مروان ياسين الدليمي
1
تحت وطأة الضوء المتسلل من شقوق النافذة،
أنكمش
كأنني قشرة برتقالٍ .
أرتجف،
كأن جسدي يئن من صوت الصرير البعيد…
صوت الباب الذي لا يُغلق،
صوت المفاتيح التي سقطت سهواً على البلاط،
صوت الزمن وهو يتكسر في تجاعيد يدي.
الألم،
قطرة حبرٍ تسيل فوق المائدة،
تتسع،
تبتلع الأشكال الباهتة —
تجرف الصور من جدران الذاكرة.
ألمس وجهي:
هل أنا ما زلت أنا ؟
هل هذا الجسد،
هذه اليد التي تصدأت من الفراغ،
ما تزال تخصني؟
في الصباح،
ينحني ظلي على الجدار،
أحاول الإمساك به،
أحاول لفّه في منديل قديم…
لكنه يفلت،
يذوب بين أصابعي،
كأنه بخار قهوة لم تُسكب بعد.
هناك،
عند حافة الحلم،
أراكِ،
تركضين في الحقول،
والألم،
يصفّر في أذني
كصفير قطارٍ ضاع بين المحطات،
وأنا
أحمل قلباً بلا ذاكرة،
عينين معلقتين فوق الأسلاك،
وفماً يشبه جداراً عتيقاً،
ولا شيء،
لا شيء سوى هذا الصرير.
2
أتقلب في سريرٍ ضيق،
كأن جسدي قفص ،
والصمتُ هو العصفور داخله.
الألم،
نقطة سوداء تتسرب من بين الضلوع،
تتمدّد مثل حبرٍ في الماء،
تبتلعني،
تُفسد مذاق الهواء…
أجلسُ على الكرسي الخشبي،
المسامير تئنّ،
كأنها تعرف هذا الثقل،
الذي يُلقيه الألم فوق جسدي…
أرفع رأسي،
أنظر إلى السقف:
شقوقٌ تشبه خريطةً ،
أقول:
“ها أنا… شق في سقف العالم “
في الخارج،
تمرّ الرياح،
تسحب الستائر بيدٍ طويلة،
تُطفئ النور،
تترك الغرفة تغرق في ظلامٍ رمادي،
كأنها صندوق مقفل،
كأنني داخل رئتي…
ألهث…
أبحث عن هواء لا رائحة له،
عن ضوءٍ لا لون له،
عن لحظةٍ لا تشبه الساعة.
الألم،
صوتٌ يشبه طنين النحل،
لكن النحل لا يلدغ…
هو فقط يدور حول رأسي،
يبني خليةً لا تراها العين،
داخل جمجمتي،
حيث كل شيءٍ يذوب ببطء،
كأن رأسي إناء شمعٍ يذوب،
والفكرة الأخيرة…
بقايا لهبٍ خامد.
3
الألم،
ليس جرحًا…
بل رائحة تعفّنٍ خفيّة،
تفوح من زوايا الروح،
من فناجين القهوة الباردة،
من حواف الملعقة المهملة،
من أطراف الستائر التي لم تُغسل منذ شهور.
أجلس قرب النافذة،
أنظر إلى الشارع،
الناس يمشون كأنهم لا يملكون أجسادًا،
أحذية تخطو،
وجوه لا تلتفت،
يدٌ تشد ياقة السُّترة،
وعينٌ تختبئ خلف زجاجٍ مبلل…
أتأمل ذلك الفراغ الذي يتكوّر في صدري،
كأنني ثقب صغير في جدار العالم .
الألم…
ينقر رأسي بإيقاعٍ ثابت،
كمن يدق مسمارًا في لوحٍ قديم،
وأنا أسمع:
تك… تك… تك…
حتى يصبح الصوتُ ضوءًا.
أحمل وجهي بين كفي،
أشعر أن ملامحي
تلتصق بصفحات الكتب،
بالأطباق
بالملاعق المعدنية،
بمقبض الباب الذي صار بارداً كقطعة ثلج…
الألم،
ليس زائرًا،
بل هو حجرٌ يسكن في جيبي،
أتذكره كلما حاولت الركض،
كلما حاولت الابتسام،
كلما استنشقت رائحة المطر،
أحمل هذا الحجر…
كأنني أحمل العالم كلّه
في يدٍ واحدة.
4
أقف عند حافة المطبخ،
أنظر إلى صنبور الماء…
قطرة،
ثم قطرة،
ثم قطرة،
كأنها قلبٌ يخفق خارج الزمن.
الألم،
لا يُرى،
لكنه يسكن بين الأشياء:
في الفتات المتناثر على الطاولة،
في قشرة الليمون اليابسة،
في بقعة القهوة التي لم تُمحى،
في خيط العنكبوت المعلق فوق المصباح.
أعدُّ الأشياء الصغيرة،
كأنني أكتب وصيتي للعالم:
منشفة ملعقة على المشجب ،
كرسي ذو ساقٍ مكسورة،
صورةٌ يعلوها الغبار،
حذاء مُلقى عند الباب…
كل شيء يشهد:
أنا هنا،
لكنني أختفي ببطء،
كحبرٍ يُمسح من الورق،
كظلٍّ يختفي عند الفجر.
الألم،
ينمو كعشبةٍ في الشقوق،
كفطرٍ أسود تحت البلاط،
وأنا
أُحاول قلعَه بأظافري،
لكن أصابعي تتكسر.
أتذكّر:
اليد التي كانت تمسح جبهتي،
الصوت الذي قال لي: لا تخف…
لكن الأصوات ،
تصبح صدى بعيداً،
واليد…
صارت هواءً،
وأنا…
صرت صوتاً عالقاً في غرفةٍ فارغة.
5
أقف أمام المرآة،
أحاول أن ألمح وجهي…
لكن الزجاج يعكس وجهاً بلا ملامح،
خطاً خفيفاً فوق سطح الماء،
ينكسر حين ألمسه.
الألم،
ليس خنجراً،
بل هو خيطٌ شفاف يلتف حول رقبتي،
يضيق…
ثم يترك لي الهواء،
يذيبني قطرةً قطرة،
حتى أصير بخاراً
يتصاعد من كوب شاي تُرك وحيداً.
أعدُّ الأيام،
كأنني أحصي شظايا زجاجٍ تكسر تحت قدمي،
أخطو بحذر،
أسمع صوت الانكسار…
وأنا…
أبتسم،
كأن شيئاً لم يحدث.
الألم،
ينام بجانبي في السرير،
يضع رأسه فوق وسادتي،
يهمس لي بأصوات لا أفهمها،
أغلق عيني،
لكن الأصوات تظل تطنّ،
تدور في حلقةٍ مفرغة،
كأنها نحلة فقدت الزهرة،
وظلت تبحث عنها في قلب الظلام.
أتذكر الغرف القديمة،
التي كانت تُضاء بمصباحٍ صغير،
أتذكر رائحة الخبز الطازج،
يدَ الجارة وهي تسلّم طبق العدس،
أتذكر كل تلك الأشياء الصغيرة،
وأفكر:
هل كانت تلك هي الحياة ؟
وهل الألم هو ما تبقى منها،
كصوتِ ساعةٍ قديمة،
تدقُّ في بيتٍ مهجور؟
6
أجلس تحت شجرةٍ لم يعد ظلها كافياً،
أراقب العصافير،
كيف تقفز من غصنٍ إلى آخر،
وكيف تسقط فجأةً،
كأنها تفهم…
أن الألم ليس وزناً،
بل هو فراغٌ يمسك بجناحيها.
الألم،
يمرر يده فوق كتفي،
كأنني صخرةٌ ملساء،
ينحتني،
يحفر خطوطه في ظهري،
يتركني أقلّ مما كنت…
أحمل حقيبةً صغيرة،
بداخلها أشياء لا تُقال:
مفتاحٌ صدئ،
صورةٌ بلا ملامح،
قصاصة ورقٍ عليها رقم،
وعيناي…
عيناي اللتان لا تنظران،
بل تُطفئان الضوء…
كأن العالم شاشة انطفأت فجأة،
وأنا…
ظلٌّ يتلمس الجدار،
يبحث عن ثقبٍ صغير
ليخرج منه الصوت.
الألم،
يرتّبني…
كأنني غرفةٌ خالية،
يُبدل أماكن الأثاث،
يسحب الستائر،
يطوي السجادة،
يطفئ المصباح…
ثم يجلس في الزاوية،
ينظر إليّ،
كأنه يقول:
“هذا بيتك الآن… لا باب، لا نافذة، لا خروج”.
أغمض عيني،
أرى عصفوراً يرتعش تحت المطر،
وأفكر:
ربما الألم هو المطر،
والعصفور…أنا .
7
أقف عند نافذةٍ نصف مفتوحة،
الهواء يعبر بخفة،
كأن شيئًا لن يحدث،
لكنه يترك خلفه رجفةً في الستارة،
كأنها شبحٌ يتنفس…
أحاول
لمس هذا الشبح،
لكن أصابعي تمر عبره،
كأنني ألمس خواءً له شكل.
الألم،
كلمةٌ لم تُكتب بعد،
ظلّها يسقط فوق الطاولة،
يبعثر الكراسي،
يحرك أطراف الجرائد المطوية،
يملأ الغرفة بصوت لا يُسمع،
لكنه يثقل الهواء…
أتذكر يدي وهي تُقشّر تفاحةً،
السكين يلمع،
الجلد الأحمر يسقط ببطء،
يلتف كحلزون،
وأفكر:
هل الألم يشبه هذا؟
قشرة تُنتزع من جسدي،
دون أن يكتمل الانكشاف…
الألم،
شجرة بلا جذور،
تنبت في سقف الغرفة،
تمتد أغصانها داخل الصدر،
تتسلل إلى الفم،
تترك مذاقًا مريرًا…
كأنني ألوك ظلاً لا يُبتلع.
أجلس قرب الحائط،
أشعر بأنني ثقيلٌ كحجر،
فارغٌ كقشرة جوز،
أسمع صوتي يتردد…
صوتي…
هل هذا صوتي حقًا؟
أم هو رجعُ صوتٍ قديم،
صوتُ من غادروا قبلي،
وصاروا غبارًا في الغرفة…
وأنا…
مجردُ خيطٍ يتأرجح في هذا الفراغ،
ينتظر الريح…
أو السقوط.
8
أصحو في الليل،
أستمع إلى صمت الغرفة…
كأن الغرفة صندوق مغلق…
وأنا داخله،
كعلبة كبريت فارغة.
الألم،
ليس صرخة،
بل خيطٌ رفيع،
ينساب من خلف الأذن،
يتسلل إلى الفم،
ويُغلق الشفاه…
كأن الحروف أحجار صغيرة
تتراكم في الحلق،
حتى يصبح التنفس عملاً شاقًا،
حتى يصبح التفكير جدارًا،
حتى يصبح الحلم… حفرةً بلا قاع.
أمدّ يدي في الظلام،
ألمس الهواء…
وأشعر به خفيفًا،
ثقيلاً،
ساخنًا،
باردًا…أشعر به كجلدٍ آخر،
ينكمش فوق جلدي.
الألم،
يترك أثره:
بقعة زيتٍ على قميص،
خطًا باهتًا فوق الخشب،
صدعًا صغيرًا في الزجاج…
أتبع تلك الآثار،
كمن يتتبع أثر قاربٍ غرق،
أبحث عن صوتٍ لم أعد أسمعه،
عن يدٍ لم تعد تمسك بي،
عن شبحٍ ترك وراءه رائحة المطر…
أمشي ببطء،
أسمع وقع أقدامي،
كأنها ليست لي،
كأنني أراقب رجلاً آخر،
يشبهني،
يحمل نفس الخطوات،
لكن صدره مجوف،
وعيناه معلقتان في مكانٍ بعيد…
مكانٍ لا يصل إليه الضوء،
ولا يسكنه سوى طنين الألم…
صوتٌ لا ينتهي…
لا ينتهي…
9
الألم،
ظلٌّ يلتصق بظهري،
يسحبني ببطء،
كأنني أُغرق في بركةٍ من الرمل.
الألم،
أعرفه من التفاصيل الصغيرة:
من قميصٍ لم يُكوى،
من طبقٍ لم يُغسل،
من كرسيٍ لم يُعاد إلى مكانه،
من وردةٍ ذبلت على حافة النافذة.
أعود إلى غرفتي،
أجلس على الكرسي الخشبي،
أضع رأسي بين يدي،
وأفكر:
كم من الوقت يلزم كي يصبح الجسدُ شجرة؟
كم من الريح يلزم كي تُمحى الندوب؟
كم من الظل يلزم كي تُنسى الوجوه؟
الألم،
ليس نزيفًا،
بل ندبة لا تُرى،
صوتُ صنبورٍ يقطر طوال الليل،
ضوءٌ خافت يتسلل من تحت الباب،
يدٌ خفية تُطفئ المصباح…
وأنا،
أبحث عن وجهٍ في الزجاج،
عن أثرٍ على الجدار،
عن شيءٍ يُشبهني،
شيءٍ يقول لي:
“نعم، هذا أنت…
وهذا هو الألم…
يكبر معك،
ينمو فيك،
يصبحك.”
10
أفتح النافذة،
الريح تدخل،
تعبث بالستائر،
تحرك أوراقًا قديمة فوق الطاولة،
تسحب الغبار من الزوايا،
تتركه معلقًا في الضوء…
الألم،
ليس صراخًا،
بل حفيف ورقةٍ تسقط،
صوت خطواتٍ تخبو في الممر،
رائحة قهوةٍ باردة،
أثر خدشةٍ على سطح المكتب…
الألم،
هو كل ما لم يُقل،
كل ما لم يُلمس،
كل ما لم يُعاش حتى النهاية.
أفكر في الأشياء الصغيرة:
في زرٍ مفقود من القميص،
في حذاءٍ فقد جلده اللامع،
في كتابٍ أغلقته فجأة.
أتذكر الأصوات:
ضحكةُ جارٍ لم أره منذ سنوات،
صوتُ شاحنةٍ تمر في الليل،
أزيزُ المروحة حين تنطفئ فجأة…
كلها أصوات،
تتحول إلى شباكٍ في رأسي،
تتراكم،
تضغط،
تُعيد تكوين الألم…
أحاول الهرب،
لكن خطواتي بطيئة،
يدي فارغتان…
كأنني أحمل صندوقًا شفافًا،
ممتلئًا بالهواء…
والهواء ثقيل…
أثقل من الصمت،
أثقل من الليل،
أثقل من أي شيءٍ آخر.
الألم،
يسكنني،
كأنني غرفةٌ بلا باب،
كأنني كتابٌ لم يُقرأ،
كأنني حلمٌ انكسر قبل أن يُولد…
أنا…أصير أقل .
أصير نقطةً تبتعد،
حتى لا يبقى مني
سوى هذا الألم…
11
أقف على حافة الليل،
أراقب كيف ينساب الألم مثل ماءٍ أسود،
يتسلل بين أصابعي،
يكبر داخلي حتى يصبح قاعةً فارغةً.
الألم،
ليس مجرد صوت أو شعور،
إنه غرفةٌ بلا جدران،
هامسٌ يتردد بين أضلاعي،
ظلٌّ يلاحق خطواتي،
يرسم خريطة فراغي،
يكتب اسمي على رمال نهرٍ لا يجفّ.
أحاول أن أتنفس،
لكن الهواء ثقيـل،
كأنه وحشٌ لا يُرى،
وأنا…أختنق،
لكنّي أظل
كشجرة عارية في عاصفة.
الألم،
هو الكينونة التي لا تختارها،
هو الوجه الذي تراه في المرآة
عندما لا تعود تعرف نفسك،
هو الغصة التي لا تُبلع،
هو قصيدةٌ تُكتب بلا كلمات،
هو حقيقةٌ صامتة،
تُخبرني:
“ها أنت هنا،
وهذا هو وجودك.”