عن المولد.. تجربة الفناء.

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخرانى *

قبل أن تدخل هنا، أترك كل شىء هناك، غادر جسدك، لحمك عظامك.. أترك أهلك، أصدقائك، أحلامك ،ألمك، حياتك القصيرة الفانية.. أدخل هنا بضعفك.. ضعفك فقط.. ما تراه هنا ليس كما تعتقد أو كما يبدو لك.. ليس زحام بشرى، وموسيقى صاخبة ترفعك معلقًا من قلبك وخيوط روحك، أو روائحتشق لك طرقًا وسط الغابات والجبال والبحار، ولا نور تدخلك أسرارًا وأكوانًا جديدة، ليس الخيال فى أجمل تجلياته الواقعية، ولا الواقع عندما تنبت له ملايين الأجنحة ويحلق، ليس هذا فقط، وإنما أيضًا هنا كائن أسطورى، وبما إنك فى المكان فقد صرت جزءًا من روحه، وبعد أن تلمس أول نقطة فى الزحام، عندما يلمسك أول ضوء وتضرب قلبك أول "مدااااااااااااااااااد" ستصير جزءًا من جسد هذا الكائن الأسطورى، فانطلق هنا.. فى هذا العالم، لا تنظر خلفك ولا تفكر لحظة واحدة، لو فكرت أو سألت سؤالا واحدًا ستطرد، انطلق وإذا قبلك هذا العالم.. إذا نلت الرضا –بعض الرضا- فأنت الذى كنت جزءًا ستصير الكل، تصير وحدك هذا الكائن الأسطورى/هذا العالم.. أنت كل هذا النور، كل هذه الموسيقى، كل هذه الأرواح، الصفاء ، والصخب الذى هو أحد شروط الحياة والحب.. ستصعد حتى تكون.. تكون ماذا؟ لا أعرف، ستكون على قدر وصولك، ما أعدك به أنك لن تخرج أبدًا كما دخلت، ستسمو، تتحرر، ستعرف أن ما أنت فيه هنا حقيقى وما بالخارج وهم غير حقيقى، وهل هناك شىء بالخارج فعلا؟

 

هنا سترد إلى أصلك.. إلى ضعفك وفناءك، فترتاح بهذا الإحساس، أنك ضعيف وفان، ستصير جزءًا من حقيقة.. من نور..من وحى .. إلهام.. تكون من ماء وهواء وأجنحة وموسيقى وشىء لن يشعر به سواك ولن تستطيع أبدًا أن تصفه لغيرك، فكأنما هو منحة لك وحدك، تجربة تعيشها وحدك، هنا دمك مراق فى الشوارع مثل نهر كبير تسبح فيه الموسيقى، وتسقطفيه أقمار وشموس وكرات من ثلج ونار، ستجرى فيك كل المخلوقات والمشاعر التى ستكون كلها حريصة على أن تردك لأصلك الفانى فتعيش حرًا خفيفًا محلقًا للأبد.. أبدك الخاص بك، تظل المخلوقات والمشاعر تفعل بك ذلك حتى تعيش أنت الموت والحياة عدة مرات وتراهما عدة مرات، وتعرف أنهما مجرد فكرة بسيطة ضعيفة وفانية مثلك، ستأتيك كل أفكار الكون وتذوب فيك أو تذوب فيها حتى تكون أنت لا شىء وكل شىء، ستعرف أنك وكل الأشياء مجرد فكرة واحدة جميلة تبتهل لمبدعها.

يستهوينى الصخب والجموح، أحب الموالد، الأسواق، الحضور الكونى، أعتبر أن الصخب هو قلب الحياة، هو أصل الأشياء، حتى تلك التى تبدو ساكنة، فإنها صاخبة بطريقتها، وعندما تمل مما يمكن اعتباره هدوءًا فإنها تنفجر بالماء أو النور أو الحركة أو الصراخ أو تموت-إن كان هناك موت-بحثًا عن المزيد من “الصخب”.

تستهوينى الأجساد القادرة على العرق.. وهل هناك جسد غير قادر على العرق؟

إعرق هنا بكل قطرة فى دمك.. للعرق هنا رائحة أخرى وإحساس آخر ولمعان آخر، عش الصخب والجموح، انبض بكل دقات قلبك، عشها كلها هنا.. هنا فى “المولد” حيث اعتدت أن أقضى أيامًا غير محسوبة من عمرى القصير الفانى، أرمى كل شىء ورائى وأسلم روحى وجسدى بتفانى لحقيقة لا أدركها ونور لا ينتهى، أفرغ جسدى وروحى تمامًا لأستقبل هذا العالم، وأعيش فيه أعمارًا مضاعفة أو عمرًا ممتدًا بلا نهاية أو لحظة واحدة أموت بعدها راضيًا.

تجربة “المولد” يمكن أن تكتب بألف طريقة، أى شخص يعيش هذه التجربة، ولا أقصد هنا مجرد أن يحضر المولد، سيصفها بطريقة تختلف عن الآخرين، لأنها التجربة التى لا يمكن الإحاطة بها وتحديدها فى وصف أو شعور ما، كما أنها تختلف من شخص لآخر رغم أن جوهرها فى النهاية واحد، أنا أسميها تجربة “الفناء”، الفناء فى الحب، فى الصعود، فى الحرية، فى المعرفة، فى الوصول، فى النور، والأبدية.

كل من يعيش هذه التجربة ثم يحكيها أو يكتبها سيبقى لديه سر غامض لن يعرفه، وإحساس لن يستطيع أن يصفه، لكن سيبقى فى كل هذه التجارب إحساس واحد مشترك أعرف أنه ما يجلب كل هذا الرضا، كل هذه الراحة والسعادة والخفة ووضوح الرؤية.. هذا الإحساس هو معرفة الإنسان بأصله وإدراكه لجوهره.. وهذا الإحساس/الأصل/ الجوهر هو.. الضعف والفناء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي من مصر

 

 

مقالات من نفس القسم