سارة عبد النبي
كيف تقنع هذا الصغير الذي يريد احتضانك بطريقة العالم الجديد في التعاطي مع الحب واللهفة والتواصل، تمر الأيام، لا نعرف في الحقيقة بسرعة أم ببطء، الوقت رحلة مملة من الترقب، من الروائح الكيميائية الكريهة ممزوجة بأخبار الموت، من نصائح توعية وأرقام ومنحنيات، معلومات طبية متضاربة، أسماء أدوية أجريت عليها تجارب، اليوم نتائجها مبشرة، وغدا لا داعي للتعلق بالأمل.
دقات قلب غير منتظمة، صوت مناد يعلن في كل يوم عن ثلاث أو أربع جنازات في قرية صغيرة منسية، علامات استفهام كثيرة ودائرة متسعة من الاحتمالات المرهقة، شفقة ممزوجة بحنان ولوعة عند النظرلتجاعيد جيل من الكهول، كبارا وصغارا.
نستيقظ وننظر لتاريخ اليوم، نتفاجأ ثم ندير ظهورنا للزمن وهو يهرب، ونحن نقف في نفس المكان تماما، نريد من العمر أن يتوقف ونقفز به حاجز الخوف، كاملا لا ينتقص الحزن منه ساعة.
تلعب الأيام معنا لعبة الحياة والموت بضربات سريعة متلاحقة، كاشفة كل خططها، شاهرة كل أسلحتها في وجوهنا، ونحن عُزل، مرضى الأمل حتى ولو كان لا دليل يشير إليه حتى الآن، سوى رغبة ملحة في البقاء، سوى شوق للرجوع للأشياء البسيطة، العادية جدا، قبلة على جبين أمي في الصباح، لقاء الرفاق، ضمة سريعة لحبيب عابر في طريقنا، تذوق وهم كلمات الأغاني السعيدة مرة أخري، الانشغال بالمشاكل الصغيرة التافهة، ماضي كان قريبا جدا، أصبح كأن دهرا مر عليه.
أكثر ما في الأمر صعوبة أن تلك الأشياء التي تحصننا ضد اليأس اختفت لأجل مسمى لأن وجودها يكشف صدرونا للموت، بالرغم من التشارك في المصير، نشعر بعزلة، بوحدة موجعة، في ضعفك ومرضك وموتك، أنت وحدك، لا أحد هناك من أجلك.
أهلا بكم في السريك القومي….
بخمسة جنيهات اشتري صابونة تقيك من المرض، بخمسة جنيهات اشتري كمامة، مناديل ورقية، زجاجات من الكحول، أو بخمسة جنيهات وحيدة في جيبك اشترى خبزا لأطفالك، يأكلونه بأيادي ملوثة ويمرضون، لكل شيء ثمن دائما، واضف أمام هذا الثمن أصفار كثيرة الآن، فالكل يتاجر ويربح،
ابق في منزلك حتى تحد من انتشار المرض، اقلق على حياة غيرك من نفسك، واقلق على حياتك من كل من حولك حتى أقرب الناس إليك،
اجلس أمام التلفزيون، شاهد مذيعا يصرخ في وجهك كل ليلة قبل أن تذهب للنوم، ينتقد استهتارك الذي يهدد كل إجراء تتبعه الحكومة من أجل سلامتك، يعرض صورة لمحطة قطار مكتظة بمواطنين مستهترين يذهبون لأعمالهم!، ابق في منزلك ولكن ليكن في علمك اقتصاد بلدك سينهار لو لم تنزل لعملك،
(إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل) عبارة يكتبها عدة أصدقاء لك على مواقع التواصل، ولكنك لا تدري حقا لماذا؟ لو خرجنا هالكين يكن ذلك عدلا…
اقرأ عشرات التويتات لرجل أعمال، ملياردير من أغنياء العالم، يندب طوال الوقت كندابين القبور، على الاقتصاد والخسائر المحتملة، أن تموت مريضا، أن تموت جائعا، لا يهم، على كل حال ستموت، وفي كل وقت تجد من يساومك على لقمة العيش،
شاهد فيلم صراع الأبطال، الطبيب الشاب قليل الحيلة في مواجهة الجهل والفقر والفساد والاقطاع، يريد أن ينجو بالقرية من الوباء، تتحالف ضده الداية الدجالة العجوز، ورئيسة في العمل الذي يريد له الفشل، و عائلة ثرية تستعبد البشر وتقدم لهم القمامة غذاء وأجر لعرقهم، في مشهد دراماتيكي تحاول السيدة الثرية دفع الفلاحين بالإكراه لجمع المحصول من أرضها، يدهسونها تحت أقدامهم وهم يهربون من الموت،
اسمع بعض الأصوات العاقلة والنصائح، ربما تفيد، اغسل يداك باستمرار بالماء والصابون، عشرات المرات في اليوم الواحد، بل مئة مرة لو استطعت، وأنت جالس وأنت واقف وأنت تشاهد التلفاز وإن استطعت وأنت نائم، اغسل يداك بالماء والصابون، ولكن لا تأكله،
شاهد فيديو سيدهشك للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يقترح فيه حقن مرضى كورونا بالمطهرات ومواد التنظيف لقتل الفيروس وسط دهشة الأطباء والعلماء ومواد التنظيف، لتعرف أن مصائب العالم لم تبدأ بعد،
شاهد فيديو آخر لمظاهرات الإسكندرية للقضاء على الكورونا بالتكبير والتهليل والصلاة على النبي.
المصريون يستهلكون ربع مليار بيضة في السنة، خبر يستدعي الاهتمام وسط الأزمة، ستفزع من الرقم الكبير عندما ينطقه المذيع الأصلع الذي يوبخك، ستندهش لأنك مواطن طيب، ستندهش أكثر لو اكتشفت أن نصيب الفرد لا يتعدى سوى بيضتين ونص في السنة. المهم أن هذا وقت ربط الحزام حتى لو اختنقت به انت وعائلتك،
ارتدي الكمامة والقفازات عندما تذهب للسوبر ماركت ولكن لا تشتري الفراخ أو البيض، اتركها على الأرفف، استهلك فقط الصابون لتصبح مواطنا نظيفا خالي من الفيروسات، خالي من البروتينات.
لا ترتدي القفازات، ثبت عدم فاعليتها في الوقاية من الفيروس، ارتدي فقط كمامة قطنية، اترك الطبية للأطباء، القطنية لا تقيك من الفيروس، إذن ارتدي الطبية، انتظر لحظة، آخر التوصيات تقول أن الطبية هي الأخري لا تقيك بل تقي من حولك من افرازاتك، ارتدي القطنية واترك الطبية، وكن مستعدا دائما لفعل كل الأشياء أوعكسها.
تناول الفيتامينات بكثرة لأن مناعتك ضعيفة، هذا لو وجدتها في الصيدليات، بديلك الفاكهة، كل منها ما استطعت، ولكن احذر سيعايرونك بما استهلكت لاحقا. المهم ابق في منزلك ولا تخرج ابدا، وادفع فواتيرك وحافظ على اقتصاد بلدك من الانهيار، ولا تستهلك كثيرا من البيض.
الفقر والمرض كارثة كبرى….
رأيت فتاة تحتضن أمها المريضة على باب مستشفى حكومي، في البداية لم أميز كيان الأم الضئيل في الصورة، على الأرض تجلس الفتاة محضتنة وجه أمها ورأسها إلي الصدر، تدفن الأم الآلم بداخل الابنة، الشيء الوحيد الباقي الذي تحتمي به من وجه الحياة البائس، من الذل والحوجة والعوز، من فواتير بعشرات الألوف، وحقيقة أن لا أحد مهتم أن يوفر لها سرير وجهاز تنفس، فتنفست الحب الخالص من صدر ابنتها، تحتضن الابنة الوباء بين ضلوعها في صمت عاجز ورضا بلا تفكير، لحظة من الخسة وصفها فقط بالشجاعة.
بكيت كثيرا في مواجهة الحقيقة القبيحة في صورة ثابتة، لا صوت للشكوى فيها ولا عويل يمزق القلوب، مشهد صامت يخبرك بكل شيء، نحن في النهاية تُركنا وحدنا.
الهروب…
ملجئي الوحيد هو النوم، يمنحني بعض الراحة والكثير من الأحلام الغريبة، التي تخبرني بأن الراحة الآن ما هي إلا وهم كبير.
امتحان مفأجيء في مادة التاريخ التي لم أدرسها مطلقا، مذابح وحروب، ديكتاتوريات صدرت سنوات من الأوبئة التي حصدت أرواح ملايين البشر بسبب الكذب والتدليس.
صعود مرهق لا ينتهي لقمة عالية، ونفس قصير مختنق، يحتاج لاسطوانة أكسجين ضخمة لينضبط.
طفلة صغيرة تبكي على صدري، أتفأجا أنها ابنتي، وجهها مليء بالتجاعيد ومريضة بأمراض مزمنة، متى انجبتها ولا كيف، لا أعرف، عبء أريد التخلص منه فأنحدر من القمة العالية وأسقط من سنوات التاريخ، ترهقني الأحلام أستيقظ..
(روتين يومي…
أتناول أدويتي بانتظام، أحرص على عدم الخروج من المنزل، أصحاب الأمراض المزمنة أكثر عرضة للخطر، أتابع باهتمام كل ما يثار عن هذا الموضوع، ثلاثة بما فيهم أنا من أفراد عائلتي نعاني من أمراض وراثية مزمنة منذ بداية الشباب،
بالأمس اشترت أختي الطبيبة كمية قليلة من الكمامات وزجاجات الكحول، قالت أن السعر تضاعف خمس مرات على الأقل من آخر مرة أشترت فيها، والجودة رديئة… تعلمني كيف أرتدي الكمامة، كيف أتخلص منها، أمام المرآة أنظر لشكلي الغريب، وجهي الصغير، هالاتي السوداء التي برزت، أخرج لزيارة الطبيب للعلاج، على السلالم أجد واحدة ملقاة، بداخل العيادة يقول الأب لابنه أخلع الكمامة حتي تستطيع أن تسعُل جيدا، نظرت وابتسمت..
حلاوة روح…
أتذكر في البداية كم كنا نعتقد أننا نسبق المرض بخطوة، لم نكن نثق في منظومتنا من قبل في أي شيء، ولا نثق في أي وجه يخرج على الشاشات ويدعي أنه يخبرنا بالحقيقة، لا نثق بأرقامهم ولا تقاريرهم، خصوصا المتعلقة بقيمة حياة المواطن،
ولكننا تأملنا الصدق والنجاة بهم، قالت وزيرة الصحة تجربتنا في علاج الكورونا ستنال اعجاب العالم، ثم بعد شهرين قالت أننا لو فشلنا سيكون بسبب تصرفات المواطنين،
كنا كالغرقى نتعلق بحسن النوايا، ولكن النوايا وحدها لا تكفي، كنت ألاحظ قول أشياء و حدوث عكسها، أو بمعنى أصح أن ما يقال لا ينفذ، عاد بعض شباب قريتي العاملين في فنادق شرم الشيخ والغردقة بعد يوم واحد من قرارات أصدرت بعدم مغادرة العاملين بالقطاع السياحي مقار عملهم خلال ١٤ يوما، ألغيت الأسوق، قام البائعين في قريتي بإقامة السوق قبل موعده في الشارع الذي يقطن فيه عمدة القرية بذاته وتحت رعايته، ثم صار السوق الذي كان يقام لمرة واحدة يقام لثلاث مرات في الأسبوع،
أقرأ النكات وأشاهد الفيديوهات المضحكة، أضحك أحيانا بصدق، وأحيانا بمرارة وأنا أتذكر الخوف الحقيقي، أن تصبح هذه السخرية المغلفة بالأمل الآن ذكريات شديدة التعاسة غدا.
الانتظار…
نحن في الشهر السادس من العام الجديد، نقف هنا في هذه اللحظة من الزمن، نحن والخوف يلاصقنا، كم مر من الوقت علينا في الإنكار والمماطلة والتسويف، وإيهام الناس بأشياء لن تحدث، ثم التكسب بعد ذلك من ألامهم في ظرف استثنائي تعيس.
بالأمس سبقتنا إيطاليا وإسبانيا وأمريكا بأقارمهم المرعبة، كان الغناء والرقص في الشرفات يحيي الأمل بداخلنا، حتي رأينا مشاهد عربات نقل الموتى في الشوارع، كبرى الدول غارقة في الحداد، المرضي يتساقطون على أبواب المستشفيات، وجثث الضحايا تتزاحم في المحارق، بؤس يعلن عن عالم جديد أكثر شراسة.
التعلم من تجارب الآخريين كان منحة من السماء رفضنها، ينظر البعض غير مصدق، كمن تعرض للخديعة، والبعض الآخر أصيب بالهلع من كم الأخبار والأرقام، وما زال هناك بين الطرفين منكرون مستهترون، وبالطبع الحاضرون بقوة في كل وقت، عشاق نظرية المؤامرة،
بالأمس كانت إيطاليا نصلي من أجلها، وكنا نتمنى إلا تؤدي بنا كل الطرق إلى روما.
فرصة جديدة…
كنا نتحدث عن نهاية العالم ونضحك، وأنا لا أصدق تلك النهاية الحزينة، وأتمسك بالأمل رغم كل شيء، أتمنى أن يعبر جيلي هذه المحنة، حتى لو تبقى في الذاكرة مرارة التجربة، هذا الجيل الساخر الذي جعل من مأسيه وأحلامه وثوارته كوميديا سوداء يضحك عليها ليتنفس، أتمنى أن يظل يضحك دائما…
لست وحدك رغم كل شيء….
نحن سلاسل من ملايين البشر حول العالم، بقع حمراء متناثرة تتزايد على الخريطة، متضامنون رغم كل اختلاف بيننا في لحظة فارقة بالطبع، نتشارك معا الهم والقلق والخوف والأمل، لا أحد يريد السقوط لأحد، فرضية النجاة مرهونة بذلك، فأنا أتحدث عن البشر وليس الحكومات، نترقب، ندعو ونبتهل ونصلي بكل الأشكال، نتنسم أخبار عن علاج جديد ينقذ ملايين المرضى، ننتظر لحظة الاعلان عن انتصار العلم في مواجهة الموت والجهل والفقر، ونأمل حينها أن نكون نحن وأحبائنا بخير..