أشباحها/أشباحي

أشباحها/أشباحي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حنان شافعي

لم أفكر أبدا في الكتابة عنها مثلما فكرت وأفكر في الكتابة لها، بيننا شرور مشتركة قد تظهر في القصائد..في لازمات الكلام..في التوحد مع سيجارة..في علاقة كلتينا بمضادات الإكتئاب..في تعمد الضغط على الجروح الغائرة كي تنزف أكثر ويطول عمر الألم بينما يظن الآخرون أننا نسيناها مفتوحة أو لم نعد نشعر بها لأننا تدربنا بما يكفي على التجاوز..وفي صعلكة المطارات بحثا عن مزيد من الأختام التي تؤشر بالمرور عبر حدود إلى أخرى، وقبل وبعد كل ذلك كانت المفاجأة حينما قرأتها أول مرة ثم التقيتها وأدركت أن أشباحها أشباحي.

بدأت علاقتي باسم إيمان مرسال عندما بدأت علاقتي بقصيدة النثر، كان علاقة سماعية “أظن أنني استقبلت أشياءا كثيرة في هذا العالم بحاسة السمع الآن فقط انتبهت إلى ذلك”، كانوا يرددون اسمها كثيرا في نادي أدب الصف حيث دخلت إلى المشهد الثقافي المصري وكنت آنذاك في السنوات الأولى من دراستي الجامعية. الرفاق الطيبون في نادي الأدب يتحدثون عن تلك الشاعرة/ الأنثى المصرية باعتبارها نموذجا جريئا وعابرا للحدود ولكن أي حدود على وجه الدقة لم يقولوا..وبالتالي فتحوا لتصوراتي المدى كي أتخيل عنها ما أريد وبالطبع أخلع عليها كل المواصفات والتجارب التي أتمناها لنفسي إضافة إلى الحواجز التي كنت أحارب لأعبرها في تلك المرحلة، توقعت بكل تأكيد أن مرسال لابد تجاوزتها بقوة حتى أنها تعيش الآن خارج المحروسة ولاتزال سيرتها طازجة.

هكذا ظللت أحمل نموذج إيمان مرسال الشاعرة “السوبر ومان” ودون أية تفاصيل أو معرفة بالمواقع الحقيقية التي خاضتها وحتى دون نبش في قصائدها كي أجد إجابة على تساؤلاتي وربما لم يحدث ذلك لانغماسي في هموم/أوهام خاصة كادت تعصف بكل ما فيّ حتى عقلي هذا الذي لا يفعل شيئا أكثر من أن يتصور أبطاله ونماذجه ليجد شيئا يتشبث به وينطلق للأمام في مقابل طوفان التراكمات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية التي لا تحتاج إلى مجهود كبير كي تعود به إلى الوراء وتبدل نماذجه بأخرى مناقضة تماما.

المرحلة الثانية في علاقتي بالعالم المرسالي جاءت حين وقعت عيني على ديوانها الصغير،شكلا وموضوعا، “المشي أطول وقت ممكن” لحظتها خفق قلبي الذي أرهقه المشي طويلا من البيت إلى المدرسة أو إلى بيت جدي في مشوارين ظلا أساسيين في حياتي حتى المرحلة الثانوية إذ كان البيت الكبير الذي اشتراه لنا أبي بعيدا في منطقة حديثة العمران والمدرسة في بداية البلدة وبالقرب منها بيت جدي وجدتي،حيث ولدت، وحيث يحلو لي الذهاب لاقتناص أوقات المرح مع الأقران وأبناء العمومة وقد ظل منزلنا الجديد بالنسبة لي في منطقة مهجورة، في الجغرافيا والوعي، حتى بعد امتداد المنازل والورش والطرق حوله من كل جانب.

كنت أشتكي طول مشاويري التي أعبر خلالها منطقة الجبانة بين المنطقتين وحيث يقشعر بدني وأنا طفلة صغيرة أو حتى صبية وأتذكر حكايات شيخ المسجد عن الموتى والعذاب في العالم الآخر وأظل هكذا حتى أعبر المنطقة/العالم الآخر إلى الحياة من جديد. هذا إذا هو مفتاح أشباحي الأول ساعدتني إيمان على إدراكه من مجرد عنوان ديوانها الذي عرفني عليها، من بعدها أحببت شرقيات وغالبية ما ترميه في طريقي من عناوين خصوصا ذلك اليوم الذي أخذت فيه كل دواوين مرسال وقرأتها بنهم بينما تتضخم تصوراتي عن الشاعرة، وتمنيت أن ألتقيها دون أن أفكر ماذا سأقول لها إذا جمعت بيننا الحياة وهل ستشعر بي وبأشباحي كما أتوقع أم لا؟ غير أن شعورا واثقا نبت بداخلي أنه عليا البحث عنها ومن ثم تحمل النتائج سواء كانت لصالحي أم لا.

كانت قصائد مرسال متصالحة معي بقدر كبير ربما لأن الشرور التي ترويها طيبة بما يكفي أو لأن شفرة الروح واحدة أو لأنني في ذلك الوقت كنت أمر بمرحلة غليان في الوعي وجموح كبير نحو كتابة النثر والانتصار لنفسي على كل الأنماط التي أرادوها لي مسبقا، لا أعرف على وجه التحديد ولا أظن أنه من المهم أن أعرف..فقط عرفت أن هناك من مروا قبلي و شعروا بقشعريرة البدن ذاتها ولكن لأسباب أخرى.

 كنت أقرأ قصائدها في جرعات زائدة ثم أنساها ثم أتعاطاها مرة أخرى ثم أنسى ما لديّ وأجلس في انتظار جرعة جديدة في ديوان جديد، غير أن ديوان “جغرافيا بديلة” كان بالنسبة لي عودة على بدء مع أشباح إيمان وقد ذهبت للمرة الأولى خارج حدود الوطن ولأكثر من وجهة كما كنت خارجة لتوي من معارك مؤجلة إما انتهت لصالحي بالانتصار أو المهادنة واكتشفت مع هذا الخروج المزدوج أنني هشة أكثر مما كنت أتصور، كما اكتشفت أن “الغربة”، شبح مرسال الغائب الحاضر، إشكالية تبعث على الضحك حد البكاء لبالغ تعقيدها وسخريتها من ذواتنا المتضخمة وأصبحت شبه متيقنةأن هذا الشبح لن يموت أبدا أو تصرفه التعاويذ مهما حاولت أنا أو حاولت شاعرتنا الكبيرة.

اكتملت سعادتي كما ارتفع منسوب قلقي بلقائها للمرة الأولى وهي تقرأ قصائد لصديقها وابن جيلها أسامة الدناصوري خلال احتفال دار ميريت بصدور أعماله الكاملة وقد حضرت خصيصا لسماعها واكتشاف علاقتها بالراحل الذي يتحدثون عنه جميعا بكل خير، كما يفعلون عادة مع الرفاق بعد الرحيل، والمدهش أنني لم أتردد في الهجوم على طريقتها في الإلقاء (ههههههه ضحكة طويلة) والتي لم تأت على مستوى توقعاتي وشعرت بدهشتها من جرأتي ونظرة العنف التي طلت من عينيها إلا أنها لم تنجح في مقاومة الحنان الذي تدفق منها نحوي..فربما استقبلت مني إشارات القشعريرة إياها فأدركت سريعا أن بيننا تاريخ مشترك مع الشرور والأشباح منه ما سوف يأتي لاحقا بالنسبة لي ومنه ما أكدت عليه عندما التقينا ثانية وأنصتت بتوترها المفضوح إلى حكاياتي ثم علقت بحكمة الكبار” لا جديد يا بنتي..نفس الحكايات ونفس التراكم!”.

دبي 2013

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعرة مصرية

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم