محمد العبادي
نجاح كبير حققه كريستوفر نولان بأحدث أفلامه “أوبنهايمر” الذي قدم أداء مميزا في شباك التذاكر بالإضافة لإشادة النقاد وجمهور السينما.
فبعد العثرة الفنية والتجارية لفيلمه السابق “تينيت”، يبدو أن المخرج البريطاني استطاع العودة للطريق الصحيح عبر فيلم السيرة الذاتية الأول في مسيرته، الذي يعرض فيه حياة ج. روبرت أوبنهايمر. عالم الفيزياء الأمريكي الشهير. الملقب بأبي القنبلة الذرية.
الفيلم يأتي ليكون امتدادا للمرحلة الحالية لنولان التي بدأت بـ”دنكيرك” 2017.. المرحلة التي عمد فيها للابتعاد تماما عن استخدام مؤثرات الصورة باستخدام الكمبيوتر.. ربما متعمدا أن ينفي عن نفسه تهمة الارتكان للكمبيوتر.. وليظهر نقاط قوته الشخصية كمخرج وكاتب سيناريو.. كذا إظهار عوامل قوة الطاقم المشارك في تكوين الفيلم من تصوير.. مونتاج.. إدارة إنتاج.. موسيقى.. وبالطبع أداء الممثلين.
لهذا كان عامل القوة الأهم في الفيلم هو السيناريو.. ربما يمكننا القول أن أهم مساعد للمخرج نولان في انتاج أوبنهايمر هو “السيناريست” نولان.. سيناريو قوي ومتماسك مكتوب بنمط نادر بالنسبة لكتابة السيناريو.. حيث كتبه نولان باستخدام “الراوي الأول” وليس الراوي العليم كما تكتب السيناريوهات دوما.. رغم أن موضوع الفيلم مرتبط بالفيزياء لم يسقط نولان – أخيرا – في فخ التعقيد العلمي.. وصنع شخصيات قوية من لحم ودم ذات تفاصيل قوية في سياق تاريخي شيق.. وأعطى لنفسه الحرية في التعامل مع الشخصيات من وجهة نظره الشخصية كراوي وليس من وجهة نظر بطله أوبنهايمر.. كذلك احتوى السيناريو على روابط أدبية.. خاصة مع “الأرض الخراب” ل ت س إليوت.. وبالطبع مع الشاعر الانجليزي جون دون الذي استلهم منه أوبنهايمر اسم تجربته النووية الأولى: الثالوث.
بنى “السيناريست” فيلمه على خطين سرديين لكل منهما عنوان افتتاحي.. الأول بعنوان انشطار: يبدأ بجلسة استماع رسمية للعالم جي روبرت أوبنهايمر.. والثاني بعنوان: اندماج: تم تصويره بالأبيض والأسود، ويبدأ بجلسة استماع للسياسي الأمريكي: لويس ستراوس.. اقتبس هنا نولان نمط الخطوط والعناوين الفرعية التي قدم بها “دنكيرك” من قبل.. لكن استخدمها هنا بشكل أكثر تعقيدا فاستخدم تقنيات الاسترجاع والمونتاج المختلفة لينطلق من جلستي الاستماع ويرسم حياة العالم أوبنهايمر الحافلة بالأحداث والأبعاد الإنسانية والسياسية.. بالتالي نجح الفيلم في عرض حياة بطله عبر ثلاثة مراحل: ما قبل لوس آلاموس/ لوس آلاموس/ ما بعد لوس آلاموس.
جزء من عوامل قوة السيناريو هو دقته التاريخية وتعامله الواعي مع المشكلة الأساسية للتاريخ: تعدد الروايات وتضاربها بتضارب وجهات النظر عن نفس الحدث.. لهذا لجأ لحلول فنية مثل استخدام نمطي ألوان مختلفين للتعبير عن تغير وجهة نظر الراوي ما بين أوبنهايمر وستراوس (ملون: أوبنهايمر، أبيض وأسود: ستراوس).. بالإضافة لعرض نفس الحدث بصور مختلفة.. كما حدث في عرض حدث “موت” جين تاتلوك.
يمكننا أن نقول إن السيناريو يبيض وجه العلماء ويسود وجه السياسيين.. فبينما بدا العلماء أكثر إخلاصا للبشرية والعلم.. رغم عملهم على إنتاج سلاح فتاك قد يقضي على العالم بأكمله إلا أن العلماء كانوا في جانب الخير دوما.. فسعيهم الأولي لإنتاج القنبلة جاء لإنقاذ البشرية من خطر سبق القنبلة النووية الألمانية التي كانت لتغير مصير العالم.. وحتى بعد فشل الألمان واستسلامهم.. بيض نولان أيدي علماءه بأن السعي لاستخدام القنبلة كان الهدف منه إنهاء الحرب على الجبهة الشرقية بأقل خسائر ممكنة في الأرواح.
على الجانب الآخر بدا السياسيون في الجانب الآخر.. لا يتناهون عن التضحية بأرواح البشر وإفساد حياتهم بلا ذرة ضمير.. مثل لويس ستراوس وبالطبع مثل الرئيس الأمريكي ترومان الذى ألقى بقنبلتين نوويتين على الأبرياء دون أن تؤرقه الدماء التي لوثت يديه.
لكن عوامل القوة في “الصورة” الناتجة عن تنفيذ هذا السيناريو لا تقل في جودته.. فالسيناريو الجيد ليس ضمانة لإنتاج فيلم جيد.. وبالتأكيد نجاح الفيلم لا يعتمد فقط على قوة السيناريو وحده.. فالسينما في الأساس هي فن الصورة المتحركة.. العامل الأول في جودة الصورة هنا هو التصوير.. نجح مدير التصوير هويت فان هويتيما في الاستجابة لتحديات الفيلم.. مع استخدام تقنية الآيماكس.. خصوصا في لقطات الأبيض وأسود التي ابتكرت لها كوداك أفلام آي ماكس أبيض وأسود خصيصا لهذا فيلم.. مدير التصوير الهولندي الذي حظى بثقة نولان في كل أفلامه منذ “بين النجوم” والذي تشمل سيرته الذاتية ترشيح للأوسكار عن “دانكرك” وافلام “المقاتل”، “هي” و”سبكتر” تعامل بوعي احترافي مع طبيعة الفيلم وصياغة الفرق بين اللقطات الملونة وغير الملونة.. خصوصا مع وجود إعادات لنفس اللقطات بالألوان وبدونها.. نجح في هذا رغم ضيق ميزانية الفيلم والتي قيدت إمكانية إعادات اللقطات.
يأتي بعد هذا المونتاج المميز لجينيفر ليم الذي أمسك بزمام إيقاع الفيلم، جاء الإيقاع مناسبا لطبيعة الفيلم، لم يستسلم لإغواء الواقعية التاريخية واستخدام إيقاع بطئ لتمثيل روح العصر.. المونتاج هنا كان عاملا حاسما للتحكم في خيوط الحكاية في ظل تعدد الرواة والانتقالات السردية المفاجئة من راو إلى راو ومن زمن إلى زمن.. بالمقارنة بـ”دنكيرك” الذي كان فيلما حربيا تدور أحداثه في نفس الفترة نجد الإيقاع هنا أكثر هدوءا بما يناسب طبيعة السرد الشخصي لـ”أوبنهايمر”.
كما أسلفنا أصر المخرج على عدم الاعتماد على المؤثرات الكمبيوترية.. بالتالي كان اعتماده الأساسي على المؤثرات العادية.. واتت المؤثرات السينمائية التقليدية أكلها.. وأصبح أهم مشهد في الفيلم هو مشهد تجربة الترنيتي الذي اعتمد في تركيبه على دمج تصوير عدة انفجارات حقيقية بالإضافة لطبيعة التصوير ومؤثرات الكاميرا والضوء والصوت للإيحاء بانفجار نووي قوي.
أداء الممثلين في الأدوار المختلفة كان مميزا.. اختار نولان إسناد البطولة لمواطنه “كيليان ميرفي” الذي شارك معه في عديد من الأفلام عبر مسيرته.. وكان ميرفي على قدر المسئولية.. لكن يبدو أن من حظى بالإعجاب الجماهير الأكبر هو الأمريكي روبرت داوني جونيور في دور السياسي الأمريكي “لويس ستراوس”.. رغم حصول داوني جونيور على ترشيحين للأوسكار من قبل إلا أنه يبدو أن الجماهير لم تعد تذكره إلا في سترة “آيرون مان” الطائر عبر عالم مارفل.. لهذا جاء الدور كإعادة اكتشاف لهذا الممثل.. بالفعل قدم أداء على المستوى في فيلمنا.. كان عليه عبء التنقل بين الطيبة والشر.. الثقة والتوتر.. الهدوء والانفجار عبر ثوانٍ قليلة على الشاشة.. ظهر هذا في مشاهد الحوار بينه وبين مساعديه.. خصوصا مع اقتراب الفيلم من نهايته.. أما مات ديمون فلم يحتج منه الدور كثيرا من المجهود.. هو مجرد دور لجنرال يرتدي بدلة جنرال!
اختيارات نولان للأدوار النسائية كانت مميزة.. بين إيميلي بلنت في دور زوجة أوبنهايمر الشيوعية تارة والمدمنة على الكحول تارة.. والشابة فلورنس بوغ في دور الناشطة الشيوعية جين تاتلوك.. رغم مساحة الدور الضيقة إلا أنها استطاعت فرض نفسها عبر وقت وجودها على الشاشة.
لدينا كذلك أدوار محدودة لأسماء مثل جاري أولدمان الذي اكتفى بمشهد واحد ذو أثر كبير.. وكينيث براناه الذي كفر عن أداءه في “تينيت”.. كما يجب الإشادة بـ”جيسون كلارك” في دور مدعي لجنة تجديد التصريح الأمني لأوبنهايمر.
ربما وجد نولان في سيرة أوبنهايمر تشابها مع سيرته الشخصية.. المبدع الغريب الذي تجنبه الكل.. فكما حرم نولان من الاهتمام النقدي والأوسكار عدة مرات.. حرم الأمريكان أوبنهايمر من تقدير مستحق.. رغم اعترافهم في الحالتين بعبقرية الشخص الذي ظلموه.
……………………….
* نشر في مجلة “إبداع” أكتوبر نوفمبر 2023