأحداث، وتعمدت طمس الكثير من ماضي بعض الشخصيات أو عدّدت الحكايات عنها وأظهرت التناقض الكبير حول ذكرياتهم مع إبراز ملامحهم الجسدية من خلال وصف دقيق لقسمات الوجوه في بيئتهم الأصلية التي تتماثل غالباً مع أغلب مواصفات أبناء العالم الثالث، بينما في أرض الشمس المشرقة كان التركيز على وصف المظهر الخا?جي لأبطالها من ملابس ومعاطف؛ كأن فقد الهوية يجعل من الجميع مجرد دمى غائمة الملامح لا يُستدل على وجودها إلا عبر الألبسة والأغطية، فأحمد الوكيل زوج نعم وسليم وميمي دونج وغيرهم، لا تعلم عن ماضيهم سوى حكايات ملتبسة ومرويات متعددة، والآن تجد ذاتك أمام كومة ملابس توحي بهوية مستلبة تحت وطأة التهجير للهروب من الحروب والعوز ومحاولات بائسة لإيجاد الأفضل.

كما برزت أهمية الرمز عند الطحاوي لتوضيح المسكوت عنه وفهم المتلقي للمغزى في ذكاء شديد، فبينما قذفت يد زوجة الأب بنعم إلى امتهان الخدمة في البيوت، مثلت هذه المرأة (الريسة) السلطة الفردية الآمرة، وهو الرمز نفسه الذي مهد لمثيل له وجدناه في أرض الشمس المشرقة «متجر جيش الخلاص» الذي يبيع أشياء لا تناسب الجميع؛ لكنه يسلبك دائما القدرة على الاختيار، وهنا تكمن أهمية استخدام الرمز الدال على استلاب الإرادة أو تهميشها في أفضل الأحوال لهؤلاء الأشخاص هنا وهناك.

أيضاً «تلة سنام الجمل» التي تمثل توزيعاً هرمياً لفئة أخرى قانعة غير هؤلاء المنسحقين، لكنهم في واقع الأمر ليسوا في حال أفضل كثيرا؛ فلهم أوجاعهم وطموحاتهم التي يحاولون اجترارها في صمت واستسلام، فتتحول حياة بعضهم إلى تبعية مقيتة لمن هم دونهم ثقافة كالعلاقة التي ربطت نجوى الفتاة السلبية سجينة جسدها الثقيل، التي تسعى نحو الحصول على درجة الماجستير، ونعم الخباز عاملة النظافة. بينما في موضع آخر نجد أن الصورة للعربي المعاصر الذي يحمل الذكاء والقدرة على الفهم والتحليل ولعب دور الجسر الواصل بين علاقات ملتبسة ومحاولة ?لرتق لأخرى متشظية، قد اكتملت بظهور سليم النجار، ذلك الشاب العربي الذي لا نعلم عن جنسيته أو ملابسات اغترابه غير أنه الوجه الحقيقي للمثقف العربي المأزوم.

ورغم تعدد الرموز، غير أننا لا يمكننا بحال إغفال تأويل دلالة الرمز في شخصيتي نعم الخباز وميمي دونج المنحدرتين من أصول إفريقية، فنعم ذات البشرة المحترقة والمشوهة التي ينفر الرجال منها تمثل الوجه القبيح للاغتراب، بينما تمثل ميمي الأمومة والخصوبة والأرض الأصلية التي يرتمي في حضنها الرجال ويطرحون أوجاعهم على جسدها الخصب الذي يقتات على بيع بويضاتها إلى معامل الخصوبة.

وبينما كانت النهايات لأغلب الشخوص نهايات مفتوحة كعمر الابن الأصغر لنعم، أو مبهمة كياسمين العامري، أو مختلفاً عليها سلباً وإيجاباً كأحمد الوكيل وعبد القادر بل ونعم ذاتها، جاءت نهاية ميمي دونج المأساوية واضحة إثر العثور عليها كجثة طافية لم يلتفت أحد إليها كنهاية واقعية لحال شديدة القسوة والبشاعة وصلنا إليها أو صاغتها لنا الأقدار.

وفي النهاية يمكننا القول إن هذه الرواية يعد من أصدق الأعمال الأدبية التي أجادت التعبير عن تصدُّع الذات وتشظيها نتيجة الاغتراب والتهجير.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم