د. نعيمة عبد الجواد
بكل قسوة، نهر أخاه الصغير، وأخذ يصرخ فيه بعنف دون أن يبالي بمحاولات أخيه التي تستجدي إياه أن يكف عن الصراخ، وتقييد حريته.
عمر يعتقد أن أخاه الكبير عماد يقسو عليه بشدة. فكونه الأخ الأكبر لا يعطيه الحق في أن يرسم خطوط مستقبله؛ فهو على مشارف الانتهاء من المرحلة الجامعية، وبعد شهرين ونصف لسوف ينهي اختباراته. وما دام منتظماً في استذكار دروسه، يحق له بين الحين والآخر أن يرفه عن نفسه بالخروج والسهر مع أصدقائه على الأقل يومين في الأسبوع. لكن عماد يراه مقصرا دوماً، وهذا ما يثير حنقه من أخيه الأكبر الذي يتحكم فيه كما لو كان أبوه الذي فارق الحياة وهو لا يزال في مرحلة الطفولة. فكونه ناجحا في عمله لا يعطيه الحق أن يتباهى أمامه بإنجازاته، وبسيارته الفارهة التي يحافظ عليها كما لو كانت معشوقته، لدرجة أنه يرفض أن يتركه يقودها، أو حتى يلمسها. كان عمر غارقاً في كل هذه الأفكار، غير منصت لصراخ أخيه الذي باتت مفرداته يحفظها عن ظهر قلب. وبكل جرأة، نظر لأخيه الأكبر قائلاً: “أنا كبرت لدرجة إني لا أسمح لك أن تقيد حريتي بعد الآن. هخرج اليوم لأني وعدت أصدقائي، ولا أستطيع التراجع.” بعد سماعه هذه العبارة التي كانت بمثابة صدمة كبرى له، بدأ عماد يتصرف بعناد وهو يؤكد أنه سوف يجعل أخاه يدفع ثمناً باهظاً من جراء تفوهه بذلك. وبكل برود، أخذ عماد جميع النقود التي في حافظة أخيه، وكذلك الموبايل الخاص به، وأخذ يبحث على سطح مكتب أخيه، وبين الكتب، وفي الأدراج عن أية نقود أخرى. فلم يعثر على شيء. لكنه لمح اشتراك أوتوبيس نقل عام مهمل في أحد الأدراج، فأخذه أيضاً، ودون أن يعي دسه في جيبه. والتفت لأخيه قبل أن يغادر الحجرة في طريقه للخروج من المنزل لملاقاة أصدقائه، ثم قال وعلى وجههة ابتسامة شامتة:
– “إبقى وريني بقى يا كبير إزاي هتخرج، وإزاي هتسمح لنفسك إنك تتصل بأصدقائك حتى ولو علشان تعتذر لهم.”
في هذه اللحظة، كره عمر أخيه أيما كره، وتمنى أن يصيبه مكروه أو على الأقل تتعطل سيارته كي يقاسي – ولو حتى قليلاً- عند فقدان ما يحب، حينئذٍ، لسوف يشعر بما أضرمه من نيران في قلبه. وفي لحظة غضب عارم، استجمع عمر قواه، محاولاً أن يلملم كرامته المهدرة، وقال وهو على شفير البكاء:
“على فكرة أنا مش مسامحك، ولا هسامح إنك جردتني من كل شيء”..
انصرف عماد غاضباً، لكنه في نفس الوقت كان سعيداً أنه كسر شوكة أخيه المتمردة، وجعله يرى نفسه مرة أخرى طفلاً على وشك أن يجهش بالبكاء. وعند الباب، وقف عماد يصلح من هندامه ويسوى شعره المتراص بأناقة. وأخذ ينظر لنفسه مطولاً وهو يتخيل مدى حبوره عندما يدخل الكافيه ليقابل أصدقاء قدامى لم يرهم منذ زمن بعيد. ولكم سيكون سعيداً عندما يتباهى أمامهم بمظهره الذي صار أنيقاً، وأنه ذو جسد وارف بالصحة والتناسق كما تدل على ذلك عضلاته المفتولة. أما وظيفته ومدى نجاحه المادي فيها، لسوف يكون حديث الساعة. ولكم كان يسعده كلما فكر في مدى الوجوم الذي لسوف يعلو وجوههم عندما يريهم سيارته الفارهة. ولإكمال هيأته الفتية، ولكي يدخل عليهم كنجوم السنيما، عمد ألا يرتدي معطفه، بالرغم من برودة الجو. فقميصه المستورد، وكنزته الملقاة على ظهره وكتفيه، والتي عقد أكمامها برقة حول رقبته لسوف تتم طلته الرائعة، وخاصة عندما يرى ما آل إليه صديقه أمجد الذي لم يراه عماد منذ زمن. ولكم كان يثير حنق عماد عند التباهى بجماله وشياكته، لكن، كما نمى إلى علم عماد – أن بعد الزواج ترهل جسد أمجد، واختفت ملامح جماله، مع تساقط شعره. نظر عماد مستحسناً مظهره مرة أخرى. وألقى على معطفه نظرة أخيرة غير مبالية لأنه بالتأكيد لن يشعر بالبرد؛ لأن تكييف سيارته الفارهة من القوة لأن يتغلب على برودة أي جو.
فتح عماد باب سيارته ودلف بها، ثم أخذ يضبط جهاز تعيين الوجهة أو “الجي بي إس” المثبت في سيارته لتحديد مكان الكافيه الكائن على الطريق السريع، والذي هو بالتأكيد مكان اللقاء. انطلقت السيارة بكل سلاسة، وكان عماد يعلو صوته بالغناء في حبور مع ما يسمعه من أغاني وضعها على الذاكرة المتنقلة ليسمعها بالسيارة. وكلما اقترب مكان اللقاء، كان عماد يتخيل نفسه وهو يدخل الكافيه آسراً كل من يراه بأناقته، ويلفت انتباه الجميع برائحة عطره الباهظ الثمن المستورد، والذي ادخره في السيارة معه ليضعه على جسده قبيل النزول من السيارة حتى تصير رائحته فواحة تأسر الألباب. وفيما كان غارقاً في أفكاره، وبدون مقدمات أخذت سيارته تتحشرج، وأخيراً توقفت تماماً بعد محاولات جاهدة أن يوقفها بمحاذاة الرصيف ليرى ما أصابها من عطب. لعدة مرات حاول أن يعلم سبب العطل، أو يجعل السيارة تدور مرة أخرى لكنه لم يتمكن من ذلك. وفي محاولة يائسة اتصل بفني إصلاح السيارات، الذي كالعادة لم يرد على الاتصال. وبعد إلحاح شديد باتصاله لعدة مرات، أجابه فني إصلاح السيارات أنه لن يستطيع القدوم؛ لأنه بالخارج، أضف إلى ذلك لا يعمل أي فني إصلاح السيارات في تلك الساعة من الليل؛ لأن بحلول الظلام يصعب تعيين العطب. حاول عماد الاتصال بأرقام أخرى لفنيين إصلاح سيارات ، لكن لم يرد أي منهم تقريباً على اتصالاته اليائسة، ومن رد، كرر له نفس كلام فني إصلاح السيارات الأول، واعداً إياه أن يأتي في الصباح.
ما كان يفكر فيه عماد في تلك اللحظة هو كيف يتسنى له الذهاب للكافيه لملاقاة الأصدقاء ، أو حتى الرجوع للمنزل؛ فكلاهما خيار شبه مستحيل في هذه المنطقة الغير مأهولة. هو الآن في منتصف الطريق لكلا الوجهتين. أخذ يبحث في جيوبه وحافظته عن نقود، لكن لم يجد ولو حتى جنيهاً واحداً؛ فكل ما يملك هو كارت الإئتمان الذي يجعله أساس جميع معاملاته المالية. فكر عماد أنه بكل سهولة قد يتصل بشركة سيارات الأجرة لتوصيله لوجهته، أو يركب أي سيارة أجرة ماراً في الطريق، وبينما يكون متجهاً للمنزل يسحب للسائق نقود من أي ماكينة صرف حتى ولو كان ذلك لسوف يسبب له خسارة؛ لأن كروت الإئتمان مخصصة للمشتريات أكثر منها لسحب النقود. ولسوء حظه، وجد أن شبكة الانترنت لا يوجد لها تغطية في تلك المنطقة. ومن ثم، وجد أن شبكة الإنترنت لا تعمل. فاستبعد خيار وجود شركة سيارات أجرة. وأخذ يتلفت لعله يجد سيارة أجرة تقله للمنزل، أو حتى يذهب للكافيه ومن هناك يستطيع أن يهاتف شركة التاكسي ليقله للمنزل بكل سلام. فأخذ ينتظر مرور سيارة أجرة في الشارع الشديد البرودة، وجسده الذي لا يغطيه الكثير من الملابس يرتعد من البرد. وبسرعة، ارتدى الكنزة الملقاة بلا اهتمام على كتفيه، لكنها لم تدفئه بالقدر الكافي. فأخذ يحتضن جسده لعله يدفئه، لكن فيما يبدو أن جميع محاولاته فاشلة، وخاصة وأنه لا يجد أي مكان يمكن أن يحتمي فيه من الهواء شديد البرودة المصاحب لموجة الصقيع. فلم يصيرأمامه خيار سوى الانتظار في هذا البرد خارج السيارة؛ لأن جهاز التكييف بسيارته قد توقف عن العمل مع تعطل السيارة. وأما السيارة نفسها، فصارت كثلاجة قارصة البرودة، قد يتجمد إن استمر الجلوس بداخلها. بالإضافة أنه عندما دخل فيها مسبقاً قد أضاع سيارة الأجرة الوحيدة التي مرت مسرعة بعد عشر دقائق من الانتظار.
أخذ عماد يتنتظر وينتظر- كما لو ينتظر قدره المحتوم – ووجه قد تحول من البرد للون الأزرق، وصار شعره أشعث. أما ملابسه، فلقد نال منها غبار الطريق، وصارت ياقة قميصه المستورد الفاتح اللون متسخة، وكذلك صار الحال بالنسبة لكنزته الأنيقة. وبعد انتظار مرير لمدة ساعة إلا ربع، بدأ يفكر أن يوقف أي من السيارات المارة لتقله لأقرب مكان مأهول، أو يوجد به شبكة إنترنت، لكن لم يأبه أحد بيده التي تحاول في بداية الأمر أن توقف السيارات المارة على استحياء، ثم صارت تستجدي وقوفهم بعد انتظار ساعة كاملة في العراء في جو قارص البرودة، ويزيد من برودته رياح باردة وكأنها قادمة من القطب الشمالي. أخذ عماد يجري جيئة وذهوباً في مكانه، لعله يدفئ جسده قليلاً وخاصة أن أطراف أصابع قدمه صارت مخدرة من البرد، ولا يستطيع أن يشعر بها على الإطلاق. وأخيراً، وبعد ساعة وربع من الانتظار المرير، جاءه الفرج في شكل أوتوبيس نقل عام، أخذ يشير للسائق أن يتوقف وقلبه يهلل من الفرحة، وكأنه وجد كنزاً ثميناً. وبوجه قاسي، توقف السائق. ركب عماد الأوتوبيس، ولم يتنبه أنه لا يحمل معه آية نقود سوى عند رؤية الكمساري الغليظ القلب يوبخ أحد الركاب بكل قسوة لأن الأجرة ينقصها جنيهاً واحداً، غير مبالي بحنق الراكب رقيق الحال الذي لم ينمو إلى علمه أن أجرة خط الأوتوبيس هذا قد تضاعفت دون سابق إنذار. لكن بكل قسوة، رد عليه الكمساري قائلاً:
– “إحمد ربك أن في أوتوبيس بيمشي في المكان المقطوع ده، ولو مش عاجبك إنزل. أو اتصرف في باقي الأجرة.”
لم يحاول أحد من الركاب إنقاذ هذا الراكب المسكين بدفع باقي الأجرة له. وحدث عماد نفسه قائلاً، أنه لو في ظرف أفضل من هذا لكان قد دفع له كامل الأجرة، بل وأعطاه نقوداً أخرى عليها وخاصة وأن الراكب يبدو عليه رقة الحال. وفي تلك اللحظة، تنبه مرة أخرى أن ليس معه آيه نقود على الإطلاق. فارتبك وهو يفكر بما يمكن أن يحدث له، فقد يزجه الكمساري والسائق بكل قسوة خارج الأوتوبيس حتى ولو توسل لهما. وبالطبع، لن يدفع له أي من الركاب القاسية قلوبهم الذين أحجموا عن إنقاذ هذا الراكب المسكين بجنيه واحد فقط. وفي تلك اللحظة، شق صوتاً هذا التوتر، كان لسيدة عجوز أخرجت جنيهاً من حافظة نقودها لإنقاذ هذا الراكب المسكين، معلنة أن هذا الجنيه هو آخر ما تملك من نقود. لم يستفز هذا الموقف شهامة أي من الركاب، أو حتى الكمساري. أخذ الكمساري الجنيه بكل برود من السيدة العجوز، وأما الركاب واصلوا عدم مبالاتهم بما يحدث.
واقترب الدور على عماد لدفع الأجرة، وهو لا يعلم ما عساه فاعلاً لكي يلملم ما تبقى لديه من شتات كرامته. لكن بلا جدوى، فهو لا يملك سوى كارت الإئتمان فقط الذي لسوف يجعل منه مسار سخرية عارمة إن أخرجه لهذا الكمساري القاسي. وبينما وهو يتحسس جيبه المتواجد به كارت الإتمان، أحس بشئ صلب بجانبه. فسارع بإخراجه لعله يكون ورقة مالية. ففوجئ بأنه اشتراك الأوتوبيس الخاص بأخيه، لكن لا جدوى منه؛ لأنه خاص بخط أوتوبيس آخر. وبمراقبة المشهد الماثل أمامه، لاحظ أن الكمساري عديم الرحمة ينظر بلا اهتمام لكروت الاشتراك الخاصة بالركاب. فقرر أن يجرب حظه، داعياً أن تفلح محاولته اليائسة. فأخرج كارت الاشتراك، واضعاً أصبعه على طرفه المنقوش عليه رقم خط الأوتوبيس الخاص بالاشتراك، متوسلاً الخالق أن يمر هذا الموقف بسلام. ارتعدت أوصال عماد بشدة عندما وجد وجه الكمساري الممتعض ماثلاً أمامه، وأخذ قلبه يدق بشدة، لدرجة أنه أحس أن قلبه على مشارف الخروج من قفصه الصدري. وحاول أن يستجمع قواه وهو يمد يده بكارت الاشتراك، راسماً على وجهه إمارات اللا مبالاة، بينما كل جزء في نفسه يئن ويرتعد. ألقى الكمساري نظرة على الكارت، لكنها كانت عابرة لدرجة أنه لم يلحظ حتى أن الصورة المثبتة على الكارت خاصة بشاب أصغر سناً. في تلك اللحظة فقط، طربت جميع أعضاء عماد، وشعر أنه في حاجة ماسة لأن يسجد شاكراً للخالق على تجاوزه تلك المحنة الجمة. وبتعقل، وحتى لا يلفت النظر إليه، اكتفى بارخاء جفونه شكراً.
وصل عماد لمنزله، وعند دخوله ألقى نظرة فاحصة على نفسه في مرأة الكونسول، فلم يجد سوى وجه مترب، وثياب متسخة، وشعر أشعث، ونفس راضية تهلل من الفرحة. انسل عماد لحجرته محاولاً ألا يلحظه أحد ، وخاصة أن صوت والدته قد علا وهي تقول:
-” إنت جيت ياعماد”.
– فرد مسرعاً وهو يغلق باب حجرته، “آه يا ماما”.
في الصباح، وعلى غير عادته، قابل الجميع بوجه باش دون أن يخبرهم بما حدث له. وفاجأ أخيه الصغير بارجاع حافظة نقوده له، ثم أخرج من جيبه كارت اشتراك الأوتوبيس قائلاً لأخيه:
“أنا شوفت الكارت ده، وهو بالفعل كنز. حافظ عليه. يمكن ينجيك في يوم من الأيام، لو حصل إن خلصت الفلوس معاك. مين يعلم.”
ابتسم عماد بكل سرور وهو يشدد على جملته الأخيرة دون أن يضيف حرف أخر، بينما كان موقف الأمس يتراءى له بدءاً من لحظة خروجه من المنزل، إلى أن دخله مرة أخرى.