حاورها: إبراهيم الحسيني
رغم أنها لم تصدر سوى أربعة دواوين شعرية فقط خلال الـ 19 عاماً الأخيرة هو عمر مسيرتها الشعرية، إلا أنها حفرت لنفسها مساراً شعرياً متميزاً، إذ كان صدور ديوانها الأول «اتصافات» 1990، بمثابة الانطلاقة نحو كتابة شعرية مغايرة، ثم أكدت ذلك بدواوينها الثلاثة التالية «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» 1995، «المشي لأطول وقت ممكن» 1997، «جغرافيا بديلة» 2006.. إنها ترى الشعر من وجهة نظر خاصة، تراه كونياً متجاوزاً لكل الأزمنة والأمكنة، رغم عدم قدرتها على هذا التجاوز.تُدرّس إيمان مرسال الأدب العربي في جامعة ألبرتا في كندا، وقد حصلت مؤخراً على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة تحت عنوان «صورة أميركا في الشعر العربي»، وكانت لنا معها هذه الوقفة.
بداية دعينا نتعرف معك على المشهد الشعري في مصر قبل سفرك إلى أوروبا في العام 1999، والمشهد الآن؟ ما الذي تغيّر؟
السفر، والابتعاد عن المكان والبشر، كل ذلك يجعلك تفقد الاهتمام بأشياء كثيرة، ولا يتبقى داخل ذاكرتك، إلا الشيء المهم فعلاً، والذي لا يمكن لك أن تتجاوزه بتجاوز المكان، وأصبح الاهتمام مقتصراً إلى حد ما على الجيل الذي تركته قبل السفر، ورغم حال الهدوء والسكون التي تتبع الانفصال عن المكان إلا أنني أرى المشهد الآن بشكل يمثل لي حضوراً أفضل من ذي قبل.
إذاً لا يوجد عندك ما يسميه البعض بمرارة السفر، وبالتالي انعكاس ذلك في أشعارك؟
ليس عندي إحساس مرارة السفر، مازالت صداقاتي موجودة مع الجميع رغم الابتعاد، وإذا كنت تقصد تغيّر بعض مواقف الأصدقاء الشعرية والإنسانية، فأنا أتغير، كلانا، أنا وهم نتغير، لا يوجد شيء ثابت على حاله، والصداقة عقد متجدد دوماً.
قبل السفر، وبعده، لحظة البدايات والآن طوال هذا الزمن مازالت قصيدة النثر تثير الإشكاليات نفسها وحال الهجوم نفسه.. في رأيك لماذا؟
أوافقك الرأي أن هناك جموداً في طرح إشكاليات قصيدة النثر، فما كنا نسمعه من 20 عاماً مازلنا نسمعه حتى الآن ولم يتغير، لأن ذلك له علاقة بالسلطة الثقافية، وأعني بها سلطة المؤسسات الثقافية ووصاية المثقفين من جهة أخرى.. فأصحاب السلطة الثقافية داخل المجتمع الثقافي يتصورون أنهم فقط المسؤولون عن تحديد النوع الأدبي، فتجد منهم من لا تعجبه قصيدة النثر ويطلق عليها كلمات عشوائية مثل قصيدة ممسوخة، إذ إنها ليست شعراً من الأصل. أيضاً هناك سلطة الناقد الأدبي النخبوي الذي يتصور أنه بمفرده المسؤول عن حماية المشهد الأدبي من كل ما يختلف معه.
فكرة الجيل في الشعر هل تؤمنين بها، ما الذي تقدمه هذه الفكرة؟ أم أننا نعيش في زمن تراكبت فيه كل الأجيال لتكون جيلاً واحداً؟
أعتقد أن هذا التداخل موجود، فطوال الوقت هناك تداخل أجيال، هناك لحظة تاريخية تستوجب طرح مجموعة من الأسئلة بعينها، وهناك من تربوا تحت خطابات مؤدلجة ولم يستطيعوا الإفلات منها. أما أنا فمن الجيل الذي انهارت فيه كل الأشياء، يوجد فقر، ميوعة سياسية، اجتماعية، اقتصادية، لذا فقد نشأنا وتربينا بفعل ما يمكن أن نسميه بثقافة الانهيار. ولكن دعني أقل لك أن فكرة الجيل ليست كافية للحكم على الشعر أو حتى لقرائه وفق ذلك، فلكل شاعر سياقه الخاص وغزواته الخاصة التي ينجو منها أو يقع في الأسر، كما أن كل ما هو خارج النص هو أيضاً سياق للنص ولكنه النص.
هل للمكان تأثير على كتابة الشعر، أو بمعنى آخر الأماكن تكتب نفسها داخل قصيدة الشاعر؟
إلى حد كبير هذا صحيح، فالجسد يتحرك ليس للداخل فقط، وإنما له حركته باتجاه الخارج، والمكان لغة أخرى، ومشهد للطبيعة متميز، كما إنه سياق اجتماعي، ولكل مكان مهما كانت أسئلته التي لا تشبهه أي أسئلة. ولكن لا يوجد تجاوز للمكان لأنه جزء من تاريخ وعيك، سواء كان هذا المكان قرية أو مدينة، وقد عشت في كل الأماكن (قرية ميت عدلان بجوار المنصورة، القاهرة، كندا، أميركا) وكل هذه الأماكن حفرت بداخلي الكثير، فلا يوجد مكان ضد مكان آخر والمبدع يحمل كل هذه الأمكنة بداخله ثم يفككها على مهل إذا ما احتاج إليها.
قضايا الشكل في الشعر.. شكل القصيدة، حروفها، كلماتها، حركتها داخل الورق ألم يستهلك هذا كثيراً من معنى الشعر نفسه؟
القصيدة في نهاية الأمر تختار شكلها.. فاللغة ملك الجميع، والمبدع يستمر في حالة صراع وأرق حتى يقبض عليها، وأصالة هذا الصراع هو ما يجعل للقصيدة شكل مميز، والفذلكة في التفنن في وجود إبهار شكلي لا فائدة منه إذا كان المضمون خاوياً، ولا أتخيل وجود كاتب يريد الكتابة في موضوع معين أو لديه تصوراً معيناً من دون أن يحدث داخله هذا الصراع بين الشكل الأدبي واللغة التي بداخله.
من إذاً من الشعراء الذين تقرئين لهم وتعجبك أشعارهم؟
أحمد يماني في ديوانه «أماكن خاطئة» الذي صدر عن دار ميريت للنشر خلال الشهور الماضية، فهو ديوان يستحق القراءة، لكن شعراء الجوائز لا أهتم بهم ولا يلفت انتباهي كون ذلك حصل على جائزة أم لا.. قلت لك من أعجبتني كتابته ولا أريد أن أقع في حيز المجاملة لأحد.
الهامش والمهمشون في الشعر.. هل مازال يشكل ظاهرة أم أنه لم يكن موجوداً بفعل تعدد وسائل الاتصال؟
يوجد شعراء هامش كثيرون، لكننا لا نسمع بهم، وإذا ما قرأنا أشعارهم سنجدها أفضل بكثير من غيرها، والكتابة التي أفضلها بصفة خاصة هي تلك التي تجيء من الهامش ومنها مثلاً كتابة الشاعر سركون بولص من العراق، وأيضاً وديع سعادة، وآخرون من جيلي في مصر والدول العربية وفي الكويت أيضاً، والهامش هو الأفراد، والجماعات الذين يقفون خارج خطابات الأدلجة ومن يمتلكون ارتباكا تجاه اليقين العام، وكتّاب الهامش موجودون بقوة ويجب أن نبحث عنهم، وأنا عن نفسي أعتبرني منهم، وأرجو أن أظل في الهامش، فالهامش له روح مختلفة ونصوص أكثر تأثيراً من نصوص السلطة، والهامش لا تستخدم عندي بالمعنى الإيجابي فقط ولكنها مليئة بالمشاكل أيضاً، ويوجد لها صراعاتها ومواصفاتها الخاصة، وكتّاب الهامش قد يتحولون في لحظة للانخراط في المساهمة في تشكيل خطابات السلطة.
حتى الآن لم يصدر لك إلا أربعة دواوين.. لماذا هذا الغياب لفترات طويلة؟
الكتابة تمثل لي إيقاعا شخصيا خاصا وليس وظيفة، فلست أنوي الوصول لشيء من خلالها، وهناك أمثلة لبعض الكتّاب قليلو الإنتاج رغم أهمية ما يكتبون.. خذ مثلاً الروائي إبراهيم أصلان، وغيره كثيرون.
هل تأتي الكتابة الشعرية من وجود نظام بالحياة أم فوضى؟
في رأيي أن الكاتب ليس كائنا مختلفا أو له صفات مختلفة عن أي شخص آخر، وليس أرقى من الإنسان العادي، هما الشاعر والإنسان العادي متشابهان تماماً، والإنسان العادي أحياناً يكون منظماً وأحياناً أخرى فوضويا، وأنا شخصياً أحمل المعنيين معاً، النظام والفوضوية.
ما مراحل التطور في شعرك كما تعيها أنت بنفسك ومن دون الحاجة لتدخل ناقد أدبي؟
السؤال صعب جداً، ورغم ذلك فأنا لست مشغولة بتطوير قصيدتي الشعرية وكأنها مشروع استثماري، أنا مشغولة بتطوير وعيي وتحركي داخل العالم، والكتابة الشعرية عندي مثل الحب تماماً، أفعلها دائماً عندما أحب.
هل توجد فوارق شكلية أو في مضمون الشعر في العالم العربي وأوروبا؟
القصيدة العربية بها تعدد وحركة، والشعر العربي ليس في أزمة، ومن العبث أن يدعي عليه البعض هذا الإدعاء، لكن الشعر يختلف حسب الأماكن وما تمليه على البشر من اختلافات، فمثلاً تشارلز سيمك، وهو شاعر أميركي مهم لكنه مختلف عن شاعر أميركي شاب آخر، التجربة مختلفة، كما أنهما مختلفان عن شاعر مثل أميري بركة ينادي في شعره بحقوق المواطنين السود.
أخيرا: تفضلين عدم حضور المؤتمرات الشعرية الكثيرة في الوطن العربي لماذا؟
لا أحب تلبية دعوات المؤتمرات الشعرية لأنني أشعر أن بها ضوضاء وصخبا لا يناسبني، ورغم كثرة قراءاتي للشعر حول العالم إلا أنني لم أقرأ شعراً في ندوة إلا مرة واحدة في المغرب العربي، ومرة أخرى في القاهرة.. ولهذا سبب يخص مزاجي الشخصي وآخر يخص عدم رغبتي في المشاركة ضمن احتفالات شعرية تقيمها مؤسسات ثقافية حكومية لها خطاباتها المؤدلجة والمحددة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوان- 2009/08/19