هل سمعتم الأوبرا التي ألفتها بمفردي من الأنين؟، الإجابة على هذا السؤال الذي يأتي في إحدى قصائد مروة، هي الديوان بأكمله، الذي يأتي أشبه بقصيدة أوبرالية واحدة طويلة من الأنين ونعي الذات والعالم، ومواجهة ذلك بالسخرية وإعادة تشكيل هذا الكون الذي غدى يقص أيامها وينثرها في الهواء.
تهتم مروة في ديوانها بالإجابة على سؤال الناقد الشكلاني رومان جاكوبسون ‘ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟’، فالسؤال الذي سعى من خلاله الناقد الروسي الشهير للوصول إلى مفهوم الشعرية، تجيب عليه مروة من خلال نصوص تمزج فيها ما بين السرد والشعر، ما بين صور مدهشة ورسائل متبادلة، والتناص مع نصوص تراثية، كما أنها تمتح في بعضها من التراث الشعبي، في محاولة لاستبطان الشعرية من كل هذا، فلا تغفل مروة الصورة الشعرية المدهشة، التي تبدو قوام الديوان الأبرز، لكنها في نفس الوقت تسعى إلى استخراج الشعر من المفردات العادية.
تذهب مروة إلى التراث الشعبي، وتعيد استخدام نصوص كلماته التي تبدو معروفة للأذن، لكن مروة تمنحها شاعرية قصائدها، مثل قولها ‘لا قمر ولا شمس ولا يحزنون’، و’بيني وبينكم.. لقمة العيش صعبة’، و’كلنا يسعى لجبر الخاطر’، و’صرفتُ الجِلد والسقط’، و’اعمل الخير وارمِهِ في البحر’ هذه الكلمات التي قد تبدو لأول وهلة كلمات نسمعها يومياً يتغير معناها عندما تصبح جزءاً من نص شعري، بل يعيد القارئ اكتشاف معناها من جديد، كما يقدمه الديوان
بالإضافة إلى هذا تقدم مروة صوراً مدهشة، ويمكن القول إن أكثر من يميز الديوان هو الصور المدهشة، والتي لا تأتي منبتة من القصيدة، بل جزءاً من صورة كبيرة فيها، ‘هل فرغتم من عد الفراشات، التي خرجت من بين أصابعي؟هل علق آخر الغرقى ملابسه، علي جدار قلبي؟’، وبهذا الشكل لنا أن نتخيل مروة وهي ترسم لوحة سريالية فيها ‘رأسي منزِلٌ مُهشّمٌ، لا يملؤه سوى صفير الرياح’، و’أخبط رأسي جيدًا، لتسقط منها الأشباح’، أو ‘ لغتي ناقصة بمفردات، تصلح لتلميع الأحذية’، وقولها: ‘الأرض تشبه برتقالة عفنة، كلما وضعتَ ثقلك على موضعٍ، غاصَ بك العفنُ إلى الأسفل’، هنا يصبح العالم كله جزءاً من صورة متخيلة، ‘تفاجئك بعنوان جريدتها المفضلة: مقتل بابا نويل علي يد قاتل محترف’.
الشيء اللافت للنظر في هذا الديوان، أنه يكاد يخلو من القصائد التي تخلو من الحديث عن الحب والجنس الآخر، والذي يسم معظم الكتابة النسوية، ليحل بدلاً منه الحديث عن الخيبات الشخصية، ونعي العالم، هنا تكون الذات حاضرة أكثر من حضور الآخر، ربما لأنها تتجاوزه، بل إن الشخصيتين الأكثر حضوراً في الديوان هما ‘الله’، و’الأم’، الذين تكتب مروة إليهما جل قصائدها.
يقول بابلو نيرودا: ‘عندما أفتح النافذة في الصباح، وأرى قتيلاً ووردة، هل من الطبيعي أن أكتب شعراً عن الوردة’، لذا تصدر مروة ديوانها بمقطع، يمكن من خلاله قراءة العلاقة بين الشعر والحياة من وجهة نظرها، فهي تتحدث عن رغبتها في كتابة قصيدة، القصيدة كما يتخيلها الناس العاديون، عن العشق والولع، لكنها تنتقل من الواقع إلى الواقع المتخيل، لذا فلأن ‘السماء تلهو بشمس تشوي الفراشات علي مهل’. لذا تقرر أن تغني ‘لقطٍّ أسود, أو شارع يبتلع المارة، أو فالْس عسكريٍّ يصلح للقتلى, أو الإبادة الجماعية للآدميين لصالح الآلة’، وتقرر أن يكون ديوانها ‘عن جماليات الهزيمة وتبرير الخيبة’، إذن فدايوان مروة عن الجمال كما أرادت في البداية ، لكنه جمال الهزيمة، وبدلاً من أن تبرر العشق، تبرر الخيبة.
تتقاطع هذه المقدمة مع قصيدة ‘هدايا صغيرة لا تعجبكم’، والتي تنعي فيها العالم، لتؤكد هذا المعنى، وتؤكد رؤيتها للقصيدة ودورها وأهميتها بالنسبة لها: ‘كنت أود لو أبتسم بهدوء
ونحتسي شاينا معًا، لكن العالم مشغول اليوم بالحروب، والأطفال لم يذهبوا للحدائق. ربما غدًا نغني معًا علي الطريق، و نحتسي قهوة دافئة، ونبتسم جميعاً بصفاء بالغ، في رحلة الصعود إلى الله’.
لكن المهزوم في الديوان، لا يكف عن السخرية، ربما في محاولة للنسيان، وتبريراً للخيبة، لذا فهي تسخر من الشمس، ومن البحر، ومن الليل ‘مرةً عايرتُ الليل بلونه:أسود ولا يصاحبه سوى المنسيين’، هذه الحالة المدهشة من السخرية، تمتد على طول الديوان
روتينية الحياة، ومللها، جزء من الخيبات التي ترصدها مروة في ديوانها، بعد أن فقدت هذه الروتينية طبيعيتها، وأصبحت بلاستيكية تماماً: ‘يجمعون الورد البلاستيكي، ويصنعون حديقة، تستطيع أن تسمع ضحكاتهم،عن بُعد’.
من هزائم مروة في ديوانها، أن يضحى الموت بلا معنى، ‘كنتَ مشغولًا بتصور أسباب جميلة للموت؛ مثلًا ألا يحتمل قلبك جمال وردة صغيرة تنمو، فتموت، مثلًا أن يحملك نورس على جناحه للسماء، فيهالك هذا النقاء وتموت’، رغم أنها تراه في قصيدة أخرى ‘الموت يشبه العالم
مفاجئ و قبيح’، لذا فهي لا تخفي عداءها للموت في نصوص أخرى كثيرة، لكنها لا تذكر ذلك مباشرة، بل تذكر مبرراته ‘أطفال السرطان أجمل من كائنات السرطان المنتفخة’, الموت لا يصبح انفصال الجسد عن الروح فقط، بل هناك موتى على قيد الحياة أيضاً، ‘متُّ قبلها بعامين
وقلت لها مرارًا: لا داعي لكل هذا المرض’، أو حين تصبح الحياة والموت صنوان ‘كما أنني ميتة علي أية حال’.
حالة الهزيمة والخيبات الموجودة بطول الديوان، كرستها وزادت منها حالة الغربة، الغربة عن الوطن، وعن العالم، وهو ما نجده في واحدة من أجمل قصائد الديوان ‘بين بين’،
ثم جاءت اللكنة كضربة قاضية،
لكنتي تُكرِّس كوني لا شيء بالأساس،
لكنتي قطعًا بينَ بينَ.
وها أنا أود حقًّا لو أعرفكم بنفسي،
لكنني أرفع قبعة المهرّج،
أدور بميلٍ غير مقصود وأضحك،
أكتب اسمي في الهواء بحِرفية، أظنها بالغة،
لكنكم جميعا تؤكدون أنها بينَ بينَ.
فهذه الحالة الـ ‘بين بين’ في كل الأشياء، تكرس غربة لا متناهية، فيضحي كل شيء بين بين، الحزن والحب والألم، والدموع واللغة والوطن والحياة ذاتها.
تكتب الشاعرة قصيدة الغربة بطريقتها الخاصة، والتي أفضل أن أسميها في حالة مروة بقصيدة ‘الغياب’، فإذا كانت قصيدة ‘بين بين’، تتحدث عن غربة اللغة، تفهي تحدث في قصيدتها ‘ماما’ عن غربة الروح، التي تجعل الآخرين لا يفهمون حس الدعابة، ‘أمي، لا أحد يفهم حسّ دعابتي هنا.الصور الفوتوغرافية التي أحتفظ بها، تزداد شفافية كل يوم. وحدي ألحظ التفاصيل’، في هذه القصيدة يصبح معنى كلمة ‘هنا’، ‘هناك’، ويصبح معنى كلمة ‘لا أحد’، الآخر الذي لم يعد أحداً بالفعل في عالمها.
حالة الغياب، أو الغربة، تدفع مروة لكتابة ما تسميه نصوص اعتراف، لذا تقدم في ديوانها عدداً من الرسائل الشعرية المتخيلة، إحداها من أم إلى أبنائها الصغار، وإلى مارك، وإلى الأم، لكن كل رسائل مروة لا تصل، لا إلى الأصدقاء ولا إلى الأم، ولا إلى الأطفال، ولا إلى فيروز، لذا فهي تسأل عن طابع البريد الذي يوصل الرسالة إلى الله، ولا يمكن فصل هذا، بالطبع عدم وصول الرسائل، عن حالة الخيبة والغربة والهزيمة، التي تطبع قصائد الديوان.
رسائل مروة، تأتي جزءاً من نصوص سردية جميلة تقدمها في سياق ديوانها، إذ تسعى الشاعرة لتقديم نصوصاً إشكالية، منفتحة على كل الاتجاهات الإبداعية، لذا تكشف بعض نصوصها عن حس سردي، ملتحف بالسريالية، كما في نصوصها ‘تجريد’، و’أولجا’ ورسائلها المتعددة الذي تحافظ فيه على المساحة ما بين الشعرية والسرد.
والسريالية هنا لا تخص النصوص السردية فقط، بل تقدمها مروة كما عرفها الشاعر المكسيكي الحائز على جائزة نوبل اوكتافيو باث ‘السريالية ليست مدرسة شعرية إنما حركة تحريرية، طريقة لاكتشاف لغة البراءة، وتجديد أساس الحياة’، ومن هذا التعريف يمكن قراءة معظم نصوص الديوان، التي تطمح للتجريب والتحرر من القوالب التقليدية الثابتة لكتابة القصيدة وتركيب الصورة، والتقاط الفكرة.
تقول مروة: ‘ولو أن لي أن أقص عليكم حادثة صغيرة، سأقول لكم بهدوء وثقة كاملة إنني شاهدت يمامات تخرج من كفيه، وإن وردة صاعدة من لسانه أهداها تلقائيًّا لامرأة تحمل طفلًا معاقًا، وإنني في مشهد آخر رأيت عصافير تأكل من شعره سنابل كثيرة، ولا يجب عليكم إطلاقًا ربط هذا بـ ‘تأكل الطير من رأسه’. هذا الكم المترابط من الصور السريالية، التي تتحول لحقيقة لحظة قراءتها، ناهيك عن براعة السرد، والتناص القرآني، والسخرية من القارئ الذي سيربط النص التراثي بما كتبته’، كل هذا يدفع
يحيل هذا أيضاً إلى اهتمام مروة بالتناص مع التراث، لا سيما التراث الديني، وهو تناص يسعى إلى إعادة قراءة الذاكرة الشفهية والمكتوبة، ففي قصيدة تتحدث عن الطيور التي تأكل من الرأس، ثم تنفي في السطر التالي، ساخرة، ربط هذا بالنص القرآني، ‘تأكل الطير من رأسه’، وفي موضع آخر تتناص مع قصة ابني آدم، هابيل وقابيل، ‘ نقرتُ الأرض، أفضل من أي غراب، واريتُ سوأتَه وزرعتُ فوقها غابة’، وتتناص مع قصة النبي موسى عندما رغب في رؤية الله ‘قصصتُ شعره ونثرته في الاتجاهات الأربعة’، ولا تكتفي مروة بالتناص مع النصوص القديمة والاستفادة من كنزها اللغوي العالق في الأذهان، بل هي تدفع إلى السخرية منها، وإعادة التفكير فيها، وأحياناً تستمد منها شغف القارئ، مثل نصها ‘قسوة’، الذي تفتتحه ببيت شعر شهير، ونص تراثي عن الأم ، وفي نص آخر تتناص مع قصة النبي يوسف ‘سبعٌ عجاف يبدو أنهم لن ينتهوا وبقرات غبيات تأتي على قلبك بدأب’، وقولها في نص آخر ساخرة من ذاكرة جمعية: ‘كيف تفسرون كلمة بوليس، لا أظنها تلتصق بكلمة ‘سرّيّ مثل الأفلام القديمة’.
حس السخرية هنا من مسلمات النصوص، ينتقل إلى الحياة بأكملها، فهي تعيد ترتيب الواقع، وتكسر المسلمات، عندما تتحدث عن ‘العاهرات الطيبات، وأطفال الشوارع المتدينين، والنُبُوات المحترقة’، هي تفعل هذا لأنها تكتشف أن العالم مبتذل جداً، ففي نص ‘طفولة’، تسخر من العالم ومن مسلماته في حوار بين طفلة والأم، التي تبدو حاضرة بكثرة في الديوان’ ـ ولماذا يشاهد أبي نشرات الأخبار؟ ـ لأنه لا يعرف قصصًا يحكيها. ـ ماذا تعرض نشرات الأخبار يا أمي؟ ـ حكايات كثيرة لكنها ‘للكبار فقط’. ـ ولماذا لا يشاهدها الأطفال يا أمي؟ ـ لأننا يجب ألا نعلم الأطفال الكذب’. لا تحتاج هنا مروة صفحات كثيرة لكي تتحدث عن الخراب والدمار الذي يلحق بالعالم، وعن كذب الساسة والإعلام العالم، بل هي تلخص كل شيء في كلمات قليلة، وبلغة بسيطة شعرية مبطنة بالسخرية، هذا العالم الذي تصفه في قصيدة أخرى بأنه ‘عجوز قبيحة، لها ثديان متهدلان، يرضع منهما الرعاع، ترش الكبريت على وجه أبنائها، وتغنج للقراصنة والقتلة والفزّاعات’.
تواجه مروة هذه الخيبات بكتابة تاريخها الخاص، وإعادة تشكيل هذا العالم كما تريده، بل إعادة تشكيل أساطيره، ليصبح عالماً أكثر احتمالاً، وأكثر إنسانية، رغم أن إعادة التشكيل هذه قد تكون كاشفة وصادمة في بعض الأحيان، مثل قولها: ‘إن ذات الرداء الأبيض شبحٌ، أو ربما تكون ملاك الموت مثلًا، وإن سندريلا كانت في الأصل عرجاء، لهذا سقط منها حذاؤها، ولا صحة لما روَّجوه عن زواجها، بأمير في النهاية، فقط غرغرينا عميقة إثر جرح ملوث انتهت ببتر الساق’.
الأكيد هو أن مروة أبوضيف، واحدة من أهم الشاعرات في هذا الجيل، أرى أنها تتماس في شاعريتها، وفي رؤيتها السريالية للعالم، مع واحدة من أهم شاعرات مصر الراحلات، هي جويس منصور، غير أن مروة تكتب تجربتها الخاصة، وعالمها الخاص، ولغتها الخاصة، وهي بديوانها الجديد، تؤسس لتجربة شعرية هامة، تبدو ملامحها واضحة من الآن.