الأمومة والموت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 66
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شهاب الخشاب

السماء يغمرها ضوء الخريف الخافت، بينما تشهد الأشجار الحمراء والصفراء مرور سيارتنا في صمت، وكأننا نمضي بين المعزين في جنازة الطبيعة، ونتجه إلى القبر بحتمية ميكانيكية. تحدثني أمي بصوتها الهادئ الواثق، وأستمع إليها بلا إبداء مشاعري سوى بإحناء الرأس وبابتسامة خافتة، تلك الابتسامة المقنّعة التي تعلمتها في صالونات الطبقة الوسطى. كانت أمي تتحدث معي عن حوار مع المخرج الفلسطيني إليا سليمان، الذي سبق ظهوره في بيتنا عبر أفلامه “سجل اختفاء” و”يدٌ إلهية”. قالت إن الحوار دار حول وفاة والدته، وذكر المخرج بحنين وامتنان كيف كانت تضحّكه بمداعبتها وخفة دمها، وكيف لا يستطيع نسيان تلك اللحظات الضاحكة التي أمضاها معها.

أذكر ابتسامتي الصامتة أثناء حديثها عن الحوار، ولكنني لن أنسى البساطة والسلاسة التي شرحت بها الموقف أمام ابنها، الذي ربما يمر يوماً ما بتجربة إليا سليمان نفسه، وربما يتذكر كيف كانت تضحّكه والدته بمداعباتها وخفة دمها. لن أنسى اللحظة ولكنني لم أفاجأ بها، لأن علاقة أمي بالموت تعتمد على شيء من الرزانة، وهي تنظر إلى حتميته كمبرر للاستمتاع بالحياة. هذا لا يعني أن الموت لا يؤثر فيها، بل إن تأثيره أصبح أليفاً بالنسبة لها، فالحزن والأسى يواكبانها كالأعزاء القريبين منها حتى بعد وفاتهم.

تمتاز كتابات أمي بانشغال واضح بالموت، حيث سردت في روايتها الأولى وفاة أختي الصغيرة دنيا زاد فور ولادتها، وذكرت فقدان “ميكي” لجدتها وماضي المدينة في “هليوبوليس”، وبَنَتْ روايتها الأخيرة “أكابيلا” حول اكتشاف صداقة مفقودة بعد وفاة “عايدة”. سمعتُ تلك الحكايات في البيت، ولكن أعترف بأني لم أقرأ إلا فصلاً واحداً من روايات أمي، وهو الفصل الذي يخصني في “دنيا زاد”، ويروي واقعة حقيقية حدثت بيننا، في شقة الهرم الذي بدأنا عمرنا الأسري بها، عندما أعلنتُ لأمي عن حبي لـ”سلمى” في مدرستي الابتدائية.

ليس لدي ذكريات عن هذه الواقعة الآن إلا ما سردته الرواية، وكل ما أستطيع أن أتذكره هي الحوائط البيضاء في المستشفى التي توفيت فيها أختي، بينما كان أبي يتحايل علي بقوله إنها تستريح في غرفة العناية الخاصة، وأقنعني فيما بعد بأنها نُقِلت من الغرفة إلى نجمة في السماء، وأننا سوف نزورها جميعاً في يوم من الأيام. أصبحت النجوم في السماوات تذكرني بدنيا زاد، ولا أتخيل حزن أبي وأمي المتجدد كلما أشرتُ إلى نجمة تائهة بوصفها أختي الصغيرة. لم تتحدث أمي عن هذا الألم قط، لا في صغري ولا الآن، ولكنها تحمله وتتحمله بينما ترى سمات الحياة المستمرة في ولديها، أنا وزياد الصغير. 

راعت أمي ألا تكذب علينا في شأن الموت، وحتى عندما أكدت لي أن أختي أصبحت شهاباً، كانت تنقل محل الموت من الأرض إلى السموات، إلى فضاء أعلى بوسعي رؤيته وتذكّره، ولا يمكن الفرار منه. عندما بلغتُ الخامسة عشرة من عمري، بكيت يوماً بكاءً مفاجأ عند إدراكي بأنني ربما أفنى كما فنيت دنيا زاد، وكأني لم أولد ولن أستمر. حاول أبي وأمي تهدئتي ومواساتي، وقررت أمي أن تحكي لي كيف تعايشت مع الموت منذ شبابها، عندما قرأت أعمال الفلاسفة الستويكيين (الرواقيين) وأدركت أن حزن الفناء يكمن في الفقدان وليس في الموت ذاته.

كففت عن البكاء وأدركت مدى أنانيتي، تلك الأنانية التي دفعتني إلى قراءة فصل واحد من روايات أمي، والتي جعلتني أستقبل منها النصائح والمشاعر والمداعبات بلا استجابة سوى ابتسامة عابرة وعواطف مجففة. بكيت في شأن موتي أنا، وليس فقدان الآخرين، ولم يهزني اختفاء سوى اختفائي. في المقابل، تعثرت أمي إثر فقدان أعز الأهل والأصدقاء، ورغم آلامها المكتومة، تعمدت أن تتعامل مع أسرتنا بحب وحنان وسماحة في حياتنا اليومية.

استعدت في ذهني الحديث عن والدة إليا سليمان في السيارة، بينما كنا ننتظر خروج أخي من المدرسة. سرحت في تأملات كئيبة حنون، ولا زال الضوء الخريفي الرمادي يعقم إحساسي بالعالم المحيط. ركض زياد نحو السيارة بحيوية، وبدأ الحديث عن هموم وفرحات اليوم. اندمجنا في الكلام معاً وامتنعت أمي عن ذكر حوار إليا سليمان فيما بعد. ربما لا تتذكر تلك اللحظة، وربما لم تعنيها كثيراً، ولكنها حاضرة في ذهني إلى الآن، ليس لعمق أو أهمية الحديث، بل لإظهاره ملامح الأمومة عند أمي، التي تواجه استمرار الحياة بوعي مستمر بالموت.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم