أُذَكِّركِ بأن ربما في مثل هذا الموسم من السنة الماضية استعذبت نصا لكِ ألهمني كتابة “أسنان لم تعد لبنية”، كانت تلك الأيام أولى حلقات تسلسل صداقتنا. كان لنا ألم مشابه ربما. لا اتذكر أني أخبرتك حينها أن طبيب أسناني الجديد بدا لي وسيما وحانيا بشدة. كنت حينها منهكة لطول ساعات العمل في وظيفتين وأخرى مُعَطَلة للإعداد لأبحاث دراستي العُليا… وقصة حُب موتورة يا غادة.
لُذت به حينما بات الألم لا يُحتمل، فأخذ يتفحص لؤلؤ الفم المعطوب ويسألني عن تاريخ علاج كل حزب فيه، من قام بتطبيبه بهذا الشكل السيء ومتى كان ذلك، وأنا لا أهتم بالأسماء والتواريخ يا غادة. لا أذكر سوى أني مهملة ومضغوطة وأسناني تؤلمني بشدة ولا أعلم مصدر الألم كلما سألني مُصلصلا على فكي بأداته الحديدية فأعجز عن تحديد الموضع بدقة. عقيق الفم كما تعلمين يحتاج ترميما خاصا يا غادة، وعناية تفوق اعتناء جميع الفرشات والمعاجين المستخدمة حتى الآن، لكني اتجاهل ذلك وأُمرره مرور غير الكرام حتى استحالت ملامسة الماء أو أي قضمة صغيرة صدعا يزلزل أعصاب رأسي.
قرر الطبيب وقتها معالجة الآلام المُلِّحة أولا كي استطيع ممارسة شريط مهامي. ومع وقع أزيز آلة الحفار في فمي وحال استشعار الألم من مصدره بدأ جسدي – الذي أرخاه تدريجيا إلى درجة انبساط سريري صوب كرسيه – يرتعش وتصطك أسناني ودموع تنساب على جانبي رأسي. توقف طبيبي المسكين عن العمل وفق إشارة مُتفق عليها وسألني: “إنت بتترعشي؟”. أجبته بابتزاز عاطفي لطفلة صغيرة بالإيجاب وإيماءة. فتوقف عن العمل دون تخدير ووخز لثتي وأعصابها المتألمة في أماكن متفرقة بالإبرة التى لم تعد مخيفة لمتمرسة مثلي. وإلى أن يسري مفعول البنج بدأ يحدثني عن الجلسات القادمة ومن أين سيبدأ الترميم، وذهني يرتل عليَّ سيرة ذاتية طويلة مع أطباء الأسنان تبدأ سطورها مذ أن كان عاجها لبنيا.
أخذ يشرح لي ما سيفعل بعدما استشعر طبقة أولية لقشرة الأوجاع المستترة. قبض أصابع يده ورفع أبهامه لأعلى. وحثَّني علي احتواء أصبعه بين راحتي وأصابعها فاستجبت لطلبه. ثم أخذ يحرك إصبعه المقبوض عليه بشدة ثم ببطء حتى سحبه مشيرا لي بأنه هكذا سيفعل الآن. “لن تشعري بألم ولكن ستشعرين باهتزاز الضرس المُقاوم لخروجه من بين صُحبته”. فأمتننت له محاولة افهامي ما سأشعر به ربما خفف عني عذابات عدم المعرفة.
حينما أنهى مهمته باقتلاع الضرس الذي عولج بشكل غير صحيح ووضع حشوا خلفيا لسنتي الأمامية التي تشرق حال الابتسام، طلب مني أشعة جديدة أحضرها معي في زيارتي القادمة بعد امتحان الأسبوع التالي. وقال لي: “سلامتك”. كنت قد أحببت لُطفه وودت لو قبلته حينها ولكني غادرت وأنا أُفكر في ترك العمل الأكثر إيذاء لي كما فعل طبيبي لتوه. هاتفني من أحب وقتها لسبب ما وكانت بداية نهاية قصتي معه.
كانت الزيارة التالية بعد ثمانية شهور، إثر استشعاري لألم خفيف واحتكاك لساني المتكرر بانزلاق مُجوف لحشو سنتي المُغفلة وقد أخذ لونها في التغير عن توأمها الملتصق. تدرين يا غادة ما ورائية أن تبدو أسنانك مصطفة بشكل صحي تمويها وعطبها غير المرئي داخلي وعميق وخادع للأعين التى تهوى التصنيف. أخذت أُلاطفه لخجلي من استهتاري المتكرر، وأُداعبه متسائلة إن كان سيستأصلها هي الأخرى، ومتى سننسف حمامنا القديم ونُركِب الطاقم كاملا ويستريح كلانا. فابتسم وبدأ يطلعني أنني كعادتي لم أكمل جلسات علاجها للنهاية وأنه لم يكن قد وضع الحشو الدائم بعد، ولكون الحشو المؤقت غير ملائم لمُدد طويلة كما فعلت أحدث صديدا كريه الرائحة في فمي.
لماذا يا غادة أنا هكذا؟ لم اتعايش مع أسباب الألم رغم معرفتي بأنها ستؤذيني بعدها طويلا وستستنزف مشاعري ونقودي دفعة واحدة بعد الصبر الجميل على مكابرتي؟! استحلب ضرعا عجوزا يا صديقتي ولا أعلم أمَضَى زمن المعجزات أم لا تزل ممكنة. هل سيسقيني يوما لبنا سائغا يكفيني زيارات للطبيب تستدعي كل أسى لا أقوى على احتماله؟ أم سينفذ رصيدي البنكي قبلما أسدد فاتورته؟ متى ستكف أسناني عن مطالبتي بديون استهتاري بحقوق رعايتها. لم لا أُبدلها بأسنان فولاذية لا تتأثر بعوامل النحت والتعرية ولا تتطلب تنظيفا مستمرا وعناية لا قِبل لي بها؟ اجيبيني يا غادة فقد نفد معين صبري وعاودتني أنَّات الألم الآن.
خالص محبتي،
أسماء