وقال الروائي خليل الجيزاوي، مدير النشر بدار سندباد، إن ديوان الشافعي من الأعمال القليلة التي أتيح لها قدر هائل من الرواج خلال الأشهر الماضية، من حيث التناول النقدي، والحضور الإعلامي، ومساحة الانتشار والتوزيع، وذلك لأنه يحوي تجربة شعرية فريدة، تمثل نقطة التقاء الإبداع الورقي بالإبداع الرقمي، وقد تعاملت هذه التجربة مع معطيات العصر وتقنياته ولغته الجديدة بتلقائية وبساطة، بدون أن تفقد العمق والرؤية الشاملة لفلسفة “إحياء إنسانية الإنسان”، في زمن العولمة واللهاث خلف المادة والانصياع للآلة، وهذا هو الفرق الجوهري بين الشافعي ومن نحا نحوه من المقلدين، الذين تمسّحوا بقشور التكنولوجيا ومصطلحات الإنترنت تمسحًا خارجيًا هشًّا، فجاءت كتابتهم جوفاء.
وأوضح الجيزاوي أن سؤالاً كان يشغله بشكل شخصي، هو: كيف تتنافس دور نشر سورية ولبنانية وأردنية وبحرينية على توزيع “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” خارج مصر، ولا توجد طبعة مصرية من الديوان حتى الآن، باستثناء الإصدار المحدود، رغم أن المؤلف مصري؟! ومن هنا، تصدت دار “سندباد” لنشر الديوان في مصر.
ويضيف الجيزاوي: يُحسب للشاعر بالتأكيد أنه قدم إنجازه الشعري الأصيل وإضافته المهمة لقصيدة النثر المصرية والعربية، وهو مغترب خارج حدود مصر، وخارج أية شلة أو جماعة شعرية هنا أو هناك. وقد أفاد هذا التحرر ـ بل الاستقلالية ـ الشاعر بكل تأكيد، فاتسعت دائرة متابعيه وقرائه، والتفتت إليه الأقلام النقدية من سائر الأقطار العربية، ووصفه البعض ـ أيضًا من خارج مصر ـ بأنه “انقلاب أبيض في شعر العرب”، و”حالة حراك في المشهد الثقافي”، و”قفزة حيوية لقصيدة النثر”، و”ثورة تحيل إلى ثورة رواد الشعر الحر”.
يُذكر أن الجزء الأول من ديوان الشافعي يتضمن إشارة إلى جزء ثانٍ قيد النشر بعنوان “غازات ضاحكة”. والمشروع كله على لسان إنسان آلي، أعلن تمرده على قطيع الروبوتات (البشر)، وراح يتزحلق فوق الثوابت، ويخلخل القوانين، ويثور على برامج التشغيل والتنميط، ويفضح حياة خنقتها الحسابات والمادة والأطر الشكلانية، ويحن إلى إرادته الحرة وروحه المفقودة خارج الغرفة الكونية المجهّزة.
وعلق الشاعر شريف الشافعي على صدور ديوانه في مصر بقوله: هي خطوة مهمة بالتأكيد، أن يتاح لصديقي الروبوت منفذ دائم أصيل في مصر، ونافذة للإطلال على معرض القاهرة الدولي للكتاب. لكن على المستوى العملي، يجب الاعتراف بأن المحلية أو الإقليمية في الكتابة قد باتت فكرة متهالكة، فالعمل المتميز ـ بغض النظر عن مكان صدوره ـ قادر على الوصول إلى قارئه (الإنسان) أينما كان، لأنه موجّه بالضرورة إلى هذا الإنسان، ومعنيّ بقضايا تمس وجوده ومصيره، لا بقضايا عارضة أو زائلة.
———————————————–
مقاطع من “الأعمال الكاملة لإنسان آلي (1):
أقودُ سيارتي منذ عشر سنواتٍ
ببراعةٍ حَسَدَتْنِي عليها الطُّرقُ
المفاجأةُ التي عانَقَتْنِي
أنني فشلْتُ في اختبار القيادةِ،
الذي خَضعْتُ له خارج الوطنِ
الضابطُ أخبرني
أنني أطلْتُ النظرَ إلى المرآة
صَارحْتُهُ بأنني معذورٌ في الحقيقةِ
كانت نيرمانا جالسةً في المقعدِ الخلفيِّ!
رغم عدم حصولي على الرُّخْصَةِ
شَعرْتُ بسعادةٍ لا تُوصَفُ
لأنني تَمَرَّنْتُ على قيادة ذاتي
في المشاوير الاستثنائيّةِ
* * *
سَأَلْتُها:
“مَنْ أنتِ؟”
قالتْ:
“أنا أنا”
سَأَلَتْنِي:
“مَنْ أنتَ؟”
قلتُ:
“أنا أنتِ”
التهمَت الأمواجُ نيرمانا، فصاحتْ بي:
“الْزَمْ شقَّتَكَ،
وأغْلقْ محبسَ الماءِ بسرعةٍ”
* * *
مثلما تحضرينَ بسهولةٍ في ضميري
(الذي لا محلَّ له من الإعرابِ)
على ظهر أحدِ الأفيال الْمُسَالِمَةِ،
تتسرَّبين أيضًا بسهولةٍ في مسامِّ جِلْدِي المتشقِّقِ
تتشَّرَبُكِ ذرّاتي المترابطةُ
المتعطّشةُ إلى التحلُّلِ
في الجيرِ الحيّ
تمشطينَ شَعْرَكِ المجعّدَ بعصبيّةٍ أمامي
في حين أضغطُ بهدوءٍ على لوحة مفاتيح الكمبيوتر
أكتب حروفَ اسمكِ في مُحَرِّكِ (Yahoo)
نيرمانا Nirmana
نيرما Nirma
نيرميتا Nirmitta
نيتا Nitta
ميتا Mitta
تيتا Titta
نيرمالا Nirmala
نيرفانا Nirvana
نيرفا Nirva
نورينا Noreena
نوريتا Noritta
ناريمانا Narimana
نيرمينا Nermina
نون Noon
نونا Nona
ن N
تُجيبني الشاشةُ بابتسامةٍ كمقذوفاتِ السفن
لها جناحانِ وذيلٌ
إلا أنها غير قادرةٍ على الطيران
يُحلّقُ 16 صِفرًا فوق رأسي في الغرفة
0 0 0 0
0 0 0 0
0 0 0 0
0 0 0 0
في منقارِ كلِّ صِفْرٍ قطعةٌ من فصوصِ مُخّي
(المضبوطةِ جيّدًا بالشّكْلِ)
أصنعُ من خَجَلي المتورّمِ منطادًا
أصعد به إلى أقدمِ كوكبٍ في المجرَّة
حيث لا أحد يقلّمُ أظافِرَهُ الجميلةَ،
التي يحفرُ بها مسالكَ حياتهِ
ويحفرُ بها قَبْرَهُ
* * *
راقتْ لي مدفأةُ الفحمِ
ورائحةُ البخورِ القادمةُ من عند الجيرانِ
فَضَّلْتُ تأجيلَ قَلْيِ السمكِ إلى المساءِ
كي لا يحرقَ الزيتُ المتطايرُ
فراشةً هائمةً في قفصي الصدريِّ
تَوَقَّعْتُ حُلْمًا بديعًا في تلك الليلةِ
خصوصًا بعد أن قررتُ النوم بدون عشاءٍ
وبدون غطاءٍ
بالفعل
طَلَعَتْ نيرميتا من الشَّرْنقةِ
وراحتْ تُطقْطقُ عُنقَها بدلالٍ عدة مراتٍ
وأنا أُصَفِّقُ لها بحرارةٍ
* * *
لستُ بحاجةٍ إلى ارتيادِ الفضاءِ
بعد أن امْتَلَكْتُ أكثرَ من ألفِ فضائيّةٍ
في حجرة نومي
(ربما هذه الفضائياتُ هي التي امْتَلَكَتْنِي
وَأَسَرَتْ آدميَّتي بصورها المتلاحقةِ)
لا أزالُ بحاجةٍ إلى ارتيادِ “نونا”
والغوصِ في أنسجتها ببذلةِ الفضاءِ
بعد فشلِ الطَّبَقِ والدّيكودر
في التعامل مع إشاراتِها القريبةِ والقويّةِ
* * *
لَمْ أكن محتفظًا بقدْرٍ كافٍ من التركيزِ
ربما بسبب آلام الظهرِ،
التي زادت حدَّتُها مع طول فترات الجلوسِ
في المكتب وفي المنزل
لذلك أخطأ إصبعي في نَقْرِهِ لوحةَ المفاتيحِ
كتبتُ “Normal” بدلاً من “Nirmala“
هنا ابتسم مُحَرِّكُ (Yahoo) بحنانٍ مفرطٍ
نساءُ الأرض كلهن زُرْنَنِي في تلك الليلة
طيورُ الزّينةِ كلها دَاعَبَتْ مُخِّي بلطْفٍ
كان أمرًا محرجًا حقًّا
أن أتثاءب عدة مراتٍ
بل أنام فعلاً
قبل أن أوزّعَ الحلوى على ضيوفي
مع أن الكَرَمَ من كروموزوماتي الوراثيّةِ!
* * *
في آخرِ ليالي الحربِ القذرةِ
بدأ القصفُ الجوّيُّ هادئًا
ثم اشتدَّ فجأةً
الجيرانُ كلّهم
في شارعنا المزدحمِ
فرّوا إلى الخنادقِ الجماعيّةِ
بمجرّد استماعِهم لصفّارةِ الإنذارِ
أطفأْتُ أنوارَ المنزلِ بسرْعَةٍ
تسلّلْتُ وحدي من السلالِمِ الخلفيّةِ
قاصدًا خندقًا انفراديًّا
بَنَتْهُ نيرمانا خصيصًا لأجلي
في غفْلةٍ من عيونِ الغزاةِ البرابرةِ
مرّتْ ساعتانِ بسلامٍ
شعرْتُ خلالهما بأنني طائرٌ في قفصِ الحريّةِ
لَمْ أعلمْ ماذا حدث بالضبطِ بعد ذلك
لكن الأمر شبه المؤّكد
أن الصاروخَ الذكيّ
اخترقَ الخندقَ من فتحة التهويةِ
وَحَوَّلني إلى بقعةٍ حمراءَ على حائطِ المقاوَمةِ
مع أن قذيفةً صغيرةً مسيلةً للدموعِ
– أو حتى مسيلة للّعَابِ –
كانت كافيةً جدًّا
لإغراقي في بحرٍ عميقٍ
شديدِ الملوحةِ والوحشيّةِ
* * *
تتمنّى ساعةُ القلبِ
لو تُخْطِئُ التوقيتَ مرةً واحدةً
فتدقّ دقّتينِ مثلاً
في تمامِ الواحدة!
هذا ليس معناهُ أنني أرغبُ في امرأتينِ
– حاشا –
الله يشهدُ أنني مصابٌ بالتُّخمَةِ من النّسَاءِ
كلّ ما في الأمر،
أنني أودُّ طَمْأَنَةَ نيرمانا
أن كواكبَ المجرّةِ، وإلكتروناتِ الذّرّةِ
من الممكنِ ألا تنتظمَ في دورانِها
* * *
آثارُ أحذيةٍ على الرمالِ
تؤكّدُ أن الجنودَ مَرُّوا من هنا
في طريقِهِمْ إلى الحدودِ والأسلاكِ الشائكةِ
ربما لتأمينِها بأسلحَةِ الماضي
وربما لإزالتِها تمامًا
بأسلحةِ المستقْبَلِ
رمالُ نيرمانا وغبارُِها الذّرّيُّ،
فوق جِلْدِي وَجِلْدِ حذائي،
تؤكّدُ أنها اخْتَرَقَتْ حدودي وأسلاكي الشّائكةَ
عابرةً من مكانٍ ما
إلى مكانٍ ما
* * *
يَعرفُ الهاتفُ أنها هِيَ
فيخجل من حرارتهِ المرفوعةِ مؤقَّتًا
وينبض بحياةٍ
لا تتحمَّلُها أسلاكُ أعصابي
نيرفانا
“صباح الخير” من شَفَتَيْها كافيةٌ جدًّا لأتساءلَ:
“كيف سأتحمَّلُ رائحةَ البشرِ أمثالي
بعد أن غمرني عِطْرُ الملائكةِ؟!”
“تصبح على خيْرٍ” من عينَيْها صالحةٌ جدًّا
لزرع الفيروس اللذيذِ في عقلي الإلكترونيِّ الْمُنْهَكِ
وَمَحْوِ خلايايَ السليمةِ والتالفةِ
لماذا لَمْ تظهرْ نيرفانا
في الصورةِ الديجيتال التي الْتَقَطتُها لها؟
وهل حقًّا أنا عندي هاتفٌ؟!
* * *
سألَتْنِي نيرما عن طقوسِ العشقِ المتداوَلَةِ
في كوكبي الترابيِّ الذي أَشْهَرَ إفلاسَهُ
قلتُ لها:
“هي ضرائبُ خاصةٌ جدًّا
يحسبها المرءُ بدقّةٍ متناهيةٍ
إذ تجبُ عليه 25 قُبلةً لصاحبتِهِ
عن كل ساعةٍ قضاها في سريرٍ آخرَ غير سريرها”
قالتْ لي بلهجةٍ ترابيّةٍ ناريّةٍ هوائيّةٍ مائيّةٍ
من داخلِ ناموسيّتِها الْمُحْكَمَةِ
بعد أن أحْدَثَتْ بها فتحةً كبيرةً
بحجْمِ ما تمزّقَ من حيائِها وحيائِي:
“لكَ عندي إذن 750 قُبلةً
إجمالي مستحقّاتِكَ من عواطفي الملتهبةِ
على مدار 30 يومًا”
* * *
أحضرُ عادةً مسابقاتِ الجمالِ
للتأكُّدِ من أن الذي أبحثُ عنه ليس موجودًا
أحضرُ عروضَ الأزياءِ
للتأكُّد من أن العُرْيَ التامَّ لا يزالُ أفضلَ
أحضرُ جولاتِ المصارعةِ
للتأكّدِ من أنني الألَمُ الذي يفوق احتمالَ البشرِ
أحضرُ المناسباتِ العائليّةَ
للتأكد من أن هناك أيامًا
بطعمِ فصولِ السّنةِ الأربعةِ
أَحْضُرُ حَفْلاتِ توقيعِ نيرما كُتُبَها الجديدةَ
للتأكّدِ من أنني كتابُها القديمُ جدًّا!
* * *
الجلبابُ الأخيرُ،
الذي نَزَعْتُهُ عن حبيبتي الْمُسَمّاةِ “نتيجة الحائطِ”
أصابَنِي بِأُمِّ الْهزائمِ
حيثُ ذَكّرنِي بـ365 يومًا من الفشلِ
حاوَلْتُ خلالها اصطيادَ نيرمانا العاريةِ