أذن الضوء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نور الهدى سعودي

حرارة الحجر تنخفض وحركة العربات  تتباطأ فوق الإسفلت، يصل إلى فم النفق حاملا سلّة مصابيح، ودرجًا خشبيًّا ، ودفترَ عدّ صغيرًا غلّف بطرف شريط لاصق كي لا يبتلّ عرق الأصابع. الهواء هنا مزيجٌ من رطوبة ماء مُحتبس ونفَس نحاسٍ سُخّن أكثر مما يلزم. يزيح كتفه قليلًا لليسار، يمرّر الدرج مثل قارب في عنق زقاق، تُصدر مفاصله نغمةً سريعة، ويُحكِم تثبيت الساقين على الأرض، ثم يلتقط أنفاسه و يغمض لثانية يُهيّئ فيها سمعه لوقع الأزيز، ليبدأ الورديّة التي لم تتبدّل منذ سنين.  

الأزيز يسبقه دائمًا. يتسلّل من عمق النفق أنينا ثم يتكاثر، نبراتٍ يعرفها: مصباحٌ يطلب راحة، وآخر يقاوم، وثالثٌ يوشك أن يختنق. يعدّ ثلاثًا وعشرين خطوة إلى أول تقاطع، خمسًا أخرى إلى بقعة عتمة يعرفها بالكعب لا بالعين. هناك يضع الدرج، يدير الزجاج نصف دورة ثم نصفًا آخر، ينصت لارتباك الضوء في بكائه الأول قبل أن يستوي. يكتب في الدفتر: رقم العمود، لحظة الاستبدال، علامة صغيرة تشبه قطرة على هامش الصفحة ليدوّن بها درجة العرق على الجبين. لا يشرح لنفسه لماذا. يعرف أن الأرقام تمسك اليد، أمّا القلب فله جدول مختلف لا يطالعه أحد.

في صباحٍ بعيدٍ قريب، كانت ورقة حمراء قد ظهرت عند فم النفق. لم يقرأ إلا سطرًا واحدًا: إغلاق نهائي يوم الجمعة. الورقة تخفق في هواء الفجر كعلمٍ بلا سارية، ثم يثقلها الندى وتلتصق. لم يُسمع صوتُ أحدٍ يشرح أو يعتذر. يسلّ الورقة برفق، يطويها على نفسها ثلاث طيّات، يضعها في الجيب الداخلي لقميصه الداكن مع قلم رصاصٍ قصير. تلامس الصدرَ وتستقرّ كجرحٍ تعلّم الخفّة حتى لا ينزف.

يدخل المساء في المساء. جرّ الدرج إلى العمود الأول، ينقر القاطع، فيغنّي السلك بحدّة طائرٍ يوقظ الأشجار، تدب في المكان حركةٌ دقيقة. الضوء حين يشتعل في العتمة ليس مجرّد إنارة، هو لَفظٌ أولُ لكائنٍ خرج لتوّه من ماءٍ داخلي. يبتسم، يترك الابتسامة في مكانها وتمضي يداه. الكلمات في رأسه قليلة، الأصوات هي التي تملأ الداخل.

دراجات قليلة تمرّ عند المنعطف. فتىً يتوقّف، يضع قدمه على الأرض، يسند ذقنه إلى المقود، ينظر إلى الداخل بعينين تلمعان على حافة خوفٍ جميل. يقول: الظلام هنا عميق. يردّ من دون أن يلتفت: الصوت يفتح طريقًا. يسأله الفتى عن الأزيز: من أين يأتي؟ يضع الرجل إصبعه على القاطع ويضغط برفق كجواب بفعل لا بقول، ينفلت من السلك لحنٌ رفيع، يبتسم الفتى. يمدّ يده بمصباحٍ صغيرٍ يعمل بالبطارية. وجدته في ساحة المدرسة، يقولها كمن يردّ أمانة. يأخذ المصباح ويضعه في الجيب ذاته الذي تحتله الورقة الحمراء الجارحة. يتجاوران وسط قلب مزدحم: قرارٌ مؤجّل وعونٌ بلا اسم. يرفع الرجل كفّه، يلمح انعكاس المصباح على ظفره، ويمضي الفتى، مخلفا خطًّا من هواءٍ صفيرٍ نظيف.

قبل منتصف الليل بقليل، يظهر ثلاثة رجال بقبعات صفراء، ستراتٍ تعكس الضوء وآلة قياسٍ يتدلى منها شريط. يمشون بخطواتٍ قصيرة. يقيسون اتساع الفتحة، يشير أحدهم إلى مخططٍ مطويّ، يرسم الآخر بعصر قلمٍ أزرق دائرةً حول نقطةٍ لم يرها أحدٌ من قبل. لا يرفعون أصواتهم، يتركون كلامهم يسقط في الخرسانة مثل حبّات رمل. يسأله أحدهم عن المصابيح الصالحة. يلمس الرجل بظهر اليد أعناق الزجاج، يختار ثلاثة: واحد فوق تسربٍ قديم تُذكّره رائحته بماءٍ راكدٍ في قِدرٍ صدئ، آخر عند موطئٍ تنزلق فيه الأقدام إذا بلّلته رائحة الفجر، وثالثٌ يواجه لوحةً قصديرية علّقت هنا منذ زمنٍ لا يخصّ أحدًا. تُستبدل المصابيح ببطءٍ لا يُغضِب الحجر. يدوّن في الدفتر: ثلاث نقاط ضوء عند التقاطع، مسافة الأقدام أخفّ، صوتُ المكان نقيّ.

الفجر يقتربُ من الفم. يرخي الهواء بردًا رقيقًا على رسغه. يُخرج الورقة الحمراء من الجيب، يمزّقها شرائطَ رفيعة، تُصدر تمزيقًا يكسر سكونًا ناعمًا، يوزّعها على الدرج كأمطارٍ من ورق. الشرائط تلتصق بالخشب، تميل ثم تستسلم. يضع المصباح الصغير في منتصف الممر. الدائرة تكبر خطوة خطوة، كبرعمٍ يفتح عينه. يتراجع. يعدّ ثلاثًا وعشرين خطوة إلى الوراء، يتذكّر وهو يغادر قوس الفم الحجري، أين كان يضع القدمَ في كل مرّة، كيف كانت حافة الدرجة تعضّ الجلد ثم تسكّن، كيف يطمئنّ جسده حين يلتقط الرقم بلا نظر.

على الرصيف، باصٌ كهربائيّ ينحرف ببطءٍ مسموعٍ للعين لا للأذن. لا يترك عجله في الأسفلت أثراً، يُبدّل اتجاهه كظلٍّ يتدرّب على طاعة الضوء. يرفع الرجل رأسه يبحث عن الأزيز، العادةُ تُرسل اليد إلى موضع القاطع حتى وهو في الشارع فلا يجد في الجوّ سوى نفَسٍ باردٍ من هواء. في تلك اللحظة وحدها يخرج الظلُّ من تحت قدميه ويذهب أمامه نصفَ خطوة. حركةٌ صغيرة تكفي للعجلة كي تمسّه. لا شيء يتهشّم، سبق سكونُ المدينة وقعَ الجسد على الحديد.

المصباح الصغير ما زال يترك دائرةً في جوف النفق. لا يقفز الضوءُ لينقذ أحدًا. الضوء يسمع. الذين كانوا بعيدين رأوا جسدًا يلتفّ ثم يستقرّ، وشفتين تُمسكان رقمًا أخيرًا لم يُقَل. لم يلتقط أحدٌ صوت الاصطدام. حتى الرصيف اكتفى بارتجافةٍ لا تتكرّر كثيرًا في حياته الحجرية.

تعبر ساعات. في المساء تمشي الجرافات على ركبٍ معدنية. تُنزِل أسنانها في الحافة الأولى وتجرّ معها طبقاتٍ من غبارٍ رماديّ. الهواء يبدّل طعمه. أصواتُ الحديد على الحجر تشبه مضغًا بطيئًا لفكرةٍ عنيفة. المصابيح الكبيرة تُطفأ واحدةً واحدة، بينما تبقى نقطةٌ صغيرة محاصرة في الخرسانة الجديدة تومض، تخفت، تعود. الومضة تشتغل لعابرٍ يصعب أن يصل. الليل يتقدّم على قدميه الناعمتين، يُسكّن الغبار أخيرًا، تتساوى الحواف، يهدأ الخراب في ترتيبٍ جديد.

تسلّل وميضٌ عبر شقّ ضيّق تركته مجرفةٌ مستعجلة، إلى فم النفق الأرضي من سمائه الإسمنتية. ارتجف الحجر لحظةً بمرور الضوء، لا من خوفٍ بل لأن ذاكرته أقصر من ذاكرة الوميض، ثم هدأ، فيما الأزيز واصل أداء واجبه حتى بعد أن انتهى المكان.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

العقرب