أنين سوط

موقع الكتابة الثقافي art 01
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان أحيا

كان يمر كعادته بعربته التي يجرها حماره. إنه أحد الباعة الجائلين، وبينما يعلو صوته مناديًا ببضاعته يخترق أذنيك صوت السوط على ظهر الحمار، وكأنه لا يصيب به كائنًا حيًا صاحب روح، أو ربما كان دافعه هو اعتقاده بحيوانيته الذي هيأ له أحقيته بسلب ذلك الحيوان أبسط حقوقه في الرحمة ، وبين ذاك الفقد لإنسانية الإنسان وهذا التجلي لضعف الحيوان، يسمع أحد الشباب أثناء شرائه من ذلك البائع صوتا، ليس كأي صوت مر بأذنيه حتى ذلك اليوم؛ إنه صوت أنين السوط، فتجمد الشاب مكانه وكأن الزمن توقف فجأة عن كل شىء سوى عن ذلك الأنين، فإذا بالسوط مناجيا الحمار راجيًا عفوه: الرحمة.

فتعجب الحمار: هل أنت من يرجو رحمتي؟! أراك اختلط عليك الأمر فأنا من أضرب، فأجابه السوط: ولهذا أطلب صفحك عني؛ فأنا سلاح ذلك المدعو الإنسان لحثك على السير، ولكن ما إن أقع على جسدك حتى يعييني الألم وأشعر بأن علاج سقمي في رجاء عفوك.

 أجابه الحمار: إذا كان سبيل سكينتك في صفحي فلا ترهق نفسك؛ فأنا لا أكن لك أية ضغينة، فتعجب السوط: حقا؟! ولكن كيف وأنا من ينزل بك أشكالًا من العذاب في كل مرة أنزل بها على جسدك في برد الشتاء ولهيب الصيف؟! فما كان جواب الحمار سوى أن قال: لست إلا أداة في يد الجلاد وهو من بحاجة لطلب الصفح.

ذهل السوط: الجلاد؟ وكيف وهو السيد؟

الحمار: نعم الجلاد، ولكنه بحاجة الصفح من إنسانيته التي هجرها بتوهمه للسيادة؛ فأصبح عبدًا لوهم في مخيلته، ونسي أن ما من سادة وعبيد هنا في هذا الزمان، أو على هذه الارض، ولا في أي زمان ولا في أية أرض ، فنعم كرم الله الإنسان بالإنسية، ولكن الإنسان نسي فروض تلك الإنسانية وانغمس مفكرًا في أساليب احتراف السيادة الوهمية بينه وبين أخيه الانسان، فكيف تعتقد أيها السوط الرقيق أنه سيتذكرها معي؟!

السوط: ولكن ألا تحزنك قسوته ؟

الحمار: بلى، فالشفقة هي ما يعتريني كلما نظرت إليه وذويه.

فلمع بريق خيال جميل في عقل السوط فصرح به: تخيل ياصديقي لو بإمكاننا أن نحل محله اوبإمكاننا الإختيار.

فابتسم الحمار سائلاً: إذا ماذا كنت ستختار؟

السوط: كنت سأضربه بكل ما أوتيت من قوة .

الحمار: إذا لأصبحت مثله، ولاخترت القسوة كما اختارها، ولتحولت من مكره بقلب رقيق إلى قاس لم يكره على التجبر.

أمعن السوط التفكير، ثم قال متحيرًا: ولكن أليس هذا ماتتمناه أيضا وأنت الذي يصيبك مايصيبك من وحشية الإنسان، ثم أي شفقة تلك التي تتحدث عنها، وأنت وحدك من تجوز عليه الشفقة؟!

فأجاب الحمار: بلى ليس هذا ما أتمناه، فلقد خلقت حمارًا بأمر إلهي؛ فسخرت لأجل الإنسان، فأنا أعي ما قد قدر لي، ولست ناقمًا على الإنسان، وليس تبادل الأدوار- وإن كان التمني ليس ضربًا من المحال- فهو ليس إحدى أمنياتي؛ فلقد رأيت من البشر ألوانًا وألوانًا أعقبها تضرعي إلى الله شكراً على شاكلتي من أوجدني عليها، فبينهم من يتمنى لو يحيا حيوانا معتقدًا بأننا عن الحساب بعداء، ومنهم من يعيش دون حياة البشر ودون حياتنا، فيرثى لحاله، ونرثى معه لحاله، ومنهم من يحيا ذليلًا خشية سيد أو تملق آخر، وهؤلاء أدنى من مرتبتنا هذه، لوكان الدنو من صفاتنا، فالحق أننا حيوانات تحكمنا الغرائز وتبقينا القوة، ولكن قانون بقائنا عززه الله بسلاح في كل منا، وهو سلاح التكيف، وفيه تكمن قوة كل منا في ذاته أمام خصمه، ولا يخفى عليك أن الإنسان أحد هذه الخصوم حيث الشرس منا أولهم والطبيعة ثانيهم، ولكن حتى من لا يقوى بيننا على التكيف أمام القوة التي يجابهها فإنه يلقى حتفه، دون محاولات ذلة؛ فيصبح فقيد ضعفه ؛ فلاتجد منا مثلًا من يحاول التقرب من الأسد أو النمر أو غيره طمعا في مأكل أو استجداء لمكانة بجانبه، أوتأملا في علو أجوف كاذب، فتجد قوتنا متجسدة في ذروة ضعفنا، ففي محاولاتنا للوذ بالفرار تكمن قوتنا حيث عدم استكانتنا للموت المحقق في عين مفترسنا، وما إن يدركنا الموت نكون قد بذلنا الكثير للبقاء دون استجداء عطف أو تلمس عون..والآن هل عرفت سبب إشفاقي على الإنسان؟

بقلب يملؤه الألم قال السوط: بالطبع ،..كم أتمنى لو أنني لست اللغة الوحيدة التي يتقنها الإنسان؟

قال الحمار مترفقا به: لاتحزن وربما في عدم إجادة الانسان لغة أخرى للتواصل معي- غير ألم السوط وسلاح القسوة- باب للسرور في نفسي، حيث بروز جهله أمامي فأنا أيضًا أجد في قلبي نوازع البشر، ولاتنس الأرض لايسكنها الملائكة فالملائكة يحلقون في السماوات.

السوط متعجبًا :لم أعد أفهمك فلقد حيرتني؛هل الإنسان أدنى من الحيوان أم أنهما سواء؟ الحمار نافيا: لا هذه ولا تلك، فمعاذ االله أن أنزل من قدر من كرمه الله وسخرنا لخدمته، أو أن أدعي أننا في مرتبة سواء؛ ولكن من أصابتهم سهام كلماتي هم من تدنت نفوسهم من البشر فأضلتهم حتى فقدوا معنى الحياة بإنسانيتهم، فعاشوا أمواتًا بحيوانيتهم التي تتخطانا؛لأنها تصبح حيوانية مضاعفة، ومحال أن تستقيم الحياة بصنفين من الحيوانات صنف مخلوق وآخر مخير اختار درب الأول.

السوط غارقا في حزنه:هلا اخبرتني الآن كيف لأنيني ألا يصبح صرخات تزلزل الأرض بمن عليها من إنسان وحيوان، وانا الذي كنت أتألم لأصابتي جسدك؟ أما والله وقد ولجت إلى روحك حتى استحال علي دوام حالي..ليتني افقد القدرة على أداء وظيفتي فلا أكون بالألم موكلا.

تبسم الحمار: إذا لقد اخترت سبيلك..ولننتظر لنرى معًا أي سبيل سيلج إليه بنو الإنسان.

وتبسم الشاب المستمع .. فهو أول إنسان عرف مسلكه، فما سمعه لم يكن حديثًا أسطوريًّا أو عمل أشباح، ولكنه رسالة تنبيه تحمل غوثه، فلم يكن السوط والحمار سوى سُعاة أرسلهم الله ببريد النجاة .

 

مقالات من نفس القسم