كلمة الكاتب أنطونيو مونيوث مولينا للترجمة العربية التي قامت بها أسماء جمال عبد الناصر.
أتذكّر محادثةً لي قبل سنوات مع الشاعر والناقد والمحرّر الكاتالوني المرموق كارلوس بوجول، وهو أيضًا مُترجم إلى الإسبانية للعديد من روائع الأدب الإنجليزي والفرنسي. تحدّثنا عن روايات الأشباح القصيرة لهنري جيمسHenry James، فكلانا مُغرمٌ بها كثيرًا، حينها قال لي كارلوس: “لكن في الواقع كل الروايات روايات أشباح”.
تتناول الروايات كائنات واقعية وغير واقعية على حدٍّ سواء، توجَد معنا أثناء القراءة، ولاحقًا في الذاكرة، بقوّة تجعل كثيرًا منهم يبدون من لحم ودم. نحن نَقبَل أشباح الخيال وندمجها في حياتنا، وهنا يكمن بشكل غامض مدى اكتمال التجربة الروائية، وهو ما اسماه كولريدج: “التعطيل المؤقّت للاستنكار”. لا نحتاج إلى تصديق قصة خيالية. ما نفعله، بطريقة أكثر سلاسة ومفارقة، هو تعليق عدم تصديقنا، وجعل هذه الشخصيات “كما لو” كانت حقيقية، تلك القصص القادرة على طرد النوم من أعيننا في بعض الليالي كي لا نتوقّف عن القراءة. يظلّ تعليق الاستنكار أكثر أهمية في القصص التي يتداخل فيها الخيالي والغامض والمستحيل عقلانيًا. فالاستمتاع ب”آلة الزمن” [1]التي كتبها إتش جي. ويلز H. G. Wells، أو “دراكولا” لبرام ستوكرBram Stoker، يعني ضمنيًا تنحية اليقين بأن السفر عبر الزمن هو استحالة جسدية -في الحالة الأولى- وأنه لا توجد كائنات بشرية تتغذّى على دماء أمثالها -في الحالة الثانية- ونتيجة لذلك يمكنهم أن يصيروا خالدين.
يتمثل سحر الأدب والسينما في أن الكونت دراكولا يُشعرنا بالرعب الحقيقي ونحن نقرأ قصته، لدرجة أننا نقرأ بشغف لمعرفة مصير ضحاياه. فآليّة الخيال -في الأساس- هي نفسها آلية لعب الأطفال. ومن المثير للدهشة أن يتمكن طفل/ة من التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مُبتَكر، ويقبل اللعبة على أنها مساحة تكون فيها الأشياء موجودة وغير موجودة في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال اعتادت حفيدتي ليونور ،عندما كانت تقريبًا تبلغ من العمر ثلاث سنوات، أن تلعب معي بأن تمثّل أنها ذاهبة إلى السوبر ماركت، وتحضر لي من هناك زجاجة مشروب غازي غير مرئية، وتُقدّمه لي في كوب غير مرئي أيضًا، حاملة إياه في يدها.
كقارئ وككاتب أيضًا، أكثر ما يجذبني في الأدب الخيالي هو الذي يظهر فيه الغرائبي أو المستحيل على أنه شكّ أكثر منه يقينًا بيِّنا. إن العوالم الأدبية والسينمائية، التي يكون فيها كل شيء فانتازيا، تُسبّب لي مللَا شديدًا ، ما لم تكن حكايات تقليدية، ومنها يأتي حُبّي لقصص الأشباح لهنري جيمس، إذ نادرًا ما نعرف علامَ نحن مقبلون، ولكن من خلالها نتفاجأ ونُكافأ بقشعريرة أبداننا. أحد الكتب التي قرأتها أكثر من مرّة في حياتي – وسأواصل قراءتها دون أدنى شك – هو The Turn of the Screw”دورة اللولب”[2]. يعجبني جدًا ويروقني بالقدْر نفسه الاقتباس السينمائي له – “الأبرياء” لجاك كلايتون Jack Clayton – وأوبرا بنيامين بريتن Benjamin Britten المرعبة والجميلة. كتب هنري جيمس أكثر قصص الأشباح رعبًا، لكننا لا نعرف حقًا ما إذا كانت موجودة، لأننا لا نعرف إذا كان هناك بالفعل، في المنطق الداخلي للرواية،أشباح، أم هي إسقاطات لمربيّة مضطربة الخيال، هي أيضًا شبحيّة للغاية، لأنها بالمناسبة ليس لها حتى اسمٌ.
في روايتي “في غياب بلانكا” -وهي قصّة حب لا نعرف أيضًا أهي قصة أشباح أم لا- بالطبع يأتي الإلهام الشعري من هنري جيمس، لكنني كنت حريصًا جدًا على أن تكون معظم عناصر القصة متسقة مع الواقع، حتى المبتذل منه. فبطل الرواية رجل عادي تمامًا، يعمل في منصب إداري، ويعيش في عاصمة مقاطعة إسبانية صغيرة أعرفها جيدًا، لأنها قريبة جدًا من مسقط رأسي، وهي أوبيدا (تقع في شمال إقليم الأندلس). لقد بنيت شخصية ماريو مُستعينًا ببعض ذكريات حياتي الخاصة، ومع ذلك فهو مخلوق هجين، مثل كل المخلوقات الخيالية تقريبًا. عملت أنا أيضًا لسنوات في مكتب، في منصب ثانوي جدًا. لم أكن مُمتثلًا لدرجة ماريو، لكنني بذلت الكثير من الجهد للحصول على هذه الوظيفة، وبما أنني كنت فقيرًا طوال حياتي، فقد كُنت مُمتنًا للأمان المالي الذي وفّرته لي، على الرغم من تواضعها.
لكن رجلًا قدماه على الأرض مثل ماريو تحديدًا باستطاعته أن يُسقط على زوجته، بلانكا، كلّ قوة التأمل الشعري التي لا يمكن لأحد أن يتوقّع امتلاكه إياها. يمكن بناء رواية -كما أشار هنري جيمس عدّة مرات- من تفاصيل دقيقة، ومقتطفات من المعلومات غير المهمّة التي تتحول إلى بذور شجرة. وُلِدت “في غياب بلانكا” من تدوينة من سطرين أو ثلاثة، كنت قد قرأتها في شبابي المبكر من كتاب لجيوفاني بابينيGiovanni Papini، وهو كاتب كان يتمتّع بشعبية كبيرة في فترة مراهقتي. تظاهر بابيني بسرد حبكة قصة غير معروفة لفرانز كافكا: “يعود رجل إلى منزله في نهاية اليوم ليدرك أن زوجته، رغم أنها لم تتغير على الإطلاق، صارت أخرى مُنتحَلة”.
هذه القصة المُحتَملة كانت مختزنة في مخيّلتي لعدة سنوات. هناك قصص يكتشفها المرء بغتة، وأخرى ترافقه طوال حياته ، ولسببٍ ما يستغرق وقتًا طويلاً لكتابتها ، وأحيانًا لا تُكتب مُطلقًا. فالقصص تنضج من تلقاء نفسها في الخيال ، كالبذور تحت الأرض. ذات صيف، بغتةً، قبل عشرين عامًا، رأيت ماريو وبلانكا، ورأيت شقّتهما الصغيرة في خايين، رأيتها تتجه نحوه من عمق الشقة. رأيت وسمعت: سمعت النغمة التي يجب أن تُحكى بها القصة، بمنتهى التلقائية، بشفافية سردية ونحوية مثاليّتين، رغم اكتسائها بالظِّل ذي الإيحاء الشبحي المُمَيّز لما هو خيالي. كتبت دون أن أعرف كيف ستكون النهاية. ساعدتني زوجتي في العثور عليها. واستمتعت جدٍّا بالتوصّل إلى نهاية قد تكون أو لا تكون خيالية ، وقد تكون مختلفة لكلّ قارئ.
أنطونيو مونيوث مولينا
مدريد – إسبانيا
25 /7/ 2022
[1] رواية خيال علمي للكاتب البريطاني هربرت جورج ويلز صدرت سنة 1895
[2] The Turn of the Screw ترجماه للعربية ثروت أباظه وعبد الله البشير