وجوه بلا ملامح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نجوى غنيم

لماذا يبدو هذا المساء شاحبًا حزينًا؟

منذ أيام لاحظت شدة الشبه بيني وبين الشكل الحلزونيّ الذي يلف ويدور في حلقات متلاحقة، يبدأ من لا شيء وينتهي إلى لا شيء …الفراغ…حياتي رغم كلّ ما فعلته فارغة، تلف وتدور حول نفسها، شعرت أنّ شيئًا ما بداخلي يبكي، خيل إليّ أنّ النهار يشحب، وأنّ أشعة الشمس باهتة والسماء تتراكم فيها ألوان داكنة وسحب رماديّة، والمغرب يزحف بسرعة، شعرت برغبة في الهرب، الهرب من كلّ شيء حولي، الهرب من الأمكنة التي أحيا بها، ومن الناس الذين أحبهم، أريد هواء جديدًا استنشقه، وجوهًا لم أرها من قبل أطلّ عليها وأماكن جديدة لم تطأها قدماي، لكنّني كنت متعبة، فعملي يتطلب وقوفًا طوال النهار، ورجلاي متعبتان لا تقويان على السير، وما إن دخلت المنزل حتى ابتدأ عمل من نوع آخر، عمل لا تعرف من أين يبدأ ومتى ينتهي؟

   الدخان يتسرب من شفتيه مخمورًا مترنحًا كجنية أسطوريّة تنفث الضباب نحو غابات مجهولة نحو جبال تتعرى من غلالاتها فتنبسط مغرية مثيرة غامضة، ينهي اللفافة الأولى ويشعل الثانية… لا أعرف ما هو الدخان بالنسبة إليه؟ لذة إحراق شيء أم لذة إشعال للتفرج عليه أم أنّ الناس عنده سجائر يستحقون الحرق؟ أو ربما كلّ كلامه سجائر ملفوفة رقيقة ثم هي بعد ذلك في الهواء… يحادثني بسخريته المعهودة:

-ماذا أعددت لنا يا حضرة الشاعرة؟…

-زمن الشعر انتهى.

-طبعا لذلك لم تصدري أيّ ديوان.

-لست متفرغة لإصدار الدواوين، فأنا أعمل …

-لا زلت تكتبين، أعرف ذلك، أكتبي لمجتمع لا يقرأ، أكتبي لعالم لا فعل لديه ولا رد فعل.

   صمت ودخلت غرفتي مكسورة…عيناي مليئتان بالدموع، لا أرى شيئًا أمامي سوى ظلام يتراكم كأنّما فقدت بصري، فقدت كلّ الأشياء ألوانها واصطبغت بلون واحد السواد… وانسحب النور من الغرفة.

 لماذا يبدو هذا المساء شاحبًا؟

   لماذا تحزنني الحقيقة وتؤلمني الوقائع؟ تذكرت ذلك الأديب الشهير الذي قدم أكثر من مرة إلى المؤسسة حيث أعمل حاملًا كتبه راجيًا أن يشتريها أحد، وبعد أن تم شراؤها بقيت مركونة على الرف لم تلمس. نظرت إلى مكتبتي الحزينة ما دونته يمكن أن يصدر في عدة كتب، وما لم أدونه يمكن أن يملأ أرفف مكتبات، وتحولت عينايّ إلى شهاداتي الصامتة إنّها هناك محشورة في زاوية مثلي… لم توضع حتى في إطار جميل لتعلق تمامًا كعلمي ومعلوماتي المخبأة في مؤسسة لا أجد فيها نفسي… فأنا من هؤلاء الذين يعملون في صمت، وسيموتون في صمت، ولكنّهم يراعون ضمائرهم في كلّ ما يعملون.

   وضعت رأسي على الوسادة، الساعة تقترب من الثانية عشرة، دموعي تنهمر، والنوم يأبى أن يلامس جفوني، أرقت ولكن يجب أن أنام فأمامي يوم عمل طويل غدًا، فجأة أحسست بألم شديد في صدري، كأنّما هناك من يطعنني بسكين، لكن لم يعد في قلبي مكان لطعنات جديدة… حاولت أن أفتح شفتيّ لكنّهما لا تنفتحان، لساني جاف لا يتحرك، ومرارة غريبة ملتصقة بحلقي، وأشياء غريبة تتراءى أمامي…

” نزل من الطائرة مسرعًا، عينايّ تتابعانه، تلحق به، لم أر وجهه، مشيته ثابتة، أقترب ببطء، أحاول أن أتبين ملامحه، تلفت حوله فحاولت الاختباء، ضحكت في سري، لماذا أختبئ؟ فأنا لا أحد، أنا شيء غير مرئيّ، سأحاول أن أقترب لعلني أكتشف من هو؟ أدنو مادة يدي، تلامس يدي يده فيمسكها…يتشبث بها، أحاول أن أفلتها لكنّني لم أستطع، رفعت عينيّ لأحدق بوجهه فلم أر أيّ ملامح، يدي في يده، أمشي خلفه، قدمايّ تتبعان قدميه في طاعة عمياء، ينتقل وأنا وراءه كأنّما هو ملجأي وبوصلتي، يحدق في إحدى عربات القطار، نظراته شاردة وفي أعماق عينيه يضطرم شعاع غريب، يتجول باحثًا عن شيء ما وأنا في إثره، وصل إلى مكان معزول صعد بضع درجات، وقف أمام بناء صغير مشدوهًا، ترك يدي فتراجعت، تلفت حوله وتمتم ببضع آيات قرآنيّة، اقتربت أمعن النظر في الاسم، إنّه اسمي وهذا تاريخ ميلادي وتاريخ… صرخت: لكنّني لا زلت أحيا! اكتشف وجودي خلفه، أمسك بيدي ثانية، حاولت الفرار وصحت: أين أنا؟”

    أحسست أنّني أخف وأعلو ونظرت لأسفل …أنا في اللامكان، جسدي ملقى على السرير بلا حركة، ابنتاي في الغرفة المجاورة نائمتان، وزوجي نائم لا يحس بشيء، وهناك من يمسك بيدي، لست وحدي…نظرت في عينيه، بحر في عينيه عميق ليس له قرار، وعالم في نظراته واسع ليس له مدى، إنّه صادق خطيبي السابق الذي توفي في حادث سير، من أين أتى؟

لماذا يبدو هذا المساء؟

ناداني بصوته الممتلئ الحاني:

-تعالي معي، هيا قبل أن يفوت الأوان.

– وعائلتي؟

-من يشعر بك هنا؟ لا أحد أنظري حولك.

نظرت إلى زوجي كان قد استيقظ وجلس لينظر إليّ، حاول أن يوقظني… ولكن

 لماذا يبدو هذا؟

-انهضي، هيا ما الذي حدث لك؟

  جلس على حافة السرير، قام وصب كوب ماء وعاد ونظر إليّ، أمسك بهاتفه النقال وأخذ يتحدث، يقول كلامًا لم أعد أفهمه…أو ربما لا أريد أن أفهمه. لم لا يحاول إسعافي، تذكرت صديقتي التي أصابتها نوبة قلبيّة، حضنها زوجها بقوة، أسعفها، احتواها بين ذراعيه، انتزعها من بين أنياب الموت بقبلاته التي تسللت إلى كلّ عرق من عروقها… وأعادها إلى الحياة، كلّ ما أريده لمسة حنان تبدل مغاور روحي، كلمة حب تبدل تضاريسي النفسيّة.

   كان بعيدًا كعادته، لم يقترب، لم يشعرني بحبه وحنانه، لم يحضنني…ربما هي فرصته الآن للزواج بأخرى لتنجب له “ولي العهد”، ترى مع من يتحدث؟ ربما مع تلك البعيدة جسديًّا والقريبة من القلب. ابنتاي تبكيان تحاولان إيقاظي، وهو جالس كالتمثال.

 لماذا يبدو؟

   أنا بلا قرار، لا أعرف الطريق، شيء ما انطفأ في داخلي مثل لهبة هجرت مصباحها، عينايّ بلا نظرات، كوجوههم التي بلا ملامح، وصادق يمد يده الباردة، برودتها وافدة من مكان بعيد سحيق، يربت عليّ، يشدني إليه…انتظرت أن يمسك باليد الأخرى أحد، أحسست أنّ شيئًا ما يقترب، إمّا أنّها النهاية التي انتظرها أو أنّها المعجزة، أنا في قاع مظلم ملتو بعيد يدور كمتاهة حلزونيّة.”

لماذا؟

  شيء ما يتسرب من بين أصابعي ولا أستطيع أن أفعل شيئًا… عينيه فيهما سر، رهبة وصدق، وهناك في أعماقهما نور يدل على الطريق.   

؟   

…………………….

*كاتبة من فلسطين

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون