يونس طير
إلى روح والدي: بوعزة طير
” أين يقع الغياب، الذي يرحل إليه الجميع؟ “
محمود درويش
يأتي الحزن على شكل عاصفة لا أول لها ولا آخر، عجز لا يبقي ولا يذر، سلاسل من الموت الأخرق: الموت الذي كنا نهزأ به ولم تعتد أصابعنا بعد على مسكة السيجارة بعد، الموت الذي ساد ولا يزال، الموت الغبي جدا، المقرف جدا. ها نحن نكتشفه بفجائية القدر. أي حقير هذا هذا الذي ابتكر الموت ليهزأ بنا نحن الفانين؟ ليتلذذ بألم الفقدان وانهمار الدموع، والتآكل البطيء لحيواتنا، وبانجرافات الأرواح نحو الجدران السوداء، والعواصف الباعثة على الغثيان اللانهائي..
_ الموت، الموت. الموت
_ الموت، الموت. الموت
_ لا حيلة مع الله..
_ لا حيلة مع الموت
_ لا حيلة معه، فقط حين تعجز الذاكرة، فقط حين لا تكون لدينا قبضة قوية تمسك بتلابيب الحب الذي نكنه لمن نحب.
_ الموت، الحب، الذاكرة، الله..
فضاء أسود من العبث الأعظم، مفتوح على العبث اللامتناهي. الذكرى الصغيرة حيث ينتهي الوحي والنحو، وتعجز اللغة. الموت الذي لا يموت. سخريتنا المقرفة. الجدار الذي يلتصق بأرواحنا صارخا: أنا الكلمة الفصل، أتقدم لأعصر جسدك وأتلقف روحك الشبيهة بحشرة تتنقل وسط شارع مزدحم بالمارة. آخر سنبلة مفتوحة على غروب سريع جدا للشمس، قبل أن تحترق ويشتعل معها احتراقها بؤبؤي.
لا نعناع يعطر البيت بعد الآن يا أبي. لا رائحة للبيت اليوم. لا ريح لتحمل نسمات عظمتك بعد الآن. لا بيت..
الموت: إلهنا المهين. الشيء الطاغية. تناسل آخر وأخير لمسخ بملامح مهرج، الملامح التي لا تتعب من الضحك السخيف. الموت: ثرثرة سماوية أخرى..
أحمل كومة من التراب المختلط بالتبن، أشمها وأمرغها في وجهي وشعري، أحملق في السماء ولا أقدر على الصراخ. أتحول إلى لا شيء، أندثر من الألم والحزن والغضب، ثم أسقط أرضا. ترتسم ركبتاي على قبر الرجل العظيم، الذي رمينا به قبل ساعات في مأواه السرمدي. أبكي. لا دموع. كأنني لم أتخيل من قبل على كل هذا. كأنه احتمال لم أرسمه حين أشرب قهوتي كل صباح. يتسرب إلي قليل من الماء، المتبقي من لوازم الدفن. كأنه يبكي بدلا مني. أعتصر مرارة الغضب والتعب والهوان.
_ مكسور من الموت،
_ كأن الموت قد كسرني، أتعطش للهاوية ولا أهوي.
_أسقط من الداخل وأتلعثم
_الموت وحده يكسر الأرواح.
_ وحده الموت
يقرر الرجل العظيم الرحيل بعيد العصر بقليل، أتعبه التنفس المكرور، هزأ به وابتسم، ثم قرر الإبحار بعيدا. الرجل الذي لا يشبه أحد:
_ إبا، إبا.. أبتسم لروحه، أكاد ألامسها، أنزل بوجهي، أحاول تلقف أنفاسه. أتصيد نفسه الأخير. إذا تنفست روحه في شهقة طويلة هل يعيش بداخلي؟ يا أبي أريدك داخلي.
يكف عن المقاومة. أرمي بقطرة ماء داخل فمه. لا ردة فعل أضغط صدره، تتسرب دمعة رعب. البرودة المقرفة تنتشر في الجسد..
_ إبا.. إبا، إزذ لا يتسلاث؟ أتسمعني أيتها الشجرة التي ظللت امرأة عظيمة وثلاثة رجال. أيها الجناح المقدس العظيم. من يمسد صدري لأستيقظ في الفجر يوم العيد؟ من يغسل وجهي بالعطر؟ من يمسح على رأسي مثل ملاك حارس؟ أي صوت سيعيد حكايا الحرب البعيدة على مسامعي: ” كنا جنودا مغاربة زج بهم في حرب ليست حربهم.. فرنسا اللعينة، ورجال جبهة التحرير الفيتنامية، ينبغي أن ترى ليونتهم، كأنهم أشباح.. الفيتنام، ومرسيليا البهيجة في الليل.. مت وأنت واقف. كرامة الرجل حياته. ويشير إلى أنفه: ارفعه دائما يا ولدي، دائما. خلق الله أنف الرجل ليرفعه “
يا لهذا الفراغ المفزع. تولول النسوة ويبكين، نتعانق في وسط الغرفة التي شهدت نضج أرواحنا وأجسامنا. الموت الحقير. أشعر بالخواء. أحاول تحريك يديه. هل مات أبي؟ لا حيلة مع الموت. أي غد أذهب له وأنا الآن فراغ يبتسم لليوم الذي كان قبل عشرين سنة: أبي يحلق ذقنه ويلاعب قططا تعبث بالفراغ.
أبي..
بوصلة الروح، بوصلة روحي
وتقوى كانت كل زاده: اقرأ
أبي..
الحضن الذي لم يدم إلا ثواني: ألعنني وألعنني
لو كنت قبل الآن كنت اختبأت تحت جلبابك الأبيض:
أريد شجرتك قائمة لتواجه الريح
أبي..
حصن، سكون، حقل قمح مهجور منذ الأبد،
لباس عسكري معلق في مواجهة عينين يقظتين: كان يتمسح به كل صباح وكل مساء
رصاصة فارغة تحت وسادة نومه من عيار12 سنتيمتر
وقليل من الملح
تذكار ورقي لأرض ضاعت ولم تعد..
يوم الخميس الممطر دوما، وموعد السوق عند الفجر:
أتدثر بأنفاسك الدافئة
أرى الله في أسنانك الفضية اللامعة.
قبلاتك وأنت توقظني للمدرسة:
” أفرشك وأغطيك برضاي يا بني”: لازمتك التي توازي أحبك. لغة الحب التي لا يتكلمها إلا رجل يشبه الله..
هل قلت لك يوما أحبك؟ ألعنني كل نفس. وأصرخ بملامحك: أحبك..
والآن يا أبي، والآن وقد سقتك للموعد الأخير، ها أنذا أنتهي بنهايتك، وأموت بموتك. وحين كانوا يبكونك كنت أنا المدثر بالبياض والمجبول بالبرد. كنت أكفنني حين كفنتك، وأتحلل حين تتحلل. كنت أنا من انقطع حبله الصوتي حين عجزت أنت عن الكلام. كنت من سيق للعدم أيتها الشجرة التي أغصانها بقلبي. من أين ستصلها الشمس اليوم؟ أشعر بجفافها داخلي يا أبي، فقم. قم.. كنت تغمض عينيك في مواجهة شمس الصباح، وكنتني مسكونا بالظلام والعدم الأبديين يا أبي.
قم أبي بهالة الجندي القديم: هالتك. قم لنفلح معا أرضك الضائعة. قم يا هويتي المفقودة. قم ظللني بقامتك. قم فأنا أختنق صباح مساء. اغمرني بالحياة حين تضحك لي عينيك. قم فقط قم يا أبي.. فقم
أبي: الشجرة الفارعة التي تسكن أوردتي، وريدا وريدا. يا حقلا مخضرا تأوي إليه الفراشات والعصافير. ثغرك معبد لكل العصور و فرح سرمدي يغمرني كالهواء.
الذرة الأولى لشهقتي. أأبكيك وأرثيك؟
وحين تسلل البرد المخيف لجسدك، شعرت به وتدثرت بجلدك.
أبي..
يا صوت الصحراء: يحترق قلبي، وأصير فجأة كومة من العفن.
لا شمس لي: أريد شمسك
أنا منذ اليوم لستني ولن أكونني.
ها أنذا أموت بموتك.
أبي:
كان هناك يتوضأ ويصلي بسرعة، يحلق لحيته ويقص شاربه بدقة اليومي، ويستمع للأخبار ببرودة، يتملى الشمس بقدسية، ويمشي بتؤدة للسوق الصغير. يعود محملا بما تجود به القرية، ويبتسم لشجرة مشمس فارعة الطول. يملأ رئتيه بالهواء ويستمتع بنفسه، يمسح حذاءه بحب هو الجندي الذي تقاعد قبل الأوان..
يا أبي الذي كان ولايزال. يا جدار الأمان الأبدي: من قال إن الموت يلتهم الواقفين ويتمكن من الصخر؟
أرمي وجهك بعطرك المفضل ربما أحرك حواسك، أسقيك قطرتي ماء في جوفك الجاف، ترفض مشمئزا، أقبل وجنتيك معتذرا، لأعاود الكرة مرة أخرى. وأغرق في عجزي.
ها أنذا عاجز أمام أنفاسك الأخيرة.
يا أبي..
بموتك تنتهي دائرة حياة العنقاء يا أبي. بموتك تتملكني الصحراء ويسكنني الجفاف الذي يغذيه غيابك.
_ يا أبي، هل أتيتم مرتين؟ يا يتمي الأول والأخير، يا أبديتي: هل أصير يتيما مرتين؟ هل تسمح أنت الذي وقفت ضد القدر بصرامة محارب قديم؟
أسقط، يا أبي، أسقط
أبي الحلم
أسقط
أبي الحب
أتهاوى
أبي المعاكس للاشيء: أبي الحضور
ها أنا أسقط بسقطتك الأخيرة
أنتظرك كل صباح كطفل تائه في خيوط الشمس
أحلم بغيابك المباغت وأستبدله بالحضور
أتذكر الحضور وأنفي الغياب
أشربك مع قهوتي الصباحية والمسائية، ومع كل كأس نبيذ
أتعبد بعينيك وأتلعثم
يتقوس ظهري حين يحضر غيابك يا أبي.
أشيخ ويتيه عني المعنى.
أراني على هامش الحياة مثل لحاف شجرة ترمي به الريح.
وحين ذهبوا بك للقبر، رافقناهم لمنتصف الطريق ضاحكين، غمزت لي مبتسما، تلونا متلعثمين آية الكرسي وتمتمنا: ” أنتم السابقون ونحن اللاحقون “. مسكت يداي بحب واتجهنا عكس الآخرين، نتهامس دون أن تزيغ عيني عن الأرض: كان الحب عندي أن لا أرفع عيني لعينيك. أن أقبل يديك ورأسك وعيناي للأسفل. هل حضنتك يوما؟ هل يهم ذلك اليوم؟ حضنتك في حلمي وأنت على بعد سنتيمترات معدودة مني. وها أنذا أحضنك الآن وأنت تحت التراب: التراب الذي بأعماقي وأنفاسي. من منا هناك ومن منا هنا؟ من الحي فينا ومن الميت؟
يا أبي: أيها الوحي الكامن وراء كل نزوة انتابتني وتنتابني. أبي الروح المكتفية بذاتها منذ الأبد. أشهد أني فقدت روحي بشهقتك الأخيرة وأشهد أن لا روح لي بعد الآن.
أسكر كل مرة لأتخلص من سلطة عينيك علي، ولأتمرد قليلا. في مواجهة ذكراك قليل من الحرية تكفيني. أسكر لأصطدم بصورتك الماثلة أمامي كل لحظة: عينين حادتين كجبال المدينة التي سكنتني، المدينة التي عرفتها مرتين فقط. وأدمنت ماءها: “حين تأتي لزيارتي أحضر لي قليلا من ماء شفشاون “. هل أحضرته لك؟ لا أذكر. أهرع للخمارة لأجابه فكرة أنك لا تشاركنا زرقة السماء بعد ولا مرارة الأرض يا أبي. أهرع للسكر لأموت بموتك وأحيا بحياتك القديمة. أبي الساكن بأنفاسي ما السبيل لحضن طويل؟ ونظرة طويلة. ماذا عساي أفعل لأتوازن في غيابك؟
يسكنني وجهك أيها العصي على القبض، وحين أحلم بيديك أحترق من الداخل وأتهاوى. تسكنني حينها يا أبي المرارة وتعجز لغتي الخرقاء الصبيانية. كل اللغات تعجز أمام ملامحك. ما السبيل لكي أحيا مجددا وجسدك يرزح تحت تراب مثقل بالصمت والظلام والغياب؟
أبي..
ولى المعزون وتمتموا يا أبي.
غابوا في متاهات اليومي والكلام المكرور
وظللتني أستند على ظلك الغائب
أي مرآة تجسد ملامحك يا أبي؟
حين رحلت ذلك العصر المشؤوم، ماتت شجرة المشمش واستنكفت قطط الحي عن المواء. انطفأ الضوء وغاب قمرنا المضيء دائما. رحلت عصافير أشجارنا يا أبي دفعة واحدة. واستبد بي الحزن وانتهيت بنهايتك. استولى علي البرد يا أبي، وعصفت بي هواجس الغياب. ما الحيلة يا أبي؟ أرمي بكأس النبيذ البارد في جوفي فأحترق أكثر، وأموت أكثر يا أبي..
أموت بذكراك وأعاود الموت، وأرافق الحزن العظيم حتى الغياب الأخير. بموتك يا أبي لا شيء أملكه غير الموت، أسخر منه ويسخر مني. حين يحضرني موتك، أموت لأعاود الموت. أموت بموتك يا أبي لأموت بعدها..
……………….
* كاتب من المغرب