الآخر الهامشي

الآخر الهامشي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

سلمى بالحاج مبروك

تمهيد:  

يرتبط الآخر الهامشي ارتباطا وثيقا بعلاقة الغير ونظرة الآخر فهي تراهن وتساءل مفاهيم الفردية و الجسم الاجتماعي بالتناوب سواء تم ذلك بالنفور منها أو الرفع من شأنها و "تبرز ظاهرة الهامشية على أساس شكلين أساسيين ، أولا واقع الطبقات الاجتماعية المغتربة منذ زمان بعيد عن المشاركة الواقعية في خيرات و أنشطة المجتمع ، إنها الهامشية الاجتماعية و الاقتصادية التي تعود جذورها إلى بنى الإنتاج و التنظيم الاقتصادي للمجتمع .

و الشكل الثاني للهامشية يظهر من خلال رفض إرادي و جلي للاندماج في المجتمع الذي نلفظه : إنها الهامشية الاجتماعية الثقافية" 1. ومهما تكن الأسباب الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية التي تفرز ظاهرة " الآخر الهامشي" . فإن هذا الموضوع ظل من المسكوت عنه وهو ما يدفعنا للتساؤل

التالي :هل لأنه “هامشيّ”  لم يهتمّ الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية  والإنسانية بمسألة ” الآخر الهامشي ” أم أن هذا الآخر الهامشي صار هامشيا بفعل انصراف المنشغلين بالشأن الإنساني عن الاهتمام به و محاولة فهمه كظاهرة اجتماعية و إنسانية . ؟ و لعل ما يبرّر تساؤلنا هذا هو الندرة التي اعترضتنا في مستوى الدراسات و المراجع المخصصة لهذا المشكل لسيما أنه يعتبر حقلا فتيّا في مجال العلوم الأنتروبولوجية حتى أنه كما أشار إلى ذلك Antoine .S Bally“لم تظهر عبارة ” الإنسان الهامشي ” إلا مع عالم الاجتماع روبار بارك (ParkRobert) سنة 1928  ، حيث ظلت طويلا مقتصرة على الاقتصاد ، و بفضل نظرية ” القيمة التبادلية” أخذت مكانة في الأدب العلمي . في حين فضلت العلوم الاجتماعية طويلا مفاهيم أخرى من قبل الفقر ، الأقلية ، المنحرف و المقصيّ و المختلف عبارات متعددة تغطي بطريقة مختلطة ظواهر اجتماعية  واقتصادية و حتى مكانية ” 2  تتميز بالإقصاء و التهميش و كأن كل مجتمع ينتهي بطبعه إلى إنتاج مهمشيه ومنبوذيه و غرباءه . ففي كل زمان و مكان هناك أفراد يعيشون على هامش المجتمع في مواجهة مع الرأي العام و الثقافة الشعبية و التقاليد الاجتماعية ، فقد وضعوا بعيدا و تمت إزاحتهم من الدائرة الاجتماعية لأن حضورهم ينظر له على كونه تهديدا للجسم الاجتماعي فعندها يمكن أن يتخذ التهميش بعدا تراجيديا و يصير هذا الإنسان المبعد “آخر هامشي” . و لئن كانت الظاهرة موجودة بصفة دائمة ، فإن طريقة الاستبعاد أو التهميش لم تكن هي نفسها لأن القيم التي تستند إليها المجتمعات تختلف من مجتمع إلى آخر و من ثقافة إلى أخرى ، ففي قلب الجسم الاجتماعي توجد مراجعات مستمرة لبديهيات و قيم المجتمع المتغيرة وفقا لسياقات تاريخية و علمية ،فالآراء المشتركة و القيم و المعايير ليست ثابتة بل مرتبطة ارتباطا وثيقا بالصيرورة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية فإذا كان الشذوذ الجنسي مثلا  وداخل المدينة اليونانية القديمة مسموحا به بل و متسامحين معه فإن في عصور أخرى قد وقع قمعه و تجريمه و منعه . غير أن فعل التهميش ليس دوما إكراها اجتماعيا بل قد يكون خيارا حين يتعلق الأمر بشكل من التمرد أو الهروب من الحياة الإمتثالية المتطابقة مع قيم و قواعد المجتمع . وهو ما يدفعنا لطرح الإشكاليات التالية : ما معنى الآخر الهامشي هل الهامشية عقاب أم خيار ؟ و هل هو من يقرّر الانسحاب و العزلة الطوعية أم هو من يلفظه عالم القيم الاجتماعية وعالم الإنتاج و الاستهلاك خارج حدوده و يلقي به داخل عزلته المظلمة ؟ لما نصرّ على رؤيتنا للآخر الهامشي بوصفه يمثل خطرا و تهديدا إذا كانوا لا يمثلون سوى أقلية من الشعب ؟ فكيف للكثرة أن تخشى الأقلية في مجتمعات ديمقراطية من المفترض فيها أن تكون الفاعلية فيها للأغلبية لا للأقلية ؟ أليس لهذا لآخر الهامشي مكانة قيمية يتصدّر بها وجاهة الحياة الاجتماعية يساهم من خلالها بإثراء قيم المجموعة لاسيما أنه حامل قيم و سلوكات تختلف عما هو سائد في المجتمع ؟ و إلى أي حد يمكن لمجتمع ما أن يكون متسامحا مع اختلافاته ؟ ثم إلى أي حد يمكن اعتبار تصنيف المجتمع لأفراده إلى أفراد مركزيين و آخرين هامشيين مشروعا قانونيا و أخلاقيا ؟ هل من إمكانية لفهم الآخر الهامشي و قبوله بدل من رمي حجارة الإدانة و التأثيم عليهم دون ندم ؟   

 

1)    في معنى الآخر الهامشي:

الآخر الهامشي هو كل شخص ينسحب من المجموعة التي ينتمي إليها سواء بفعل اختياره أم مجبرا على ذلك . و عادة ما نتحدث عن الآخر الهامشي كشخص يعيش على حافة المجتمع أو هامشه أو حتى خارجه ، إذ أن الهامشي يمكن أن يكون هامشي داخل المجتمع الذي يعيش فيه أو خارج حدود هذا المجتمع ، فالعيش على هامش المجتمع يمكن أن تشمل العيش بعيدا مع أشباهه في شبه عزلة مادية و مكانية و جغرافية أو بمعنى العيش خارج المعايير بمعنى رفض الخضوع و الامتثال لأخلاقيات و قوانين الحياة المشتركة و الذي قد تنتج عنه عزلة أخلاقية و ثقافية و إيديولوجية  بل قد تشتدّ هامشيته لتتحول إلى شكل من العزلة النفسية القاسية ذلك الجانب المظلم من الوحدة ، أن تكون دون الآخرين عندما يكون هؤلاء الآخرون الذين يضيئون كل وعينا يقومون باختزالنا إلى حدّ التألم دون انقطاع عن القلق و طول الانتظار ، فهو لا يتصل سوى بغياب الآخرين و لا يستطيع العيش إلا كانتظار مؤلم لحضورهم . غير أن ارتباط الآخر الهامشي بمجتمع ما تجعلنا نعتبر أن وقوع فعل ” التهميش”  على ” الآخر الهامشي” نسبي لأنه يخضع لخصائص و معايير مؤسسة من قبل المجتمع  و أن هذه المعايير و الخصائص تتغير كما تتغير خصائص الآخر الهامشي ، فنحن هامشيون مقارنة بمجموعة ما مؤسسة في حقبة و مكان ما و في علاقة بمرجعية ذات معايير إجتماعية و أخلاقية و ذهنية ، فهي تحيل إلى محتوى و تعريفات مختلفة . فكيف نشأت ظاهرة الآخر الهامشي ؟ و هل الهامشية خيار أم عقاب ؟

 

2) كيف نشأت ظاهرة الهامشيّة :

مصطلح الهامشية بمعنى الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع يتحدد كنتاج للمجتمع و مدى استعداده للتسامح مع هذا الآخر الهامشي بحيث يصبح هذا الأخير انعكاس مقلوب لهذا المجتمع ، وهو ما يعطي انطباعا أوليا سلبيا عن ظاهرة التهميش التي ظهرت في القرن العشرين لتوضح مفهوم ” الطبقة الدنيا” ، فهي ليست محايدة بل تحيل إلى دلالة سلبية ، حيث في عالم يتميز بالتعقيد و التناقض يصبح الضغط كبيرا و ثقيلا إلى درجة عدم الاحتمال لدى البعض و يجدون في رفض مبادئ و أساليب السلوك المفروضة من قبل الحياة الاجتماعية وسيلة و حلا للهروب من وطأة الحياة اليومية و لئن كانت الهامشية ليست نتيجة دوما لاختيار حياة الهامش على المركز ، إذ يمكن أن يكون المجتمع هو القوة الطاردة و النابذة للآخر ، فإن ما يوحد بين الهامشية القسرية و الهامشية الاختيارية هو الشعور بعدم الفهم و الرفض المتبادل بين الكائن و المجموعة . بما ينجر عنه تعامل فظّ من قبل المجتمع قد يصل إلى تهميش الآخر جسديا و إثنيا و عرقيا و جنسيا و ذهنيا و دينيا بطرق تتراوح بين الطرد و النفي و الشفقة أو اللامبالاة .

لكن الأهم في كل ذلك أن مفهم ” الآخر الهامشي أو” الإنسان الهامشي ” لم يظهر إلى حيز الوجود كظاهرة اجتماعية إلا سنة 1928 كما أشرنا سابقا مع Park  في مقاله المعنون ” (“Human Migration and the marginal Man  ” ) 3 “حيث أهتم بارك بسؤال الانتماء الثنائي للفرد المهاجر من جهة لمحيطه الثقافي و مجتمعه الأصلي و من جهة أخرى أنتساب هذا الفرد إلى محيط ثقافة و مجتمع الاستقبال الجديد ، حيث حاول أن يفهم ما يحدث من حميمية داخل الشخصية التي تعيش مثل هذه الوضعية ذات الانتماء المزدوج

منطلقا من ملاحظة ظواهر الهجرة التي لا تطرح مشاكل ديمغرافية و جغرافية فحسب و لكن أيضا مشاكل ثقافية و نفسية , حيث تمثل ظاهرة “الهجرة” هنا حسب رأيه عاملا أساسيا لتطور الثقافات ، إذ يثبت تاريخيا أن كل تقدم في ثقافة ما يبدأ بفترة هجرة ، و لكن ما هو جديد بالنسبة للعصر الراهن أن حركية الأفراد بصدد النمو في حين الهجرة الجماعية للشعوب تنخفض بصورة ملموسة ، ينشأ عن هذا التصور المزدوج حسب بارك تكون نموذج جديد للشخصية يحدده روبار بارك ” بالإنسان الهامشي” ، فالمهاجر الذي أختار الابتعاد عن مجتمعه الأصل أو الذي تمّ إبعاده دون أن يكون قد أندمج فعليا و بعمق في مجتمعه الجديد يبدأ أكثر فأكثر عزلة و يجد نفسه في مواجهة ثقافتين . فما هي النتائج المترتبة عن هذا الوضع الهامشي الذي يعيشه الفرد داخل مجتمع ما ؟

من الأكيد أن مثل هذا الوضع الذي يعيشه الإنسان الواقف على شفا ثقافتين متناقضتين هو استحالة التماثل التام و الممتلئ مع إحدى الثقافتين أو كليهما التي ينتمي إليهما و من المفروض المشاركة فيهما , إنه فرد قد أجبره المصير على العيش داخل مجتمعين و ثقافتين ليس فقط مختلفتين بل متضادتين و حتى يمكن أن تكون عدوتين تعكس في روحه الاختلافات و التنافر و الانجذاب في نفس الوقت لهذا العالم وهو ما يؤدي إلى نوع من القلق وضع قاس و حاد يدخل الاضطراب الأخلاقي و النفسي لأن الآخر الهامشي يعيش في نفس الوقت في عالمين إلى حدّ ما غريب بما هو ” شخص لا ينتمي و ليس جزء من المجتمع الذي يختار المكوث فيه” . هذا فيما يتعلق بالآخر الهامشي الذي هو يكون نتاجا لظاهرة الهجرة التي ركزت عليها مدرسة شيكاغو الاجتماعية ، غير أن الآخر الهامشي لا تنتجه ظواهر الهجرة فقط بل توجد عوامل أخرى لا تتأتى بفعل الانتقال الجغرافي من مكان إلى آخر ، بل توجد نماذج أخرى مختلفة من الآخر الهامشي قد تختلف من زمن إلى آخر و من مجتمع إلى آخر متكونة من أناس يعيشون على هامش المجتمع و نذكر على سبيل المثال : المتشردون و المتسولون و من لا مأوى لهم ، فهم ” صعاليك” غلاظ حسب تصنيف المجتمع لهم على الرغم من أن لهم حقوق اجتماعية و مدنية و سياسية . كما أن في العصور الوسطى أعتبر آخر هامشي المرضى ( مثل مرض البرص) و المعوقين و المتورطين في مهن غير شريفة ( مثل ممارسة مهنة البغاء) ، و حتى الأقليات من مختلف الإثنيات مثل اليهود و الهراطقة  . فهل أن الآخر هامشي هو من يقرّر طواعية الانسحاب والعزلة من المجتمع أم أن هو الذي يلفظه المجتمع خارج حدوده و يدبّر له مكيدة الإقامة على هوامش المدينة الاجتماعية؟ 

 

3) الآخر الهامشي : بين تراجيديا الانصياع للهامشية و إرادة الاختيار لها :

إذا كان الآخر الهامشي هو نتاج لمنظومة اقتصادية و اجتماعية و حتى سياسية و أن هذه المنظومات هي التي تلقي به خارج أسوار الانتماء إلى المجموعة حسب سلم المعايير التي الذي اختارته لنفسها ذلك أن المجتمع هو الذي يحدد منظومة قيمه و يلزم أفراده بالانصياع لسلطتها فإن انزياح الفرد عن نظام المجموعة يلقي به في دائرة الآخر الهامشي و يفرض عليه المجتمع نظرة دونية متلبسة بالاحتقار تجبره على الانطواء و الانكماش على ذاته ، حيث يتحول التهميش إلى فعل قسري . فما معنى أن يكون الآخر الهامشي خارج دائرة المركز ؟

أ/ الهامشية القسرية أو الآخر خارج دائرة المركز: إن الآخر الهامشي المتموقع ضمن نظام اقتصادي و اجتماعي محدد قد يجد نفسه خارج النسق الاجتماعي دون أن يكون راغبا في ذلك حيث يلفظه عالم الإنتاج خارج حدوده سواء كان هذا الإنتاج اقتصاديا أو رمزيا ثقافيا يتجلى في شكل المنظومة القيمية و الرمزية و الثقافية لمجتمع ما و هذا النفي و التهميش يمكن أن يكون نفيا من النسق الاجتماعي أو نفيا داخل النسق الاجتماعي ، فبما أن كل مجتمع يفترض معايير خاصة به ، فإنه في اللحظة التي يقرر فيها فرد ما عدم التوافق هذه المعايير أو رفضها و تعطيلها ، فإنه يصبح في تصور المجتمع الذي ينتمي إليه كهامشي و يتخذ “عقاب التهميش” أبعاد مختلفة وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الطريقة التي يتبعها المجتمع تجاه الخارجين و المتمردين على سلطة معاييره ؟

أ‌)       الوحدة : la solitude ) ) يعيش الآخر الهامشي حالة من الوحدة و تعني الوحدة ” وضعية موضوعية تتمثل في خاصية الشخص المنفصل عقليا و جسديا عن أشباهه ” 4  ، يكون الانفصال جسديا حين تمنع عناصر بيئية الفرد على أن يكون في تواصل مع الآخرين . و عقليا عندما لا يتواصل الأول( أي الفرد) مع الثاني ( أي الآخرين ) حتى في حالة حضوره . نظرا لأن الوحدة حالة موضوعية فإن الوضعية التي يوجد فيها الشخص وحيدا هي ” محايدة” ، هذا يعني أن الوحدة لا هي مؤلمة و لا هي جيدة في ذاتها . هذا يعني أن الوحدة لا هي بالخير المحض و لا هي بالشر المحض ، و لكن يمكن أن تجعلنا سعداء أو تعساء حسب الطريقة التي تعاش بها . إنها في بعض الأحيان مطلوبة لأنها تسمح للفرد أن يستعيد حياته الخاصة و الحميمية  و توازنه النفسي . إنها يمكن أيضا أن توفر لحظات من الإثارة الشديدة في أنشطة مثل التفكير و التأمل في حين أنه عندما تكون الوحدة مفروضة بدل أن تكون مرغوبة فيها ، فإنها تخلق شعورا بالوحدة و انطباع الهجر و التخلي أو اليأس . أما الشكل الثاني الذي يتجلى فيه الآخر كهامشي فهو من حيث هو ذات مغتربة ، فماذا نعني بالاغتراب ؟

ب‌)  الإغتراب : l’aliénation  استعار كارل ماركس مفهوم الاغتراب من الفلسفة الهيقلية و أدخله في علم الاجتماع و استعمل هذا المفهوم من قبل العديد من الكتاب الذين أعطوه دلالات كثيرة ، هذا المفهوم له معنى مشترك بالنسبة لأغلبية المفكرين الذين استعملوه بمعنى فكرة الخارجية (l’idée d’une extériorité  ) بمعنى المسافة بين الكائنات الإنسانية و الأشياء . و الخارجية يمكن أن تأخذ شكلين : بمعنى الفصل بين الكائنات و الأشياء أو بمعنى سلب الكائنات . الشكل الأول هي الوحدة لأن الفرد الذي هو مفصول عن أشباهه هو ضرورة وحيد . لكن هذا النموذج من الاغتراب مرتبط بالآخر . الكائن المسلوب عن ذاته ، كما بينه ماركس ، يصبح غريبا سواء بالنسبة لشخصه الخاص أو بالنسبة للآخرين .

بالإضافة  إلى ذلك يعكس مفهوم الاغتراب في نفس الوقت حالة موضوعية و مشاعر تلهم الوضع الحالي . هذه الفكرة تمّ توسيعها من قبل الاجتماعيين المعاصرين الذين يستعملون مفهوم الاغتراب . يعتبر الفرد الهامشي بالنسبة لهم معزول اجتماعيا أو هو الذي يشعر أنه وحيدا سيكون مغتربا بما أنه مفصول و منقطع عن أشباهه . وهو ما يعني أن سوسيولوجيا الاغتراب هي سوسيولوجيا الوحدة . غير أن الآخر الهامشي يمكن أن تصل وحدته إلى حد العزلة الاجتماعية حيث يفقد اتصالاته وعلاقاته الاجتماعية الحميمية التي هي أساسية بالنسبة للكائن البشري . فما المقصود بالعزلة الاجتماعية ؟

ج) العزلة الإجتماعية: l’isolement social  يصف مفهوم العزلة الاجتماعية الحالة الموضوعية التي يوجد فيها من تم فصله عن محيطه و عن المجتمع . فالعزلة الاجتماعية هي إذن شكل آخر من الهامشية و الوحدة والاغتراب . إضافة إلى ذلك فإن هذه الظاهرة لها أبعاد كمية و نوعية . كمية في علاقة بحجم العلاقات الاجتماعية التي يملكها الناس البالغون أو لعدد الأدوار التي يلعبونها في محيطهم . و نوعية من حيث الشخص المعزول الذي تنقصه العلاقات التي تسمح له بالتفتح و إعطاء صورة إيجابية عن ذاته . هذا النوع من العزلة التي تصيب الآخر الهامشي تعزى في الغالب إلى شعور الوحدة . حيث ينتاب الفرد شعور بالألم و بالحرمان من العلاقات الاجتماعية .

“حسب Weiss يوجد نموذجان للشعور بالوحدة : واحدة نتيجة للعزلة الاجتماعية و أخرى متأتية من العزلة العاطفية ، الشعور الأول مثبت عندما لا يكون الشخص ملتزما داخل شبكة اجتماعية ثرية و ديناميكية لتلبي احتياجاته العاطفية و الاجتماعية . و الشعور الثاني يظهر عندما لا يكون الفرد في ارتباط وثيق بأشباهه .” 5  .

لا شك ان الآخر الهامشي حين يفرض عليه مجتمعه هذه الأنواع المختلفة من التهميش و الإقصاء و النفي والاستيلاب و الوحدة و العزلة فذلك تعود بالأساس لكون هذا الآخر يرفض التأقلم مع منظومة المعايير التي يكونها المجتمع لنفسه سواء المملاة من قبل القوانين أو سواء كانت نتيجة توافق المجتمع حول مجموعة من المعتقدات و الأحكام المسبقة حيث تمنحها القوانين مصادقتها الشكلية و حيث يتم نقلها إلى الأطفال بفعل التربية منذ الطفولة  لتساعده على التواصل مع الآخرين و تطمح إلى الحد من نرجسيته و حريته اللامحدودة بطريقة تجعل هذه الحرية قابلة للحياة و يصير هو مقبولا من قبل المجموعة التي ينتمي إليها ، من هنا نفهم شدة العقاب المسلط على كل ذات تبيح لنفسها التمرد على قيم و معايير المجتمع التي تؤدي كما رأينا سابقا إلى تهميش الفرد و النظر إليه نظرة جحيمية تسلبه انتماءه للمجموعة بما أن فعل تقييم السلوك داخل المجتمع يتم بالعودة إلى سلوك الأغلبية حيث يصير ليس ” الإنسان بصفته الذاتية المفردة مقياس الأشياء” كما حددها بريتا غوراس بل المجموعة و المجتمع و ما يحمله من عادات و سلوكيات ومعتقدات هي المقياس والمرجع .( مع الملاحظة هنا أن القيم تختلف عن المعايير فالأولى تتموضع على صعيد العقل الخاص أما المعايير فتتموضع على صعيد العقل العمومي فهي نتيجة توافق اجتماعي تمتلك صبغة إلزامية قهرية و بالرغم من كونها لا يمكن فص لها عن النسق القيمي للمجتمع فإنها متقدمة عليه من حيث التوافق الاجتماعي).

بالتأكيد أن الرأي المشترك متكون بالضرورة من القيم فنحن معا لأن لنا تصور معين للخير و الشر و القبح و الجمال . في حين يكون مجتمعا ما نرسيسيا حين يستمد تصوراته هذه للجمال و الخير من نخبته و من أعضائه الأكثر قوة و سلطة و ما هو قبيح و شرّ ممن يمثل حالة فشل و عذاب ، من يقود عملية اختراق ضد القوانين ، من يضع موضع خطر رفاهية و عيش المجتمع و من هنا فإن الآخر الهامشي هو بالضرورة إلى جانب الشر الذي يمكن أن يأخذ دلالة أخلاقية أو استعارة بمعنى المرض فكل شخص مناهض للمعايير الاجتماعية أو يعيش خارج المجتمع فهو ينظر إليه ليس كهامشي فقط بل كمريض مؤقت أو أبدي . يتعلق الأمر بلفظ المجتمع عضوا غير أهل للحياة الاجتماعية الصارمة ، ميشال فوكو في كتابه ” المراقبة و العقاب ” أثار فوكو مسألة علاج المجرمين على مر العصور . التي كانت تقوم على مشهدية العقاب المادي و مسرحته بحضور جمهور اجتماعي غفير إلى نوع من العقاب الروحي اللامرئي تختفي وراء جدران السجون الحديدية الصامته حيث تتم إعادة إنتاج وبث الإنضباطية الاجتماعية ممن تتم إدانته من قبل المؤسسة الاجتماعية حيث يقول فوكو ” إن السجن و الاعتقال والأشغال الشاقة و المؤبدة و منع الإقامة و الإبعاد – و التي احتلت مكانة هامة في الأنظمة الجزائية الحديثة – تشكل بالتأكيد عقوبات جسدية …فالجسد بموجب هذا النوع من العقاب ، إنما يؤخذ ضمن نظام من الإكراه و من الحرمان و من الالتزامات المحظورة 6  . ”  

 

هوامش:

1[1]La marginalité sociale un réservoir de contestation ; 1971 ( un article publié dans l’ouvrage sous la direction de Claude Ryan ; pp 41-47 ; Montrèal ; les Editions Hurtubise ; 1971 ;311 pp Guy Rocher .)

 

2[1]Antoine . S .Bailly ; La marginalité ; une approche historique et épistémologique . p109 ( In: Anales de Geografia de la Universidad Complutense, 1995, n° 15, p. 109-117.)

 

3[1]CUCHE Denys (2009) « L’homme marginal » : une tradition conceptuelle à revisiter pour penser l’individu en diaspora, Revue Européenne des Migrations Internationales, vol. 25, n° 3, pp. 13-31.

 

4[1] de Marc-André Delisle, La République du silence. P 16 chapitre 1 Édition les classiques des sciences humaines 1987

 

5[1] de Marc-André Delisle, La République du silence. P 17 chapitre 1 Édition les classiques des sciences humaines 1987

6 ميشال فوكو ، المراقبة و المعاقبة القسم الأول ( تعذيب) الفصل الأول ( جسد المحكوم عليه ) ص 53 ترجمة مركز الإنماء القومي بيروت 1990[1]

 

ـــــــــــــــــــــ

سلمى بالحاج مبروك

كاتبة – تونس

ـــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: سعد سداوى

ــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم