مي التلمساني: الآن بدأت أحكي!

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 11
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورها: أسامة فاروق

ما بين مجموعة مي التلمساني الأولي “نحت متكرر” وحتي روايتها الأخيرة “أكابيللا” سبعة عشر عاما، وأربعة كتب وكثير من الترجمات. تغير الكثير خلال تلك الأعوام، لم يعد شيء كما كان، حتي الكتابة. فبعد أن كانت مساحتها الوحيدة لتمارس حريتها وحتي جنونها ونزقها، أصبحت هناك فرصة الآن لممارسه تلك الحرية في الميادين أو علي الأقل المطالبة بها. علي المستوي الشخصي، تشعر مي أن كل ما حدث هو “تراكم الخبرة”. تقول:”أعرف بعد ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية نشرت من 1995 حتي الآن، أني مازلت أحترم المشروع الإبداعي وأراه مشروع حياة، رغم الصمت الذي حل علي لسنوات وشابته شبهة الانعزال عن الأدب”. المتغير الوحيد كان علي مستوي العلاقة بين الأدب والسيرة، هو اختلاف “دنيازاد” و”هليوبوليس” وفيهما قدر كبير من السيرة الذاتية عن “كابيللا”، فالأخيرة بها قدر أكبر من الخيال “ لا أستطيع أن أقول إن عايدة (بطلة الرواية الأخيرة) ليست أنا، لكني أستطيع أن أؤكد أني لست عايدة، وربما لذلك تفشل الصداقة بين الراوية وشخصية عايدة”. وهناك متغير آخر تُلمّح مي إلي بداية ظهوره في أكابيللا، هو استعادة الثقة في إمكانية الحكاية “في أكابيللا، أستطيع أن أقول أني بدأت أحكي بانطلاق وراحة لم تكن موجودة في الكتابات السابقة”.

من الزمالك وحتي وسط البلد تقود مي وسط سيرك القاهرة اليومي، في التحرير يسير أتوبيس عكس الاتجاه يسد الميدان. يصبح كتلة واحدة. يصاب بالشلل. تتوقف وسط هذا كله وتضحك، أسألها: لماذا أنت متفائلة هكذا؟ تقول:”متفائلة بالعافية”، ليس لديّ خيار آخر. تصمت قليلا وتضيف: متفائلة لأني مقاتلة بطبعي، رغم ميلي للعزلة أحيانا. تفاؤلها واضح حتي في تقبلها لأعقد المواقف السياسية التي ربما تسبب الاكتئاب، تقول مثلا أن ترشيح الشاطر (خيرت الشاطر) ليس سيئا، فإذا أراد “المسلم الحق” مرشحا يمثله فليس أمامه سوي أبواسماعيل، أو خيرت الشاطر، أو أبوالفتوح، وربما تميل الأغلبية لصالح الأخير وهو في رأيها أقل الإسلاميين ضررا إذا صح التعبير، “كما أن هذا التفتت في الأصوات ربما يكون في صالح مرشحنا الذي ننتظره.. والذي سيسقط غالبا” تضحك مجددا.

تضع “سي دي” في “كاسيت” السيارة ويأتينا صوت عَزب يغني للثورة “بما أننا نطوف حول الصينية في الميدان هسمعك صوت جديد هايل”. تفتح حقيبة سيارتها لتتناول شيئا فألمح كتبا تتجاور مع كثير من علب العصائر والفول والتونة، تصمت وكأن ما أراه شيء طبيعي. أفهم بعد ساعة حين تقول إنها ستذهب لدعم الألتراس مع حمله “مدنية” التي أنشأتها وتتزعمها. كنت آملُ أن نجري حوارا بعيدا عن السياسة، أردت أن نتحدث عن الرواية فقط، لكن يبدو أن السياسة الآن لم تعد خيارا. لا يمكن الهروب من الواقع علي أي حال. أسألها محاولا الاقتراب من عالم الكتابة: هل يمكن أن يغير هذا كله في الكتابة، وتقول:”أملي أن تسفر الثورات عن كتابة ثورية، ليس عن الثورة ولكن بروح الثورة، بعيدا عن النمطية والتيار الواقعي السائد والاستظراف والاستخفاف بالمهنة وتسطيح التعامل مع أي كتاب علي أنه أدب”.

لكن وعلي عكس هذا الزخم كله، تخرج مي برواية “عاطفية” لماذا لم تشارك في مولد الكتابة للثورة؟ تقول إنها كانت تعاني من كتابة رواية انتهت منها ولم تنشرها باللغة الفرنسية. ثم حدث أثناء كتابة الرواية الفرنسية أن ظهرت شخصية عايدة ذات ليلة شعرت فيها بالأرق وتململ الكتابة (وهي حالة وصفتها بتدافع الأفكار في الرأس بلا رابط، تأتي مصحوبة بجمل كاملة باللغة العربية الفصحي وصور لأشخاص تتحرك في فضاء غير واضح المعالم وانقباض في القلب والمعدة) فكتَبت من وحي حضورها في تلك الليلة قرابة خمس صفحات “كتبتها دفعة واحدة، تلتها صفحات أخري وصلت لثلاثين في اليومين التاليين” ثم حل الصمت عدة أشهر. اعتبرت أن المشروع كان فاشلا ووضعته في الأدراج. ثم في خريف 2009، عادت للكتابة من جديد “فقد ظهرت لي عايدة جديدة في تلك الفترة، واستمرت معي حتي الانتهاء من الرواية”.

حين نُشرت الرواية مسلسلة في روزاليوسف لم تكن قد انتهت من كتابتها بعد، ونشرت تحت عنوان “يوميات عايدة” تقول مي إنها أرادت أن يكون العنوان بسيطا ويصل لقراء المجلة بسهولة، ويذكرنا بكتابات إحسان عبد القدوس. والمجلة اختارت عددا من الصور لمصاحبة النص كان لها دور كبير في ترسيخ تلك الصورة النمطية عن روايات الحب والغيرة والهجر والصداقة بين المراهقات “المهم أن القراء تابعوها بشغف وكان هذا مصدر سعادة بالنسبة لي”. لكنها خرجت بعد ذلك بعنوان مختلف؟ أسألها وتجيب: بعد نشرها في المجلة أعدت كتابتها بالكامل وتركت لنفسي حرية الوصف في المشاهد الإيروتيكية (التي لم أجرؤ علي نشرها في المجلة) كما أضفت وعدلت كثيرا لدرجة أنه لم يبق من يوميات عايدة سوي الهيكل الخارجي للحكاية والشخصيات. في العمق، أصبحت الرواية بعنوانها الجديد غناء منفردا له بصمة خاصة بدون مصاحبة موسيقي إحسان عبد القدوس.

أسألها:علي ذكر المشاهد الإيروتيكية، هل ساهمت الغربة في تخليصك من الرقيب الداخلي؟ وتجيب: ربما. لم أسأل نفسي هذا السؤال. لدي رقباء داخليون كثيرون، أهمهم في رأيي رقيب يمكنك أن تسميه رقيب الأدب الكبير كما قال كونديرا في كتابه الستارة. رقيب يذكرني بتواضع الكاتب أمام إنجاز الأدب العالمي ويجعلني أتردد في النشر، وهذا في مصلحة الكتابة والكتاب. أثناء كتابة المشهد الإيروتيكي مثلا، الذي أعتبره من أصعب المشاهد وأكثرها مقاومة للكتابة، أمارس نوعا من الرقابة علي نفسي ليس بسبب الهاجس الأخلاقي ولكن خوفا من طغيان التفاصيل الواقعية علي فنية المشهد، والسؤال كيف تعلو بمشهد حب أو جنس عن المعتاد والعادي؟

كتبت مي في يومياتها التي نشرت بعنوان “للجنة سور” والصادرة عن شرقيات في 2010، تجربة الهجرة والغربة والاستغراب، وتري فيما كتبته كفاية لرصد تحولات التجربة في أربعة عشر عاما من الهجرة “ربما أعود للتجربة بعد زمن لملاحقة تغيراتها، لكني أكتفي منها بما قيل وكتب”.

الشخصيات في “أكابيللا” هامشية تظهر وتختفي بحسب احتياج عايدة، لأن الغرض الأساسي منها هو التخديم علي عايدة. أسأل: إلي أي مدي يمكن أن تكون هذه القراءة صحيحة؟

وتجيب: يمكنك أن تقول ذلك عن الزوج، لكن الشخصيات الأربع، أسامة وحسام وكريم وعادل، شخصيات لها حضور طوال الرواية وحضورها بالطبع مرتبط بعايدة. هم رجع صدي لها لو شئت التعبير. أعتقد أن لكل منهم ملامحه الشخصية والطبقية التي تميزه عن الباقين، ولكل منهم في الرواية مشهد أو مشهدان يؤكدان حضوره وتميزه عن الآخرين. في النهاية حضورهم جميعا مرهون بما تعرفه عنهم عايدة وتكتبه في اليوميات وبما شاهدته الراوية أو قالته عنهم، نقلا عن عايدة. لا تستطيع أن تقول إنها شخصيات هامشية، لكنها بالقطع تدور في فلك عايدة والراوية اللتين تتبادلان الالتصاق بهؤلاء الأصدقاء بطرق ووسائل مختلفة.

الصداقة والوحدة هاجسان واضحان تماما في الرواية، فعندما بدأت مي التفكير في كتابة الرواية، اشترت كتاب أبو حيان التوحيدي الموسوعي عن الصداقة والصديق، لعلها تجد فيه جوابا شافيا، لكنه لم يمنحنها الطمأنينة كما كانت تتخيل، وعلي العكس منحتها الرواية ما كانت تبحث عنه! “لأني أثناء الكتابة أدركت أن الأصلب والأبقي ليس الأصدقاء في الواقع لكن الأصدقاء حين يتحولون لشخصيات في رواية. هؤلاء لن يتركوني لوحدتي أبدا ولن يخونوا عهد المحبة”.

علي لسان راويتها تقول: “كان لعايدة أربعة من الأصدقاء المقربين اعتبرتهم مجرد أفراد في شلة تحمتي بها من الوحدة” أسألها:هل تخافين من الوحدة؟ وتجيب بلا تردد: طبعا! لكنها تضيف: “لكني أحب وحدتي! بيننا ألفة ولا أريد أن أتنازل عنها مهما كانت ضغوط الأسرة والمجتمع”. ما تخافه هو نوع محدد من الوحدة، ليس بمعني البقاء وحيدة في البيت عدة أيام، ولكن بمعني فراغ الحياة من الأصدقاء” وهي تفرغ منهم طوال الوقت حتي أني لم أعد أحصي مرات الفقد ودربت نفسي علي التخلي لأن ما أريده من الصداقة هو اكتمال “طوباوي” لا وجود له في الواقع”.

نعود إلي الرواية، وأسألها: لماذا جاءت الحكاية بلا تاريخ ولا تحديد واضح للزمان والمكان؟

وتجيب: لكي نركز في حدوتة الصداقة بين امرأتين في نحو الأربعين وعلاقتهما برجال كثيرين في حياتهما يتدرجون بين زوج وصديق عند الطلب وعشيق ورفيق روح.. إلخ. لكن نوع العلاقة بين المرأة وجسدها قد لا يصلح لأن يكون في أي مكان آخر غير مصر وعالمنا العربي، لست أدري. إننا هنا في مدينة تقع علي نهر، أي مدينة وأي نهر يصلحان كإطار لحدوتة الصداقة وجروحها الصغيرة والكبيرة. رغم ذلك لا تؤمن مي بفكرة الكتابة النسوية، تقول إن الكتابة لا جنس لها. وتصف مفهوم الكتابة النسوية بأنه “سياسي” يطمح لتحقيق مكاسب للمرأة الكاتبة، لكنه لا يتعلق بالفن بل يستخدم النقد الفني لترسيخ قواعد علي أساسها تحقق النساء في عالم ذكوري مهيمن بعض المكاسب الاجتماعية والسياسية، ليس أكثر.

“ليس لدي حنين للقصة القصيرة فكل رواياتي مبنية بروح القصة القصيرة إن شئت.” تقول ردا علي سؤالي حول “نفس القصة القصيرة” الظاهر في الرواية بوضوح، وتضيف: كثافة المشهد ورفض العلاقة الخطية بالزمن وملامح التفتت والحركة الدائمة بين المشاهد والأماكن والأزمنة، كلها عناصر، أعتقد، تسمح بوصل القصص والحكايات التي تضمها الرواية في سياق عمل كامل هو رواية عالمها قصصي، يرفض البناء المحكم المغلق، ويفضل عليه الشكل اللولبي حيث البداية والنهاية بينهما رابط، أو شكل شجرة اللبلاب حيث التفريعات والتشابكات التي قد تستعصي علي التحديد.

أقاطعها لأقول إنها استخدمت في هذه الرواية نفس تكنيكات كتابة رواية “دنيا زاد” أبرزها تداخل الأصوات، وفي نظري فإن الفقرات المقتبسة من اليوميات كانت إلي حد ما عائقا في طريق السرد كان يمكن أن تكون في فصول مختلفة وربما ببنط مختلف لتكمل اللعبة التي تكتشف في النهاية. وتقول إن الاختلاف مع “دنيازاد” هو في طبيعة النص المكتوب، ففي “دنيازاد” كان النص المكتوب علي لسان الزوج نصا سرديا، يكمل حكاية الزوجة والأم. في”أكابيللا” نص اليوميات الذي كتبته عايدة وبدأت الراوية تزيد عليه وتنقحه، نص مكتوب، أدبي بمعني من المعاني، ويمكن أن يصلح لنري فيه شخصية الراوية رغم أنها لم تكتبه بنفسها. مثلا الإجهاض الذي تكتب عنه عايدة في يومياتها، تمارسه الراوية بمعني من المعاني قرب نهاية الرواية عندما تستأصل الرحم…ومشاعر الحب التي تكتب عنها عايدة في رسائلها تتخيلها الراوية في أحلام يقظتها ولا تقدم عليها في الواقع. وهكذا.

في “كابيللا” تموت الشخصية الرئيسة كما في “دنيا زاد” هناك دائما “موت” في كتابات مي التلمساني، ترفض هي أن تسميه “هاجس” تقول إنه نمط حياة. وتضيف: كاتب التنوير الفرنسي مونتاني كان يشير لذلك في مذكراته، يقول ما معناه إن الحياة مع الموت أفضل من الحياة خوفا منه. عندما تموت عايدة في بداية الرواية يتحرر القارئ من سؤال الميلودراما ويتفرغ لمعرفة أشياء أخري عن الشخصية أريد أن أحدثه عنها ليس من بينها كيف تنتهي حياة الشخصية.

تُرجمت “دنيازاد” إلي الانجليزية والفرنسية والألمانية والاسبانية، وحصلت علي جائزة عوليس لأفضل رواية أولي في حوض البحر المتوسط من مهرجان باستيا، كما حصلت الرواية نفسها علي جائزة الدولة التشجيعية عام 2002، تلتزم مي بمبدأ محدد تجاه الجوائز فهي لا تتقدم لنيلها أبدا “لو اختيرت الرواية أكون سعيدة بالتقدير، وبكونها فرصة لبيع عدد إضافي من النسخ! يهمني الاعتراف النقدي بالعمل، وعندما يتم ذلك سواء عبر الصحف والمجلات أو عبر الأبحاث العلمية مثل الماجستير والدكتوراة، أشعر بالرضا. هي حلقة تواصل لا غني لي عنها وأنتظرها، أما الجوائز فلها حسابات أخري لا أشغل نفسي بالدخول فيها”.

……….

* نشر في أخبار الأدب يوم 07 – 04 – 2012

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم