أعرفك.. أنت الليل

محمد الفخراني: روايتي القادمة سأنتهي منها في يونيو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 فصل من رواية: محمد الفخراني

توقعت الفتاة “صائدة الأشجار” أنها عندما تدخل إلى الليل، ستشعر بشىء يشبه ما شعر به الفتى “صائد الشوارع” عندما أدخلته إلى النهار، لم تغطى عينيها، أغمضتهما برفق متحمسة أن تفتحهما سريعًا، ومجرد أن تعدّت الخط الفاصل ولمسها الليل، طارت منها شهقة بأربعة أجنحة، وارتجفت كأنما تستعيد نصف روحها، توقفت لحظة كى تفهم إحساسها، وتتعرف على تلك النصف روح، وقد أحسّ الفتى بمشاعر جديدة تسرى فى يدها التى يمسك بها، وانتظر أن تقول شيئًا، لكنها اكتفت بأن تشرب طعم روحها، ثم ابتسمت “أنا بخير”، فبدأ يخطو بها داخل الليل ولا زالت مغمضة عينيها، وسرعان ما ضحكت ضحكات متقطعة، مبتهجة، كأنما أجلسها الليل على كتفه، وانطق يجرى بها فى الأرض، المياه، والسماء.

عندما فتحت الفتاة عينيها ابتسمت لليل، تحسسته وهمست له “اسمك ليل؟”، ثم حَكّت خدّها فى جسمه، فأحست بزغبه يرتعش، وسمعت طائرًا نهاريًا يغنى داخل قلبه، بدأ الفتى يتمشى بها فى شوارع الليل على مهل، وقد أحست بملمس التراب الناعم تحت قديمها، وشمّت فيه رائحة البسكويت، توقفت وانحنت لتلتقط منه حفنة صغيرة، قرّبتها إلى فمها وأنفها فى اللحظة نفسها، تذوقتها بطرف لسانها، تحسست أعصاب التراب بين أصابعها، ثم تركته ينزلق من كفها للأرض، وهى تنصت لصوت احتكاك تفاصيله، وتفكر أين سمعت هذا التراب ورأته من قبل، ربما حدث ذلك فى حياة قديمة لم تعشها بنفسها، وإنما تسربت إلى ذاكرتها من بشر آخرين.

عادت الفتاة تمشى ثانية داخل الليل، بخطوات تبدو بها كشخص يعرف المكان جيدًا، وفى الوقت نفسه يكتشفه لأول مرة، وقد حرص الفتى ألا يخدش حالتها تلك، فقط كان يلمس بإصبعه ظهر يدها كلما أراد أن يدخل بها شارعًا ما، فتمشى معه، أو أنها تظل مأخوذة فى اتجاه آخر، فيمشى هو معها، وقد اعتادت عيناها سريعًا على الفروق الطفيفة بين درجات ألوان الشوارع، كان القمر أكثر سطوعًا وجمالاً وهى تنظر إليه من موطنه، الليل، رأته قريبًا، أكثر اكتمالاً، ليس فى شكله الدائرى، وإنما روحه، وتعبيره عن نفسه، أحست بنوره يلمس جسمها، ويتسلل بين شعرها ليغازله، سمعته يقول جملة غزل مختلفة لكل خصلة على حدة، أحسّت بأنفاسه وهو يتشممهن، توقفت ورفعت وجهها إليه، “قمر”، قالتها لتتعرف إليه من جديد، وضحكت ضحكاتها المتقطعة، “أعرفك”، ثم التفتت إلى الفتى وقد صارت جاهزة ليدخل بها الشوارع الشبح.

أمسك “صائد الشوارع” يدها، ومشى عدة خطوات، بينما تراقبه وهو ينصت لصوت لا تسمعه، ودون أن يعطيها أية إشارة اندفع بها فى اتجاه لا تتوقعه، لتجد نفسها فى مدخل شارع لم يكن موجودًا منذ لحظة، كانت إحدى قدمى الفتى داخل الشارع يضغط أرضه بقوة ليثبتّه فلا يفلت، بينما قدمه الأخرى والفتاة لا تزالا خارجه، فهمت الفتاة أن عليها أن تقفز داخل الشارع، وعندما فعلت نقل الفتى قدمه الأخرى.

كان بإمكان الفتى أن يسمع نبض قلوب الشوارع وهى تتحرك حوله غير مرئية، وعند نبضة ما يعرفها يقفز إلى نقطة فارغة، فيظهر فى اللحظة نفسها شارع لم يكن موجودًا، يضع الفتى قدمه فى مدخله، فيثبت الشارع فى مكانه، ويصير مرئيًا، اكتشف “صائد الشوارع” هذه الموهبة فى نفسه منذ كان طفلاً، وقد أنقذ حياة الكثيرين من أهل الليل فى الزمن القديم، عندما يجدون أنفسهم ضائعين فى لا مكان، لا شارع، ولا اتجاه، فيصطاد لهم شوارع يدخلونها، ويحصلون لأنفسهم على مكان فى هذا العالم، غير أن الشوارع نفسها تحب أن تمارس تلك اللعبة معه، تتحرك حوله غير مرئية، أو تظهر لأقل من لحظة وتختفى، حيث يمكنه أن يسمع نبضها ولهاثها، وعندما يصطاد واحدًا منها، يبقى فى مكانه، وقد خرج من اللعبة، أو أنه ينتقل بذلك إلى لعبة جديدة.

بعد أن اصطاد خمسة شوارع، صار بإمكان الفتاة أن تقفز معه إلى المكان المطلوب بعد أن يهتف لها “هنا”، ويشير إلى نقطة يظهر فيها شارع لم يكن موجودًا منذ لحظة، ورغم أن هذا يشبه إلى حد كبير طريقتها فى اصطياد الأشجار، إلا أن الأمر كان مدهشًا لها، فكانت تضحك مع كل شارع يصطادانه.

تماديا فى اصطياد الشوارع، وأصواتهما تتعالى بين هتافه “هنا”، وضحكاتها، وبدا أنهما يتحركان داخل دائرة متصلة من شوارع تأخذهما إلى مكان محدد، حتى وجدا نفسيهما فى مكان مفتوح، عندها توقفا، حاول الفتى أن يسمع نبض شارع أو لهاثه، لكنه لم يعثر على أىّ من ذلك، فقط وعلى بُعد عدة خطوات ظهر لهما بئران متجاوران، مثل اللذين عثرا عليهما فى جانب النهار، غير أن هذه المرة كانت حيوانات حول البئرين وليست طيور، كان ضوء القمر فى منطقة البئرين أقوى منه فى المنطقة التى يقف فيها الفتى والفتاة، أو أنها كانت لمسة إضافية هناك، الحيوانات تتمرغ فيما يشبه لهوًا، وبسبب ضوء القمر الممسوس سحرًا، لم يكن واضحًا إن كانت وحشية أم أليفة، هى تبدو وحشية للحظة، وفى اللحظة أو الحركة التالية تبدو أليفة، فلا يعرفان إن كان القمر الممسوس يكشف حقيقتها أم يجعلها مراوغة، حتى إن أصواتها كانت تتغير بدرجات طفيفة مُحيّرة، أيضًا ألوان شعرها، فروها، وجلدها كانت تلمع بدرجات محيّرة، وأكثر من ذلك، تبدو فى لحظة ما أشبه بقشور الأسماك، أو مغطاة بأجنحة فى رقة جناح الفراشة وحدة السكين، لتصير فى النهاية مثل كائنات غير حقيقية أو على الأقل لها أكثر من حقيقة.

لم تهتم الحيونات عندما لاحظت وجود الفتى والفتاة، وكلما لمحهما أيًا منهم أثناء حركته العادية، فإنه يتوقف وينظر إليهما معًا فى اللحظة ذاتها، ثم يكمل حركته بشكل طبيعى، كأنهما كانا يتمرغان معه منذ دقائق، أو سيأتيان ليشاركانه اللهو حالاً، إلا أن ما فعله الفتى والفتاة أنهما وفى اللحظة ذاتها أيضًا نظرا إلى البئرين، وقد ظهرا مثل عينين كبيرتين متجاورتين، ليس فيهما غير أبيض صاف، فقد انعكس القمر كاملاً فى كل بئر، وغطى سطحها تمامًا، بينما يشف الماء أسفله رائقًا، بحيث يمكن كشط صورة القمر من سطح الماء، أو التقاطها بأطرف الأصابع كورقة شفافة.

اقتربت الفتاة من أحد البئرين وهى تتحرك بين الحيوانات بهدوء، جلست على كعبيها عند حافة البئر، نظرت فى صورة القمر فلم تر وجهها، أثار ذلك دهشتها قليلاً، لمسته بإصبعها فاهتز برفق، وارتعشت فيه موجة صغيرة انتقلت إليها، لمسته ثانية كى تتأكد من ذلك الرنين الذى تكرر داخلها وجعلها تنظر إلى قمر السماء، وقد رأته يهتز أيضًا بنفس طريقة قمر البئر، وعند حافته صورة لفتاة تجلس نفس جلستها، وتبدو كانعكاس لها، فانفتح فى قلبها باب صغير دخل منه تيار هواء ممتع، والتفتت إلى الفتى وقالت “صورتى هناك”، نظر إلى قمر السماء فرآه ثابتًا، ولم ير صورتها عند حافته “لا أرى شيئًا”، اندهشت ولمست قمر البئر بإصبعها، ونظرت إلى قمر السماء “إنه يهتز الآن، أنظر”، ما زال لا يرى شيئًا، التفتت إلى الحيوانات، فرأتها تلعب بشكل أكثر مرحًا، وتتعمد أن تتجاهلهـا بطريقة تبدو معها أنها تعرف شيئًا ما، اقترب الفتى وجلس إلى جانب الفتاة نفس جلستها، لمس قمر البئر فاهتز، رفع عينيه إلى قمر السماء فرآه يهتز بنفس الطريقة، ورأى فتى يشبهه كأنه هو، يجلس هناك على حافته بجوار فتاة يعرف أنها فتاته، فانفتح فى قلبه باب يشبه الباب الذى انفتح فى قلبها منذ لحظات.

بدأ الفتى والفتاة على طريقة اللعب يلمسان قمر البئر، ويرقبانه يهتز، ثم ينظران إلى قمر السماء ويريانه يهتز بالطريقة نفسها، وعلى حافته يجلس فتى وفتاة يشبهانهما، لم يكن الفتى متأكدًا أنه نفس الشخص الذى يجلس هناك، فى الوقت نفسه كان متأكدًا أن فتاته هى التى هناك، أيضًا لم تكن الفتاة متأكدة أنها نفسها الجالسة عند حافة قمر السماء، لكنها تعرف أن فتاها هو الجالس عنده، لذا، تعلّقا بالصورة فى السماء، كان “صائد الشوارع” يقول لنفسه “إذا كانت هناك، فلابد أنى من يجلس بجوارها”، وتقول “صائدة الأشجار” لنفسها “ومن غيرى يجلس بجواره هناك؟ إنها أنا”، بدأت تضحك ضحكاتها المتقطعة، وطوال حياتها ستظهر تلك الدهشة  فى عينيها كلما ضحكت، وكأنها تجرب من جديد فى كل مرة متعة الضحك، ونشوة الاكتشاف.

مدت الفتاة “صائدة الأشجار” يدها إلى البئر، ملأتها بحفنة ماء، نظرت فيها فرأت صورة صغيرة لقمر مكتمل، ابتسمت وشربتها، مدّ الفتى “صائد الشوارع” يده وحصل لنفسه على حفنة ماء، تأمل فيها صورة القمر قليلاً وحركها برفق ثم شربها، وقتها، لم يكن معروفا أىّ فتى وفتاة يشربان الآن، هل هما الجالسان حول قمر البئر، أم الجالسان حول قمر السماء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقطع من رواية تصدر قريبًا

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم