د. مصطفى الضبع
التعليم واستيراد الوزراء
نعم هو حجر الزاوية والأساس الذي بدونه لا معنى لأي حياة، يتقدم العالم كله بالتعليم ونصر نحن على اعتقادنا (الخاطئ طبعا) أننا يمكن أن نتقدم لأننا أبناء حضارة أو نتقدم بالفهلوة المعهودة تماما كما نعتقد أننا – من الأساس – لدينا تعليم.
وكأننا لا نرى العالم من حولنا، فلم نطلع على تجارب من تقدموا، وكأننا لا نرغب في الإفادة مما أنجزته البشرية من تراكم معرفي، فكل الحقائق تؤكد أن الذين تقدموا كان شعارهم التعليم أولا (راجع تجربة أمريكا أوائل الستينيات حين سبقهم الروس إلى القمر، وارتفع صوت الكونجرس الأمريكي وقتها بصرخة: نحن أمة في خطر، حينها اتجه متخذ القرار إلى التعليم لتسبق أمريكا الروس أو لنقل وقتها لتكون جديرة بالمنافسة).
لست أبالغ إذا قلت إن التعليم هو المسؤول الأول عن معظم قضايانا المصيرية وفي مقدمتها القضيتان الأكثر تأثيرا والأشد تحديا: الإرهاب والفساد، حتى أصبحت معظم مؤسساتنا التعليمية مفرخة و بيئة صالحة لإنتاج عوامل تدعيم الاثنين وإمدادهما بما يضمن بقاءهما واستمرار تأثيرهما الكارثي.
إن علاقة قائمة بين متعلم الأمس وبلطجي اليوم وبين متعلم الأمس وإرهابي اليوم وبين نظام تعليم متخلف يقوم على التلقين استخدم لتعليم أجيال الأمس وبين ما نعانيه اليوم من ثقافة الفوضى وعدم احترام أبسط قواعد السلوك الحضاري في كل خطوة نخطوها في حياتنا اليومية (راجع على سبيل المثال سلوك مستخدمي مترو الأنفاق وممارستهم رياضة التدافع في الصعود والهبوط على الرغم من قيام الهيئة القومية لمترو الأنفاق بوضع لافتات إرشادية تنظم عملية الصعود والنزول في كل العربات وعلى كل الأرصفة وفي كل المحطات).
إن كما كبيرا من الحقائق تضيع في زحام اللحظة التاريخية الحرجة التي نعيشها، في مقدمتها أن أمر هذا الوطن مرهون بمستوى التعليم وأن مستقبل هذا الوطن – الذي من المفترض أنه عزيز علينا جميعا – مرهون بتعليم ليس هو ما نخدع أنفسنا بوجوده.
علينا الإقرار – حقيقة لا خيالا – أن وزارة التربية والتعليم لا ينقصها إمكانيات لتقديم مشروع قومي للتعليم: لدينا كل مقومات المشروع: ثروة بشرية – كوادر علمية – ميزانيات (مهدرة)، وحتى أقطع الطريق على من يروج لنقص الإمكانيات المادية، الحقيقة ينقصنا الإدارة (كلمة السر في صعود أي مؤسسة أو هبوطها)، ومن الإمكانيات المهدرة ميزانية وزارة تنفق على طباعة كتب غير مفعلة لدى الطلاب (راجع موقف طلاب الثانوية العامة مثلا من الكتب المقررة والاستغناء عنها لصالح الكتب الخارجية) والحل بسيط جدا لاستثمار واحدة فقط من الإمكانيات (طرحت الفكرة مرات ومرات وكان أولها أيام الوزير الأسبق الدكتور حسين كامل بهاء الدين) الفكرة تتلخص في خطوتين أساسيتين:
- أن تتوقف الوزارة عن طباعة الكتب المقررة مدة خمس سنوات تثبت خلالها مناهجها.
- توجه الوزارة مقررات طباعة الكتب لتحسين أحوال التعليم وفي مقدمتها أحوال المعلم (حجر الأساس في العملية التعليمية).
يترتب على هذه الخطوة مجموعة نتائج:
- توفير إمكانيات مادية مهدرة مرتين (كمية الكتب التي لا طائل من ورائها – ميزانية الوزارة الخاصة بالطباعة).
- توفير بيئة صالحة للمدرس من خلال توفير وضع مادي يليق.
- تعليم الطلاب وتربيتهم كيفية الحفاظ على الكتب بوصفها قيمة (تجربة تداول الكتب الخارجية بين أفراد الأسرة الواحدة وأجيال العائلات المختلفة تؤكد ذلك).
إن مئات من المقالات وعشرات من البرامج وآلاف من التعليقات الطارحة تفاصيل أزمة التعليم والشارحة أسباب الأزمة والمقترحة كيفية الخروج منها، كما أن هناك عشرات من التجارب على مستوى العالم نجحت باقتدار منقطع النظير في تقديم مشروع قومي للتعليم ترتب عليه وضع هذه الدول في المقدمة (لنراجع تجربة كوكب اليابان الشقيق، وتجربة المجتمع الأوربي الصديق، والمجتمع الأمريكي ذي السطوة والبريق) ولكن الوزارة تلتزم الصمت بجدارة تحسد عليها وكأنها لاتعرف من العالم سوى نفسها وكأن قيادات الوزارة يضعون في مكاتبهم مجموعة مرايا عاكسة لايرون خلالها إلا أنفسهم.
وإلا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا لم تفكر الوزارة على مدار عقودها الماضية في أن تقدم مشروعا قوميا للتعليم ؟ أقول لماذا لم تفكر ولم أقل لماذا لم تطرح ؟ فالوزارة لم تفكر بعد، وإنما لجأت لأسلوب المهدئات والظهور في المناسبات (مناسبات مولد الثانوية العامة سنويا وبانفضاض المولد تعود الوزارة إلى ثوبها التقليدي القديم)، منطقيا يجوز أن يمثل المواطن عبئا على الوزارة، ولكن العكس ليس صحيحا فمن غير المنطقي أن تكون الوزارة عبئا على المواطن، ولكن الوزارة قبلت أن تقوم بدور العبء على المواطنين في مختلف العصور، وقد أدت دورها ببراعة ولم تصل بعد لمرحلة التفكير في مشروع قومي لتطوير التعليم أو للنهوض بتعليم لم يعد صالحا للأجيال ولم يعد يليق ببلد عظيم في حجم مصر وتاريخها وحضارتها وقياداتها ومواطنيها.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقسوة في النهاية: إذا كنا نستورد مدربين لفرقنا الرياضية (وهذا ليس عيبا وليس داخلا في منطقة الحرام) إذا كنا نفعل ذلك فلماذا لا نستورد وزراء ؟ وأول الوزارت التي هي في أمس الحاجة لذلك التعليم، فما دامت الوزارة – بوضعها الراهن – غير قادرة على أداء دور مغاير تنتظره الأجيال، وغير قادرة على النظر لأمور مهامها بطريقة عصرية تدرك من خلالها أن دورها لا ينحصر في مراقبة ماهو كائن وإنما إنتاج ما يجب أن يكون ورعايته.