عماد الدين موسى
تنتمي قصيدة الشاعر المصري محمود خير الله إلى ذلك الحيز الهادئ والحميم من حياتنا؛ ثمة النَبرة الرومنسية الخافتة تسيطر على أجواء وعوالم كتابته، جنبًا إلى جنب مع النفحة الموسيقية الهادئة أو ما يسمى بالإيقاع الداخلي للكلمات، تلك المنتقاة بمنتهى الدقة والحنية. قصيدة مدوزنة بروية، فضلًا عن تعابيرها الفتية والنضرة: “لا شيء في هذه الدنيا/ يمكن أن يساوي:/ إطلاق طائرة في السماء/ وعلى متنها…/ أروع القصائد”.
في مجموعته الشعرية الأحدث: “الأيام حين تعبر خائفة”، الصادرة أخيرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة 2019)، “يحمل محمود خير الله على كتفيه معاناة أجيالٍ وأسلاف، لكنه لا يصرخ أبدًا. يحلم بالتحول إلى شجرة تحنو على المتعبين، أو جسر يعبرون عليه، ويحاول تحريك الأوضاع الساكنة، من خلال تحريك النظرات المتجمدة للعالم، هكذا نراه يلعب في صور أشياء مثل القمر، والمطر، والشواطئ، وغيرها، ويرسم لها أشكالًا مختلفة تمامًا، لكنها وثيقة الصلة بمعاناتنا، وجذورها البعيدة”.
في قصيدة بعنوان (عاريًا يتغطى بنافذة)، يقف الشاعر وجهًا لوجه أمام مرآةٍ (نافذة)، تبدو واقعية ومتخيلة في الآن معًا، ليحاكي من خلالها الكائنات والعوالم المحيطة، بنبرةٍ فلسفية، فيها من العتب، بقدر ما فيها من الترويح عن النفس، حيث يقول: “أنا لا أملك/ من حطام الدنيا/ سوى عينين ونافذة/ أرى بهما العالم/ الذي يدور في رأسي”، يتابع: “لا بيت لي/ ولا أصدقاء/ أهلي كلهم هجروني/ لم يبقَ معي دائمًا/ وإلى النهاية/ سوى الشرفات/ كانت تعويضًا كافيًا عن العالم”.
قمرٌ صغيرٌ فوق نافذة
يكتب محمود خير الله، وهو من مواليد 1971، سيرته المؤجلة، بمداد الذكرى وحدها، كونها المدخل السري إلى عوالم الذات ومحاكاة الآخر، ليكون البوح الشفيف والتعبير عن مكنونات النفس، السمة الأبرز والعنوان الرئيس لقصيدته.
في قصيدة بعنوان (وجه أبي) ثمة بورتريه تصويري للأب الراحل بمرضٍ خبيثٍ، يعرج على أدق التفاصيل حتى تلك المتناهية في الصغر؛ رسمٌ دقيقٌ وغاية في الإتقان، يبدأ على شكل حوارٍ هادئٍ بين الأب والابن، لينتقل الحديث الحميم ذاك إلى مناجاة عميقة ومؤلمة، ومن ثم يتحول إلى سردٍ مفعمٍ بالحنين، وتذكر كل ما يتعلق بالأب، من ذكريات أو أي أثرٍ آخر كشريطٍ لا نهائي من الصور، حيث يقول: “أريد أن أحكي حكاية عن أبي/ ولا يموت فيها البطل/ – كالعادة-/ بسرطان الغدد الليمفاوية/ أريد أن أرسم قمرًا صغيرًا/ فوق نافذةٍ/ ولا يتحول بين أصابعي/ إلى رغيفْ”.
ما نجده في القصيدة السابقة من سردٍ شعري للحدث، ينسحب على جل قصائد هذه المجموعة، إذ “ينطلق الشاعر من مشهدٍ عادي، أو فعلٍ مألوف ومكرر حد الابتذال، لكنه يغسله ويحرره، عن طريق وضعه في سياقات غير مألوفة، تجبرنا على نفض الغبار المتراكم على أرواحنا، والنظر بعين جديدة إلى ما حسبناه مبتذلًا وخاليًا من الحرارة”، على حد تعبير الشاعر فتحي عبد السميع.
الإصدار السابع
مجموعة “الأيام حين تعبر خائفة“، التي جاءت في ثمانية وثمانين صفحةً من القطع المتوسط، هي الإصدار السابع للشاعر محمود خير الله، إذ سبقَ له أن أصدرَ المجموعات الشعرية التالية: “فانتازيا الرجولة” (1998)، “لعنة سقطت من النافذة” (2001)، “ظل شجرة في المقابر” (2005)، و”كل ما صنع الحداد” (2010)؛ إضافة إلى عملين آخرين، هما: “بارات مصر.. قيام وانهيار دولة الأنس” (2016)، و”صبي الفراشات الملونة – مختارات شعرية للشاعر الفلسطيني طه محمد علي” (2017).
شارك محمود خير الله في فعاليات مهرجان شعراء البحر المتوسط، في مدينة سيت الفرنسية “أصوات حية” دورة 2015، وفي الدورة الثانية لمهرجان “طنطا الدولي للشعر” 2016، كما شارك بقصائده في مختارات شعرية وأنطولوجيات عربية وأجنبية، من بينها: “صيد وحيد” (القاهرة 2010)، وكتاب مهرجان شعراء المتوسط “أصوات حية” (سيت 2015)، وأنطولوجيا قصيدة النثر المصرية “ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ” (القاهرة 2016).
ترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية، كما ترجمتْ مجموعته “كل ما صنع الحداد” كاملةً إلى الفرنسية، تحت عنوان “Tout ce qu,a fait le forgeron”..
………..
*موقع جيرون (16 فبراير ـ 2019)