كأنه يحاكيني، تمر محطة ويصعد طالبُ جامعي ومعه زميلاته، يحاول أن يحميهن من جموع الذئاب – نحن الرُكاب – ودون أن يلمسهُن أحد، لكنّه يلمس إحداهن ويبتسم: آسف
فترد عليه بنفس الإبتسامة: ولايهمك!
اضحك فيعُلق مولانا «كل شئ إلا الخيانة يجوز» أكاد أنخرط في الضحك لكنّي أتماسك.
تتحدث سيدة في الهاتف تتشح بالسواد الكامل يظهر عليها التأثُر قليلاً في عموم التماسك والقوة: آه رايحين المشرحة أهو في السيدة زينب.
يمسك أحدهم طرف الخيط: ودا مات إزاي؟.
فتجيب: وقع من باب المترو.
– : عنده كام سنة؟
– : 19 سنة.
يعلو الوجوم وجوه الكُل، وتتهافت عليها كلمات العزاء.
فيعود فؤاد حدّاد لبداية الأبيات بصوتٍ يملأه الحُزن والوقار «آدي أيام العجب والموت / جت بسُرعة زي غمضة عين / ليه مقولتش زي لمح البصر / كُنت بتقلب علي الجنبين».
لم يُكمل الجمع التعازي حتي توقفت الأنظار عند مشهد ضرب مبرح مُعتاد من أفراد الأمن لأحد الأشخاص علي رصيف المحطة فيبكي صوت فؤاد حدّاد «أقبل الظُلم اللي في الأشياء / والليالي بخدها المدهون / والحياة والناس وحتى في نفسي / واقرا ف الجرنال كلام تاني».
الرئيس يستقبل ملك البحرين في زيارة تستغرق ثلاثة أيام …. يقرأ أحدهم الخبر من جريدة قومية، تكمل سيدة تحمل رضيعاً: والله بقاله 3 أيام بطنه وجعاه ومش عارفه أكشفله، نصل إلي محطة الشُهداء أو رمسيس التي لا يزال البعض يعتقدها مبارك!
تدافع رهيب زحام علي أشده، مشهد ثوري وحراك واسع ينقصه الوعي والتنظيم، يسير المترو ببطء شديد يُعيد أحدهم الأسطورة المكررة علي مسامع الكل: لمّا كانت الشركة الفرنسية واخداه حق إنتفاع 8 سنين كانت مدوّاره بالثانية، من وقت ما سابوه خرب. ينتهي من سرده فتتفرق عنه الأنظار ويعود ليأكل القطعة السادسة من علبة جبنة مثلثات مكتوب أعلاها «بالطاقة مليانة».
يصعد اثنان أحدهم يحمل «المقشرة العجيبة» يقوم بإلقاء حقيبته علي الأرض للفت الإنتباه ويقوم «بتقشير وتأوير» ثمرة الكوسة بسرعة ومهارة فائقة وسرد مُبهر لإمكانيات تلك المقشرة، لم يشتر أحد لكنّه لم يفشل كنت أود أن أُحييه علي إختيار ثمرة الكوسة والـ show الرائع لكنّه قفز مُسرعاً، الآخر بدأ العرض من محطة جمال عبد الناصر، رجل في آواخر الأربعينات، حليق الرأس يحمل علامة صلاة واضحة ولحية بيضاء خفيفة، صاحب صوت جهوري، يبدأ كلامه من حيث «أنا جايبلكم السد العالي» ينتبه الكُل، يرفع «مجموعة من جلد الحنفيات» يتحدث عن أهمية ذلك الجلد بإسهاب، وبراعة تفوق أي مُمثل علي خشبة المسرح، يعرف متي يُخفض صوته ومتي يرفعه، قدير في جذب الإنتباه، يملك حضورٍ طاغٍ وحركات وإيحاءات تدل علي عبقرية الأداء، واثق الخُطا، لاينظر لأحد ولا يهتم بردود الفعل قدر إهتمامه بجودة الأداء، يعود فيقول «أنا جايبلكم السد» وكيف سيمنع الجلد المياه ويحجزها كما فعل السد، وكيف سيمنع كلام الجيران لأنه سيمنع تسريب الحنفيات والخلاطات، وكيف سيحمي الأولاد لأنه سيمنع التسريب من السخان!
للأسف لم يشتر أحد أيضاً أي قطعة، تصبب العرق من وجهه فأخرج منديلاً من القماش امتص به العرق وحمل حقيبته وغادر، كنت أود أن أشكره بمنتهي الجدية علي العرض الرائع، وعن إختياره للحوار والمعالجة الدرامية، وإختيار محطة جمال عبد الناصر، كنت أُريد أن أُخبره عن براعته وموهبته الفطرية، لكنّه غادر بسرعة هو الآخر، وترك لي صدمة وحيرة وإندهاش ولازلت أتذكر بعد كل فتحة حنفية جملته الخالدة في محطة جمال عبد الناصر «أنا جايبلكم السد»!.