مزامير مهاجر: فرانسوا باسيلي
-1- حيرة الناي
قلت غداً أهاجر
فأَجْهَشَ النَّاي وغنّي
وقد احتار في أمر الوداع
واحتار في ما ضاع
منا، وما جري
كان بيننا ما يشبه الصراع
مع ملاك الرب في العهد القديم
بعضٌ من التقوي، وبعضٌ من خداع
جنةٌ في الأرض تشتري
وجنةٌ تباع
بما لا يملك الفقراء من ذهب المعز
غداً يهاجر
لم يعد له متاع
في هذه الأرض
هل الرحيل نعمةٌ من ربه؟
أم لعنةٌ من فراعنةٍ تلهو به
تراه وهو لا يري
سوي المكتوب في كتابه
عن موته الذي يلقاه في منفاه
بكي وغني
واثقاً أن .. في شتات التيه
لن يظل في متاحف المهاجرين
في “أليس أيلاند”
شيء من مزاميره، أو من مراثيه
غدا يهاجر
مهاجرٌ بلا قضية
سوي الموت البطيء والسريع
علناً أمام الأهل
أو سراً في الشوارع الخلفية
خنتي يا وطني
فكَيْفَ صِرْتُ أَنَا الْمُدَان؟
أنا القتيل في الميدان
وأنت تسجي جسدي
وأنت تسدل عيني الحجرية
-2-إلهة الخصب لا تلد
لا غناء الآن في الشرق
ولا في الغرب
هل حل الفناء علي الجميع؟
جثث بلا أسماء
الأرض تصرخ كالرضيع
والنهد في صدر السماء
حجرٌ دنا وتدلي
فلا رضع الصغير ولا الكبير
فإلهة الخصب التي هرمت
هدمت علي أعدائها ونفسها السرير
لا لذةٌ لآلهة الأعالي، ولا
علي الأرض المسرة
لا معجزات ميلادٍ، ولا بشارة
إيزيس ماتت في جوار زوجها
لم تقمه سوي في الحلم والأسطورة
فلا خلاص لقاتلٍ ولا قتيل
كذب المفسرون لو صدقوا
صلواتٌ بغير عائدٍ، تجارةٌ بالخسارة
بَيْتُ الْإلَهِ هَدَّهُ الدُّعَاة
واللصوص من مغارةٍ إلي مغارة
الغزاة في قلب البلاد
فَرَّ مَنْ فَرَّ، وعاد من عاد
أجسادٌ علي أجساد
مدنٌ بلا مدن
حجارةٌ علي حجارة
بالأمس هاجر
والآن لا له منفي ولا وطن
-3- حرب ضد مجهول
في الضفة الأخري من التاريخ
بحر يموج بالموتي وبالدهر الكريه
قالباً عاليه واطيه وواطيه عاليه
أحدق في ذهولٍ بلا ذهول
فَقَدْ تَعَوَّدْتُ الْمَذَابِحَ وَالْمَدَائِح
علي أيدي الغزاة ومن فم الدعاة
ما قال الله وما لم يقله الله
تَعَوَّدْتُ الحياة بلا حياة
والرحيل بلا رحيل
حاملاً زكائب الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُهَجَّرِين
فارغةً وملآة
كفارسٍ يعود كل ليلةٍ
من حربه ضد مجهول
مثخناً.. وحيداً
قعيداً، في انتظار آخر الفصول
كشبحٍ بلا شبهٍ .. ولا شبيه
لا يداه يداه ولا عيناه عيناه
لا يري ما يراه
هوي ملطخاً بدم الطبول
هَلْ تَكرُّ أَمْ تَفِرُّ بِنَا الْخُيُول
للفتنة الكبري
أم الصغري؟
فيصمت التاريخ
وقد كفاه ما تنبأت به المغول
قبل الأناجيل وبعد الأناجيل
ما قيل من أقاويلٍ وما أسيل
من دم الآيات، ومن صراخ الصخر
وولولات النائحات
مهرولاتٍ من الأشلاء للأشلاء
من قتل من؟
من هدم هذه المدن
أكان منا؟ أم من الأعداء؟
وما هذه الطرق التي بلا وصول
أسير فيها من أمسي إلي غدي
ومن غدي لأمسي
مَنْ قَتَلْتَ أيها المحارب المخبول
قال قتلتُ نفسي.
-4- جسدٌ من أساطير
النَّاي أَجْهَشَ ثُمَّ غنّي
كَمَنْ يُوَدِّعُ كُلَّ شَيْءٍ بَعدِي
كَمَنْ يُقَرِّعُ كُلَّ ضِلْعٍ فيّا
– أأنا المهاجر الوحيد لتلقي
تبعات الرحيل على كتفيّا؟ –
يا إلهة الخصب
يا غاسلة الأجساد بنهرٍ من خرير
فالعاشق يدخل في المعشوق
والخالق في المخلوق
وقليل هذه الدنيا كثير
يا واصلة السماء بالأرض
والأحمر بالأزرقْ
رافلةً في جسدٍ من أساطير
أَمَا خَلعْتِ ثَوْبَكِ الْمُمَزِّقْ
وكشفتِ عن نهدين من وحي المزامير
وقضيتِ ليلةً أخري معي
قبل أن أصعد للشمس
لِأُحْرَقْ.
-5- أين أسند رأسي؟
خسر الناي الريح فجنّ
صار خنجراً
أوغل في القلب لثماً وطعنا
واحداً، ومثني،
وثلاثٍ، هو والريح والنهر
ثالوثٌ من القبس المقدس
جاءنا وما جئنا
بالسحر والشعر، موحياً
لغةً ومعني
فأهاج مهجاً تتغني
في القري، وأضاء مدنا
وتعالي في عليائه، وتدنَّي
عاشقاً تعلق بي، وصار مدمنا
كَمْ بَاعٍ بِالْمَاءِ دَمِي، وَتَمَنَّي
أَْنْ يُقَبِّلنِي، فَكَبَّلَنِي
فكان سَجَّانَا وَسِجْنَا
نايٌ تمدد صار وطنا
وفي ليل الوداع بادر بالعويل
كقاتلٍ يبكي علي القتيل
لَمْ يُبْقِ لِي فِي كُنفِهِ سَكَنًا
وَلَا زَمَنَا
لم يكن الرحيل حلاً
ولا البقاء ممكنا
فرحلت دون أن أرحل
ما نفع أرصفة المواني
وما جدوي المناديل
هَلْ لَوَّحَتْ تُوَدِّعُ الْأَحْبَاب
من مدنٍ إلي مدن
إلي أي أرضٍ أمضي؟
أنا الخارج من كل الأبواب
كل المطارات بيتي
كل القطارات رحلتي
ذهاباً وإياب
متي كان الرحيل بلا ثمن
أو البقاء بلا ثمن
دفعتهما ألف مرة
أنا الفقير الفقير
والغني بالعشق المرير
أَسْهَلَ أَن أَدْخلَ من ثقب إبرة
عن أن أدخل حضنا
ضاقت بي البلاد كلها
لا ليلها ليلي
ولا شمسها شمسي
كم من فتنٍ ومحن
هناك، وكم هنا
سيان أين أسند رأسي
فما نفع الوطن؟
-6- ترك الأرض ومضي
بقي الناي وحده
وبقيت وحدي
لَا تَزَوَّجَ النَّاي الصبية
ولا تَزَوَّجَتْ عَرُوسُ النيل بعدي
تداعي خصرها لما بدا يتثني
فما مصير جنةٍ من عسلٍ ولبن
كانت لنا، ولم تعد لنا
أسمع طلق الأرض
وقد حملتْ كذباً
وولدتْ إبناً لم يعد إبنا
ترك الأرض ومضي
وهل كانت الأرض يوماً وطنا؟
خدع الناي الريح
وخدع الريح الناي
وخدع الإثنان من بقي منَّا
هناك، ومن بقي هنا
وحده، يسامر الحسرة
يسمع الأنين في الضفاف
كأنه بكاء غصنٍ علي زهرة
سقطتْ مبكرة
كأنه بكاء جسدٍ وحيدٍ
لم يبل النيل فيه روحاً مقفرة
ولا الخبز كان كفافه
لا ذاق سلوي ولا مَنَّا
هل يطرق الأبواب ليلاً ويستجدي؟
أيستجدي الغريب وطنا
أم يكتفي بمقبرة؟
هل الأرض تئن
أم أنه جسدي؟
يتدلي مقطوعاً من شجرة
يتلوي جذراً منتزعاً، أوغصنا
مقصوفاً أو معقوفاً..
شوكاً وورداً وسوسنا
-7- كأنني يهوذا
النِّهَايَاتُ تَدْنُو
فما الذي يجدي؟
الْبَلَدُ الْقَدِيمُ ينأي
كُلَّمَا دنا
حَامِلًا مَا تَقَطَّرَ مِنْ نَدي نَفْسِي
ومن جسدي
وَالْبَلَدُ الْجَدِيدُ كُلَّ يوْمٍ يُعِيدُ جَلْدِي
كأنني الآثم الوحيد
كأنني أول من جاء يحمل البلاد
جثةً وكفنا
كأنني يهوذا بِقِبَلَةٍ أُسَلِّمُ سَيِّدِي
كأنني شمشون أهدم معبدي
علي بلدي القديم والجديد
كُلُّ الْبلاد ضِدِّي
الأرض والسماء ضدي
لا وطني هُنَاكَ وَلَا هُنَا
أَيْنَ أَفَرٌّ
وَبِمَنْ
أَلُوذُ
أَنَا ؟