ابتسامات ناصعة البياض وطلقات رصاص حي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في طفولتي وأمام شاشة السينما التي تبتلع حواسي بعظم حجمها وبعلو صوتها المجسم المحيط بي من كل جانب، وبينما العيون مسلطة على البطل الذي يطارد الشرير، لطالما انصرف بصري إلى ما يجري بالخلفية، وجذب معه تفكيري إلى مناطق أخرى.

أسرح كثيرا بهؤلاء الذين يتأذون بلا سبب أثناء المطاردة العنيفة، هؤلاء الذين سحقتهم أقدام العملاق الشرير وهو يجول بين مباني المدينة، أو ذلك الموظف الذي كان يؤدي عمله الروتيني الصباحي عندما هشمت السيارة الغريبة زجاج الطابق الذي يعمل به وفصلت نصف المبنى العلوي وأسقطته على المارة الذين لم تسنح لهم الفرصة بالفرار.

لكن البطل خارق ومحظوظ ويفر من الموت دومًا، وبرغم كل الطلقات التي أصابته، لا يزال بإمكانه القاء جمله الحوارية الساخرة، فهو المتكلم دائما حتى وهو يتلقى اللكمات العنيفة من الأعداء وعندما تشبث بباب الطائرة المحلقة عاليا فوق المدينة، تمكن بالنهاية من الدخول بكابينة الطيارة وقتل الشرير ثم القفز منها بسلام قبل أن تنفجر بالهواء.

 

شظايا الانفجار لا يلاحظها المشاهدون بينما يصفقون لبراعة البطل، لكن يقتفي أثرها خيالي العملاق ويركض بكل اتجاه:

هناك إلى حديقة خلفية لبيت قديم بها امرأة عجوز كانت تسقي نباتات الحديقة قبل أن تحرق كلاهما شظية.

حيث ثنائي بأوائل العشرينات يعبرا الشارع باتجاه محل الحلوى المقابل لدفع عربون كعكة زفافهما قبل أن تعترضهما شظية مشتعلة تفجر السيارة المركونة بجانب الرصيف وينجم عن الانفجار إصابات بالغة لهما.

أو أطفال بباحة مدرسة تعليم أساسي، جرى كل منهم باتجاه إثر سقوط الشظية عدا ولد خمري اللون، مكتنز الوجه، له ابتسامة تذيب القلب ولدغة بحرف السين، كان يكرر الرقم سبعة بلدغته المحببة ويفرد أحد كفيه ويشكل علامة السلام بكفه الآخر المجاور، فقد كان هذا اليوم الذي تعلم فيه كيفية كتابة الرقم سبعة!

وجه الطفل الصغير بخيالي يحتل ناظري ويحجب عني رؤية وجه البطل الذي قد ملأ الشاشة عندما لمسته بكفها البطلة قبل أن يهيما في قبلة ودموع الفرح بالنجاة تبلل خدودها وشفاهه.

لم يفلح فيلم حركة مهما بلغت براعة صناعته، أن يعدل قلبي المتوثب بين أضلعي من فرط التوتر عن كراهية ذلك الاعجاب المفرط بكل هذا العنف من أجل انتصار شخص واحد!

نمط حياتي الذي ساده مرافقة الرجال، أبا وأشقاء وأصدقاء وأحبة، فرض على مرات عدة متابعة فيلم، بطله خارق، لا يُهزم، تركيز الكاميرات عليه لا ينقطع حتى وهو يطير بالهواء بسرعة خاطفة ليسقط ثلاث رجال دفعة واحدة قبل أن تعاود قدماه ملامسة الأرض. بينما هؤلاء المنسيون بخلفية الأحداث، لا تلتقط الكاميرات ملامحهم ولا يلتفت لمصابهم أحد، فهم ليسوا بأبطال!

كل البشر بالنسبة لي هم أبطال حكاياتهم، يحلو لي تأمل وجوه المارة بالطرقات المواجهين لي بعربات القطار والمترو، والانصات بتفهم غير مشروط لحكايات البشر الذين ألقوا ببئر كتماني باعترافاتهم، واحترام أهمية الحدث مهما بدا بسيطا بالنسبة لي، تظل أهمية الحدث هي قرار حر لصاحبه.

 أعرف ككاتبة أن الحبكة وتصاعد الأحداث والصراع هم عوامل الجذب اللازمة لصناعة الترفيه والإثارة، لكني لم أزل أميل لتلك الكتابات التي تستعرض مكنون النفس البشرية، وتُطوع الحبكة لخدمة ذلك.

 أميل لمشاهدة تلك الأفلام الإنسانية الهادئة التي تدعوك للتفكر بالحياة والآخرين، وأقرأ كتب تساعدني على ممارسة التأمل، لكن مؤخرا حكايات البطل الخارق قد شقت الشاشة الفضية الكبيرة خارجة إلى المحيط الدنيوي الواسع، وتحولت وسائل الميديا بكل أشكالها إلى شاشات عرض، الكاميرا فيها مركزة على شخص بعينه هو الممسك بها، وانضمت لقائمة الأبطال المتكلمين دائما، هؤلاء المبتسمون دائما والناجحون دائما والعارفين بكل شيء دائما… الخ. 

 لم يعد “السوبر مان” بطلًا بفيلم أورواية، لقد صار متمثلا في العديد من الوجوه التي تطالعنا بشكل يومي. فالعرض مستمر ودائم، يستهدف جذب الانتباه، ابتسامات أصحابه وصورهم تذكرني بإعلانات المجلات التسويقية. شاشات العرض صارت بكل مكان، وحكايات الخارقين تستحوذ على حواس المتابعين. 

لكني لم أزل تلك الطفلة الصغيرة التي ترقب ما يحدث بالخلفية، حيث الحكايات الأوقع والأجمل ليست هي الحكايات التي لُمعت بغرض التسويق، بل هي الحكايات التي تصلح للحكي لصديق مقرب أو غريب عابر جلس بجانبك في قطار وتعرف أنك قد لا تقابله ثانية.

هي تلك الحكايات التي تجسد الحياة كما هي، بامتزاج الحزن فيها مع الفرح بمشهد واحد كبير.

 رغم عدم اتساع دائرة معارفي الشخصية بشكل مبالغ فيه, إلا أني أستطيع الزعم بأني قد صادقت فئات متنوعة من البشر إن صح لنا تقسيم البشر حسب جنسياتهم, جنسهم, معتقداتهم, خلفياتهم الاجتماعية والمادية, وما إلى آخره من تلك التقسيمات القائمة على الاختلافات الظاهرية, وما تعلمته من تلك العلاقات هو أننا بالأصل غير مختلفين, القاسم المشترك الأعظم بيننا جميعا هو الإنسانية بمشاعرها وأفكارها المتطابق أثرهما على الجميع, خلافنا الحقيقي ينشأ من عدم التفهم, فنتوهم أن الاختلافات الظاهرية تلك هي سبب أي شقاق, بينما السبب الحقيقي هو عدم الرؤية الكاملة للصورة الحقيقية لما يحدث حولنا.

يتخذ عدم الوعي شكل أخطر عندما يمسك أحدهم بسلاح ليمارس بطولة في ظنه هي خارقة، كصاحب قضية فهو بطل بعين نفسه وعيون مؤيديه. بينما يدفع ثمن صراعاته الأبرياء الذين نتناسى تواجدهم ولا نشغل بالنا حتى بالتدقيق في ملامح وجوههم.

في عصر يرتد فيه الفكر العام بشكل واضح إلى غياهب تخلف العنصرية، أتصور أن أحد سبل مقاومة هذا الاتجاه هو محاولة الفكاك من ميلنا البشري النرجسي تجاه سحر بريق البطولة، وصرعة تمحور الميديا الشخصية حول النفس وكيفية تسويقها للعالم مما يرسخ أفكار قاصرة عن النجاح والفشل والصواب والخطأ.

أذكر أنه عند قراءتي كتاب “أعداء الحوار” ل “مايكل ياكوبوتشي” ترجمة د. عبد الفتاح حسن، أن تعبير ال “لا تسامح” كوصف لمنشأ العنصرية وكل ما ينجم عنها من جرائم إنسانية، قد نبهني لتأمل معنى التسامح بشكل مختلف. كما نبهني أيضا لخطورة الصور المثالية الزائفة، الخارقة للفطرة.

إن تفهم الضعف الإنساني، يعزز شعور التعاطف عندنا وذلك التعاطف هو عامل أساسي بعملية تسامحنا مع أنفسنا ومع الآخرين.  ونحن لن نتعاطف مع أحد إن مجدنا فقط كل ما هو مبالغ فيه وغير إنساني! 

كيف لنا أن نتسامح مع الضعف إن كان تصورنا عن الكمال مقرونا بالقوة؟  كيف لنا أن نتفهم الآخر إن كان الوقت الأغلب من تواجدنا يُستهلك في الدوران في فلك أنفسنا وفي الصورة التي نُصدرها للعالم عنا؟

منذ أن تحول العالم لساحة (تايمز سكوير) ضخمة، وأنا أبحث بين وجوه المارة والجالسين بجانبي في المترو وفي صالات السينما عن إنسانيين.

لنجلس سويا أمام الشاشة الضخمة فنتعاطف مع بطل قد صرخ عاليا عندما أصابته الرصاصة وسقط دون أن يتكلم، لكنا نتسامح معه رغم أنه كان منسيا بخلفية المشهد، لا يُقاتل أحد، ولا يعتلي منصة.  فقط يؤدي دوره العظيم بالحياة منشغلا بتفاصيله اليومية الهامة جدا قبل أن تطيش الرصاصة لتصيب كتفه، وعندها نشهق جميعا في لوعة، رغم أن البطل الخارق لم يمسسه أي سوء!

 ونغادر مقاعدنا باتجاه الشاشة الضخمة فنخترق المشهد وننحي الخارقين جانبا وننقذ البطل المتمدد في الخلفية، ثم نحكي حكاياته وحكاياتنا للعالم!

 

مقالات من نفس القسم