لا تسعى الرواية من خلال تلك الفرضية إلى رسم القاهرة كديستوبيا، قدر عنايتها بتفاصيل جحيمها الآنى، واليومى. يؤكد الراوى أن وجود القاهرة قبل “الأحداث” كان كارثة فى حد ذاته.
” وكأن تركها حتى تصل إلى وضعها قبل النكسة، وتحول البشر إلى حيوانات متنوعة الفصائل وحشية الروح لم يكن كارثة”.
تشكل صفحات الرواية نصا فى كراهية “القاهرة الآن”. لا شئ يمكن أن يحدث أقبح مما نحياه اليوم. يتخبط بسام بين جماعة عالمية سرية ” جمعية المعماريين” ذات الجذور التاريخية، والتى تسعى لإعادة خلق المدينة وفق رؤاها الفلسفية وأفكارها عن العمارة والجمال.
تتجلى التحولات التى تخلقها بشاعة المدينة، أو التى تحدث لها، من خلال الرسومات، أى أن التحول المجازى للبشر القاطنين بها إلى حيوانات يجد تحققه العينى عبر الصورة، أو ترسخه الرسومات كواقع قائم. فاتسمت بعضها بالجروتسك، كما تبين لوحة الزرقانى للغلاف، وكما تبين رسومات الفصل الرابع “حيوانات القاهرة” بشكل خاص.
العالم الغريب، السرى، للرواية تتم صياغته من خلال الصورة. يخلق البصرى الطابع المقبض لأجوائها السوداوية، وفى الوقت نفسه تصنع الرسومات خفة مخاتلة تهرب بواسطتها من “الكيتش والحنين”، الذين يحاذر منهما الراوى رغم استعادته وتذكره لأمور حدثت فى العشرينات من عمره. يأتى ذكر أحداث المستقبل فى الرواية عابرا( تختتم الرواية أحداثها فى “خليج دالى”، مشهد سريالى مستوحى من إحدى لوحات سلفادور دالى تتحرك فيه قطعان من أفيال البحر ذات السيقان الطويلة).أو تلوح التغيرات الناجمة عنه من وقت لآخر كنتيجة منطقية، رغم خياليتها، للجحيم الذى دأبت القاهرة أن تكونه من قبل:
” العجول الشابة تظن ضياع القاهرة فاجعة تقارب الخروج من الجنة.
و الجنة حديقة البهائم العميان.”
●●●
يطرح الناقد الأمريكى “تود ماى” فى مقدمته لفلسفة جيل دولوز السؤال الآتى، والذى يراه سؤال الفلسفة الأهم:
كيف يمكن أن يحيا المرء؟
يقول تود ماى: ” إنه لسؤال غريب، بمعنى من المعانى، سؤال لا نسأله لأنفسنا كثيرا. إننا ننهض فى الصباح، نغسل أسناننا، نزحف لندخل ملابسنا، ثم نحرق أيامنا كأن من المستحيل أن نحيا بأية طريقة أخرى، كأن هذه الحياة بالتحديدهى الوحيدة التى يمكن نحياها”.
ويضيف : ” هل هكذا نحيا؟ هل هكذا تصبح حيواتنا، الممتثلة غالبا، القابلة للتنبؤ غالبا، المخيبة للآمال غالبا، ما هى عليه؟ “.
ويوضح أن دولوز كان لا يكف أبدا عن طرح سؤال ” ما الإمكانات الأخرى التى تفتحها الحياة أمامنا؟”.
يبدو أن “استخدام الحياة” تنتظم حول هذا السؤال المحورى، أو تنطوى عليه، ويقدم خطابها مقاربة “فنية” له، ليصير سؤال الحياة هو ذاته سؤال الفن.
لذلك يمكننا أن نتسائل من خلال هذا العمل الفنى: ما الإمكانات الأخرى التى تفتحها الرواية، أو الفن عموما، أمامنا؟ كيف يمكن أن نفكر فى “الكتابة” بطرق يمكن أن تفتح مناطق جديدة للأدب؟
تسعى شخصية ايهاب حسن، عضو جمعية المعماريين، إلى تطويع كل موارد الطبيعة وتطويع ركام القاهرة إلى عناصر مفيدة للإنسان: ” نتمنى فقط أن نجعل الحياة فى هذه القاهرة أقل تعاسة وأكثر بهجة. أن نفتح نوافذ يمكن أن يدخل منها الضوء إلى هذا الخراب”. وبالمثل، تسعى استخدام الحياة إلى تطويع الثقافة الجماهيرية التى تم تسليعها وثقافة “البوب آرت”، وكثير مما تم اقصاءه خارج نطاق “الأدبية” أو “الأدب الرفيع”، لانتاج عمل فنى مستقل فى النهاية. يبدى علائم الاستقلال من حيث قدرته على تخطى الشروط التى أنتجته والمعطيات التى شكلته، ويتسم بصفة هدامة تتحدى الوضع القائم ولا تكتفى بمجرد التعبير عنه. ومثلما يقول الشاعر العربى
” وداونى بالتى كانت هى الداء”، يصوغ ناجى والزرقانى من منتجات صناعة الثقافة، السلعية الطابع، ما يواجهان به السوق، والداء الذى أصاب به الذائقة الفنية: النكوص..
من أجل مواجهة ما وصفته الرواية فى كلمات دالة بأنه ” لا مجالللتمرد”، وما تبدى فى خطابها عن حصار الفن: ” حتى الفن خاضع لرقابة صارمةمن قوانين سوق المال العالمية لدرجة أن التمرد الفنى نفسه يتم تصنيفه كنوعفنى يمكن المضاربة على أسهمه فى السوق”، اتخذت الرواية عدة توظيفات فنيةلتقويض كل من: السوق ومعايير الأدب الرفيع السلطوية، حتى لا تصير مجرد ” شذوذا طفيفا ومحسوبا يؤكد القاعدة والقانون ولاينفى هيبته”. يبدو أبرز تلكالتوظيفات هذا المزج بين الرواية المكتوبة والرواية المصورة.
لاتعمد الصورة إلى خلق مصورة ذهنية كونتها أو خدمتها اللغة من قبل، بل تتولىزمام السرد من اللغة المكتوبة، لتصير هى أداة التوصيل الوحيدة فى أجزاءكثيرة. ينزع البصرى الألفة عن المدينة العريقة، فالشكل الذى يتخذه العملالفنى، فى هذه الحالة، بالعلاقة مع المجتمع/الواقع/الوضع القائم هو مايجعله مستقلا أو جذريا، كما يبين أدورنو.
يكمن خلف المزجالظاهرى بين الرواية المكتوبة والمصورة مزج آخر، حيث تستلهم الرواية روحالكوميكس وأجواءها التى تمتزج فيها الخفة والجرأة والسوداوية والمبالغاتالخيالية، فنجد الراوى بسام بهجت وهو يصف مهارات “مونى مى” يقحم بعضالعبارات المستوحاة من موروثات الرسوم الكارتونية المدبلجة، ولو على سبيلالسخرية:
“صنع فيروسات بيولوجية من مكونات منزلية بسيطة، تحويلطلبة الجامعة الأمريكية الذين لا يروقون لها إلى جراد وبيعهم كجمبرى لمطاعمالسوشى، ضربة النسر المحلق، قبضة النمر الشرس، التحدث بخمس لغات حيةوقتلها، وطبعا مهارتها الأهم ضربة الكف الخماسى التى تمكنها من إخفاء أىشخص فى رمشة عين ” .
كما نجد فى رسومات الفصول الأخيرة، حين تهجمبابريكا بصحبة مجموعة من رجال النينجا القتلة المقنعين على بسام ومودوإيهاب حسن، محاكاة لرسومات كوميكس الأبطال الخارقين، بينما آخر الكلماتالتى تتواشج مع تلك الرسوم: عبارة من العهد القديم (سفر التكوين) ” ورأى الرب ذلك أنه حسن” ، وكلمة “أحا” يطلقها بسام كصيحة غضب مقدسة.
•••