الشعر بين الانفعالية والتفاصيلية.. قراءة في ديوان “الأيام حين تعبر خائفة” للشاعر محمود خيرالله

خالد حسان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد حسان

    محمود خيرالله هو شاعر من جيل التسعينيات، ذلك الجيل الذي أخلص لمفهوم شعري كان قد ظهر مبكرا عند الماغوط وشوقي أبو شقرا ضمن جماعة شعر اللبنانية، لكنه لم يصبح مُهيمنا إلا من خلال هذا الجيل الذي اتجه بشكل فني مكثف نحو أسلوب شعري يميل إلى مقاربة العالم من خلال واقعه المحض وتفاصيله العادية، وهو أسلوب ناتج عن وعي ما بالشعر ووظيفته وبالشاعر أيضاً وحدوده ومعرفته، فالشعر هنا ليس ذلك الكلام الفوقي الذي يميل إلى أسطرة الواقع أو بيان سحره، وإنما هو الكلام العادي الذي يصف الواقع في تفاصيله العادية ودقائقه الرتيبة، كما أن الشاعر هنا  ليس هو النبي أو العراف أو الملهم، بل هو شخص عادي، وأقل من العادي، ليس لديه أهداف غائية أو طموحات كبيرة بل مجرد أحلام صغيرة وطموحات لا تتجاوز حواسه الخمسة، هذا الشاعر لا يمتلك فلسفة أو أيديولوجيا بل مجرد وجهة نظر نسبية ومتغيرة كأي شخص عادي، لذا فقصيدته هي قصيدة تميل نحو البساطة والتلقائية والحيادية في مقاربة الأشياء، وتبتعد بقدر الإمكان عن الانفعالية، ومحاولة التأثير على مشاعر المتلقي من خلال اللغة المشحونة بالمعاني والدلالات، فاللغة هنا أصبحت تقريرية في تصويرها للواقع وبُعدها عن كل ما هو فوقي أو ما ورائي.

    السؤال الآن: هل ما ذكرناه بشأن هذا الشعر وهذه الطريقة في الكتابة ينطبق على جميع شعراء هذا الجيل؟ الحقيقة أن هذا ليس صحيحاً في المطلق، فالفن عموما يقوم على الاختيار، والشعر كفن لغوي يعتمد على اختيار لغة بعينها وطريقة بعينها من قبل الشاعر، ولا يخضع هذا الاختيار بطريقة مباشرة لفكرة الانعكاس بمعنى أن الشعراء الذين يعيشون تحت ظروف معيشية واحدة وفي ظل ثقافة واحدة وخلال وقت محدد لابد أن ينتجوا إبداعاً متقارباً أو متناسقاً، فحتى الآن هناك من الشعراء مَنْ يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، كما أن قصيدة النثر التي تحولت مع جيل التسعينيات من الوعي الكتابي إلى أنماط الشفاهية الثانوية Secondary orality  ليست قصيدة واحدة، فكتابة الشعراء تتراوح، فمنهم من لا يزال يتمسك باللغة المجازية والاستعارات المعقدة، ومنهم من تخفف من جميع الحمولات الدلالية للغة، وقدَّم لغة أقرب ما تكون إلى الكلام العادي، ومنهم من يتأرجح بين الطرفين، مقترباً من أحدهما تارة ومن الآخر تارة أخرى.

  محمود خيرالله أقرب بكثير للطرف الآخر من المعادلة، بمعنى أن قصيدته تحتفي بالبساطة والتلقائية في إطار من اليومية أو التفاصيلية، ولكن تميل قصيدته أيضاً نحو الانفعالية، سواء من خلال اللغة والألفاظ المشحونة بالدلالات والمشاعر أو من ناحية الجو العام الذي يرشح الشعور بالأسى والتعاطف، ولعل مبعث هذا الاختيار من قبل الشاعر إصراره على مقاربة اليومي والتفصيلي في حياة البسطاء المليئة بمعاني القهر والفقر والألم والأسى..الخ.

     أسوق هنا مثالاً واضحاً على اللغة حينما تتعمد التأثير على المتلقي، من خلال محاولة الذهاب أبعد من القدرة على تصوير الواقع إلى تجميله أو تزيينه بقصد الانفعال به، ها هو يقول في قصيدة بعنوان “رضيع” تقول:

“في هذا الشارع الطويل

المليء بالبكاء والعويل

حيث علقت صورة كبير العائلة

في مكان بارز

فوق  كل رؤس النساء الثكلى

والرجال الواجمين

وسط كل هذه الموجات الهادرة من النواح

لم أر أصدق من  دموع هذا الرضيع

الذي يعصر ثدي أمه

غاضباً

بكفّ يده

بينما يسيل من عينه خيط من اللؤلؤ”.

    يبدو أن الشاعر هنا يصف مشهداً مليئاً بالبكاء والحزن على فقد أحد أفراد عائلة ما، بينما تلتقط عين الشاعر أحد الأطفال، يبحث عن الحليب في صدر أمه بلا جدوى، فيفرك ثديها بيده وهو يبكي، ولكن انظر إلى المفردات التي اعتمد عليها الشاعر في وصف المشهد (العويل، الثكلى، الواجمين، الموجات الهادرة، النواح، اللؤلؤ)، إنها ألفاظ مشحونة بالدلالات التي تهدف التأثير على المتلقي وإثارة عواطفه، اللغة هنا ليست تقريرية بقدر ما تغلب عليها الانفعالية، والشاعر هنا لا يكتفي بتصوير الموقف وإنما يظهر مشاعره تجاهه، ويريد المتلقي أن يشاركه هذه المشاعر في تعاطف واضح مع هذا الرضيع الذي لا يجد حليبا في صدر أمه ربما لأنها سيدة فقيرة ولا تجد التغذية الصحية.

    الشاعر هنا لا يعتمد الحيادية في وصفه، بل ينحاز  انحيازاً واضحاً لقضية هذا الرضيع، الشاعر لا يصف المشهد بكلمات مقتصدة بغرض الوصف والتصوير، ولكن الكلمات هنا تفارق الواقع أو تريد أن ترتفع عنه، فكلمة “اللؤلؤ” هنا تظهر محاولة الشاعر لإضافة شيء من السحر على الواقع الكئيب الذي يعيشونه هؤلاء البسطاء، فكان الممكن أن يقول الشاعر مثلا: (بينما يسيل من عينه خيط من الدموع) بشكل حيادي، لكنه أراد أن يظهر الطفل في صورة ملائكية، تجعل ما يسيل من عينيه لؤلؤا وليست دموعاً، وهنا تظهر بصمة الشاعر في الكتابة أو طريقته في التعبير، وهو ما نطلق عليه الانفعالية، بمعنى أن الشاعر هنا يميل إلى الانفعال في مقابل الحياد، وتميل لغته إلى التجاوز في مقابل التقرير.

  القصيدة في ديوان “الأيام حين تعبر خائفة” هي قصيدة انفعالية بالأساس، تحاول دائماً أن تنفذَ إلى ما وراء التفاصيل لتظهر الجانب العاطفي المرتبط بالأشياء، الشاعر من خلال ديوانه لا يحاول أن يقدم صوراً فوتوغرافيّة صماء أو مجموعة مشاهد مدهشة، بقدر ما يسعى إلى التعبير عن مشاعره الحزينة تجاه العالم، عن ذكرياته السيئة، عن انفعالاته الشديدة وإحباطاته المستمرة.   الشواهد على تلك الانفعالية كثيرة لعل أبرزها محاولة الشاعر أن يسرد مجموعة من التفاصيل ثم يقول لك: لا تنظر للأمر بهذه السطحية، الحقيقة هي كذا وكذا، وكأنه يرى الأشياء بطريقة مفارقة لصورتها الطبيعية، في قصيدته ( حتى لا تنتهي الحرب) يقول :

“انتبهوا

هذا الرغيف الأبيض الفاخر

الذي يظهر كل ليلة

في السماء

ويبدو نحيلاً أحياناً

كعودِ قَصب

ومستديراً أحياناً

كقُرط في أُذنِ الغيم

ليس قمراً صدقوني

إنه آخر ما تبقى من دموع أجدادنا

الذين ماتوا في سالف الأزمان

ببطون خاوية”.

 لابد أن ننتبه هنا إلى أن الشاعر يبدو كما لو كان يريد أن يطور وعينا بالأشياء، كي نراها بعينيه هو، لا كما تظهر في صورتها الطبيعة، لكنه وهو يفعل ذلك يقع هو أيضا في ارتباك نتيجة تسرب أشياء وأحاسيس من اللاوعي، فهو يريد أن ننظر إلى القمر بطريقة أخرى، هي حتما طريقة انفعالية، فرؤية القمر على أنه آخر دموع الأجداد الذين ماتوا ببطون خاوية هي مقاربة انفعالية للأشياء الطبيعية، فالقمر حتماً ليس كذلك لكن الشاعر يراه هكذا لما يحمله من مشاعر وأحزان تجاه هؤلاء الأجداد الذين ماتوا من الفقر والجوع، قلت من قبل إن الشاعر وهو يريد أن يطور وعينا بالأشياء يقع هو نفسه في ارتباك نتيجة تسرب أشياء من اللاوعي، أقصد بذلك عبارة ” الرغيف الأبيض الفاخر” كأن الحقيقة الكامنة داخل الشاعر ليست أن هذا الذي يراه قمراً أو دموعاً للأجداد، الحقيقة الكامنة التي انطلقت على غفلة منه هي أن هذا القمر هو رغيف أبيض فاخر، والعلاقة واضحة بين الرغيف الأبيض الفاخر والبطون الخاوية، فهو مطلب هؤلاء الأجداد الذين ماتوا قبل أن ينالوه.

   إن الشاعر يستكمل من خلال نفس القصيدة طريقته في محاولة إقناع المتلقي برؤيته الانفعالية في مقاربة الأشياء، فهو لا يرى الأشياء كما نراها، فالأمطار هي في حقيقتها عرق الأجداد الذين ماتوا متعبين من جراء العمل المجحف مع ملوك ظالمين، والمياه التي تملأ النهر هي دموع أمهات فقدن أبناءهن في الحرب، وهكذا يصبح العالم بعيني الشاعر عبارة عن مجموعة ضخمة من الذكريات السيئة، لكنها ليست ذكريات شخصية، بل ذكريات لها علاقة بالهم الإنساني، فالشاعر كأنه يحمِّل نفسه مسئولية كل ما وقع في أزمنة سحيقة من ظلم وقهر وفقر وأسى ولوعة لأناس بسطاء غابرين.

يبدو أن الهم الإنساني العام المسيطر على خطاب محمود خيرالله الشعري يتمحور حول قضايا البسطاء في المجتمع، من فقر وجهل وجوع ومظلومية في جميع مناحي الحياة، وهو إذ يكتب يحاول من خلال كلماته أن ينتصر جمالياً لتلك الطبقة المنسحقة تحت وطأة العالم القاسي الذي لا يعير اهتماماً لمثل هؤلاء، ها هو في قصيدة أخرى يقول:

“ليتني ..

بعد أن أموت

وتصير العظام تراباً

أن أتحول – ذات مرة-

إلى شجرة،

ينام الناس تحتها

يبتسمون ويأكلون كلما شاءوا

وحين تجف الحياة في بدني

وتصير القامة يابسة

تماماً

من كثرة الحنين إلى الثمار

أصير جسراً ميتاً بين ضفتين

لا يمكنني أن أصحو

إلا كلما مرَّت أحذية الفقراء على رأسي”.

   قلت من قبل إن الشاعر يحاول أن ينتصر – جمالياً- لهؤلاء البسطاء، ها هو يؤكد على ذلك في تمنياته أن يصبح شجرة بعد أن يموت، لينام هؤلاء المتعبين تحتها وينعمون ولو لدقائق، كما يطلق عنان خياله أكثر فيتمنى بعد أن تجف هذه الشجرة وتكبر أن تتحول إلى جسر يمر عليه هؤلاء البسطاء.

  ولكن يبدو من خلال قصائد الديوان أن الشاعر لا يكتب عن الفقير الآن، بمعنى أنه لا يكتب عن أولئك الذين يأكلون من النفايات مثلاً، لا يكتب عن حالة الفقر والعوز التي يمكن أن تجدها في شوارع مدينة مزدحمة وبائسة، من مواصلات عامة مزدحمة أو حانات فقيرة، الشوارع المكتظة بالنفايات والمتسولين…الخ، بل يكتب عن صورة صنعها وعيه هو يظهر من خلالها فقراء كأنهم عبيد في أزمنة سحيقة، يزرعون الأرض لدى ملاك ظالمين، فلو حاولنا أن نلتمس سمات المجتمع الذي تقاربه قصائد الديوان سنجده في الغالب مجتمعاً زراعياً فقيراً تزداد فيه الفجوة بين ملاك الأراضي والمستأجرين، بحيث يعاني الفلاحون من الفقر والعوز والظلم والبؤس في شتى مناحي الحياة، والشاعر يبدو وكأنه يبحث من خلال ذكرياته عن خلاص ما فهو يستدعي دائماً الماضي ليحاوره ويستجديه ويعترف أمامه، الماضي بالنسبة للشاعر هو الفردوس المفقود، الملاذ الأخير الذي يجد معه الطمأنينة الكاملة والإشباع الحقيقي، انظر إليه وهو يتكلم عن “شجرة التوت”:

وأنت تجوب الشوارع جائعاً،

لن تنسى أبداً

شجرة التوت النبيلة

التي أرضعتك دائما الشهد

وأنت صغير “.

ويكمل:

“الوحيدة التي تحتملك

وأنت تتآمر عليها

أو تجلب إليها من يشربون دمها

من دون أن تنتقم منك”.

إلى أن يقول في النهاية:

“أنا ابن هذه الأم التي غادرت مقعدها

الآن للأسف

بعدما صار لابد من إزاحتها

لتوسيع الطريق الذي يمر

أمام بيتنا القديم”.

   النص هنا يضعنا أمام مقابلة نوعية بين زمانين ووعين، ومن ثم ثقافتين مختلفتين، الأول هو الماضي الذي يغلب عليه الإحساس بالطيبة والسكينة والأمان، فشجرة التوت هي الطبيعة الهادئة المتسامحة التي تعطي بلا هدف ودون مقابل، أما الزمن المقابل لهذا الماضي هو الحاضر بثقافته التي تغلب عليها البراجماتية في التعاطي مع الأشياء، القسوة في إدارة العالم، إن يد الحاضر الغاشمة تمتد لتقطع شجرة التوت التي تشكل كل معاني الوفاء بالنسبة للشاعر، وتقطعها بلا رحمة بغرض توسعة الطريق، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا من خلال هذه المقابلة إن الطيبة لم يعد لها مكان في ظل هذا العالم المادي.

   هكذا تتحرك معظم قصائد الديوان داخل هذا الجو المشحون بمشاعر الأسى والشفقة تجاه هؤلاء البسطاء.

يقول الشاعر في إحدى القصائد الدالة وهي بعنوان “اللص”:

“حاولت مراراً أن أكون لصاً

وفشلت

مرة واحدة نجحت

خطفت برتقالة من السوق

وأخذت أجري،

كان خصمي فلاحاً عجوزاً

لو كنت أخذت قلبَه من بين ضلوعه

ما كان جرى ورائي

كل هذه السنوات

وهو لا يزال يجري

إلى اليوم!”.

  إن القصيدة تتشكل من خلال محاولة الشاعر أن يسرد لنا إحدى الذكريات السيئة التي مرت به، حين سرق برتقالة من فلاح عجوز، تكمن شعرية القصيدة هنا أو قدرتها على إثارة انفعال المتلقي في نقطتين مركزيتين، الأولى تتضح في عبارة “لو كنت أخذت قلبَه من بين ضلوعه” وهنا تظهر المفارقة والسخرية في آن واحد، ومن ثم الحسرة والألم، فالفلاح عندما انتزعت منه برتقالة كأن قلبه انتزع من بين ضلوعه، لهذه الدرجة يبدو هؤلاء الفلاحون بسطاء وبائسين، النقطة الثانية تتجلى في مدى انعكاس ذلك على الشاعر الذي لم تفارقه هيئة الفلاح وهو يجري وراءه لدرجة أنه يشعر كما لو كان لا  يزال يجري وراءه حتى الآن.

    لقد خرج الشاعر في بعض القصائد عن تلك الانفعالية وكتب قصائد هادئة تمثل الطرف الآخر من  المعادلة سالفة الذكر، حيث تصبح اللغة تقريرية وتصبح رؤية الشاعر حيادية، فلا يحاول أن يؤثر على مشاعر المتلقي بقدر ما يحاول أن يسرد أمامه كل شيء بمنتهى الشفافية، ها هو يقول في إحدى القصائد مخاطباً أبيه:

“أظنك الوحيد في هذا العالم

يا أبي

الذي كان يعرف أنني شاعر

الجيران يعتقدون أن شاربي جديرٌ بضابط

أمي تراني دائماً

ذلك الولد الذي يحمل عينين مائلتين

ابني الصغير

صار يظن أنني أعمل في الليل سائقاً

أدور به على السينمات والمشافي

بمنتهى العدل

ابني الأكبر يعتقد أنني لص

أجد من يدفع لي مقابل أن أكتب له

وأنا

لا أهتم مادام واحد من هؤلاء

لا يعرف والحمد لله

أنني شاعر”.

   هنا تحرر الشاعر تماماً من طريقته الانفعالية، واكتفى بلغة محايدة كأنه تعب فجأة وأراد أن يتوقف قليلاً ليحكي عن علاقة خاصة مع أبيه، الوحيد الذي كان يعرف السر، فجميعهم يرتابون لأمره، ويظنونه ضابطاً أو سائقاً أو لصاً، أما أبوه الوحيد الذي كان يعرف أن ابنه شاعر. تكمن شعرية التقرير هنا في سرد افتراضات الآخرين عنه وفي مفارقة عدم اهتمام الشاعر بذلك وكأن كونه شاعراً هو السر الذي لا يجب أن يعرفه هؤلاء، أو أنهم غير مؤهلين لمعرفته، أما أبوه هو الوحيد الذي يعرف، وهو ما يكترث له الشاعر.

   لعل من أهم مبررات الشعرية في هذا النص هو قدرتها على الإحالة وفتح مخيلة المتلقي وإطلاق عنان خياله، من خلال اقتصاد لغوي شديد يحيل إلى طاقة كبيرة من التأويل والخيال، يظهر الاقتصاد اللغوي من خلال ذكر حقيقة واحدة متعلقة بالأب وهي معرفته بحقيقة الشاعر، ولكن يحيل ذلك إلى افتراض وتكوين كثير من ملامح ذلك الأب، الذي يظهر كما لو كان رجلاً حكيماً، بكل ما يفرضه ذلك من سمات لها علاقة بقلة الكلام، والملامح الجادة والأسلوب الحذر، الأب هنا يبدو كما لو شخصاً محاطاً بهالة سحريَّة، ولا تتوقف الافتراضات والتكهنات حول شخصية هذا الأب الذي يعرف وحده سر الشاعر.

وهكذا تتأرجح قصائد الديوان بين نمطين شعريين أحدهما يغلب عليه الانفعال من خلال لغة مفارقة – ولو قليلاً – لليومي والتفاصيلي، في أداء صادق في انحيازه لقضايا البسطاء ومحاولة التعبير عن آلامهم وأحزانهم، أما النمط الآخر فتغلب عليه التفاصيلية في مقاربة الأشياء من خلال لغة تقريرية وأداء حيادي لا يهتم بالتأثير على المتلقي بقدر ما يذهب تجاه تصوير الواقع في صورته العادية وتفاصيله الدقيقة.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم