أدونيس.. ليس وحده الذي يواجه السلطات

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام


وكالات

أدونيس الشاعر الثائر يرى أن ما حدث في الربيع العربي "ليس ثورة"، وهو الأمر ذاته في سوريا وبقية الدول العربية، معتبرا ما حدث بمثابة "حراك سياسي مهم أو نوع من التمرد والانتفاض يتعين تحويله إلى ثورة شاملة وجذرية".


وبرر أدونيس ذلك بأنه “لا يمكن بالنسبة لي أن أسمي ثورة في البلدان العربية إلا تلك التي تملك مشروعا متكاملا يقوم على إعادة النظر في الأسس التي عطلت حيوية الإنسان العربي، وطمست حقوقه وحرياته وإنسانيته وفكره”.

ودافع عن مواقفه بقوله: وقفت مع هذا الانتفاض لا في تونس ومصر وحدهما، وإنما في سوريا أيضا وفي بقية البلدان العربية، وخاصة اليمن، ووصفته في مقالة بأنه مهم جدا في حد ذاته، حتى لو فشل، لأنه دليل حيوية وتوق إلى التغير وطلب للعدل.

غير أنه يسلم بأن الفساد يستشري “حيثما طال حكم الحاكم، وهيمن على السلطة بلا ضوابط دستورية كافية”.

قل ما شئت وتحدث عن مواقفه السياسية في خضم الربيع العربي وثورات الشعوب، لكن أدونيس كان وما يزال أحد كبار الشعراء العرب، وصاحب منجز ثقافي إبداعي شاهق، فيما يثير الجدل الراهن حول مواقفه السياسية سؤالا كبيرا عن العلاقة بين الشعراء والسلطة، التي قد تتحول أحيانا إلى محنة، إن لم تكن لعنة، بقدر ما يحق التساؤل عما إذا كانت السياسة قادرة على النيل من إبداع الشاعر وقيمة المبدع وقامته!؟

ومع أن أدونيس، المسكون بالشعر، يرى أن “السلطة نقيض للشعر في كل وقت، وفي كل مكان، وأيا كانت هذه السلطة”، نافيا أن “يكون أي حاكم قد أصغى لشاعر”، فإن الواقع يبدو مشحونا كالتاريخ بوقائع تؤكد اهتمام كبار المبدعين والشعراء في العالم بقضية السلطة وانعكاساتها عليهم، ولا فارق في ذلك بين شكسبير في الغرب، والمتنبي في الشرق.

وإذا كان سيد الشعر والنثر الإنجليزي، ويليام شكسبير، قد تناول قضية السلطة في عديد أعماله، مثل رائعة “ماكبث”، فإنه كان يعتبر الانتخابات الحرة هي السبيل لضمان كرامة البشر وحرياتهم ورفاهيتهم، على غرار “الجمهورية الرومانية القديمة”.

وفيما نظر شكسبير للعنف باعتباره آلية أساسية لتغيير النظام الظالم، ولم يعارض صراحة خلع الملوك المستبدين بطرق دموية، فإنه بدا مفتونا بهؤلاء الذين يودون ترك السلطة، بقدر ما توقف طويلا وبسخريته الماكرة الساحرة أمام عشاق كرسي الحكم، ومدمني السلطة، كما يقول ستيفن جرينبلات، أستاذ الدراسات الإنسانية بجامعتى بيركلي وهارفارد الأمريكيتين، وأحد أهم المتخصصين المعاصرين في أدب شكسبير.

وفي دراسة بعنوان “شكسبير ومقاصد السلطة”، ذهب ستيفن جرينبلات إلى أن دراسة أعمال الشاعر الإنجليزي الخالد تؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، تأييده للثورة على مغتصب السلطة أو الحاكم الظالم.




والمثير للمتأمل في علاقة الشعر بالسلطة حتى في الغرب، ولو من الناحية الشكلية والبروتوكولية، أن هناك حتى الآن منصب “شاعر البلاط الملكي” في بريطانيا، كما أن هناك “شاعر الدولة” أو شاعر البيت الأبيض في الولايات المتحدة، ومن بين من حملوا هذا اللقب الشاعر الأمريكي الكبير روبرت بينسكي، إبان إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، وهو الرئيس الذي كان مغرما منذ أيام الدراسة بمسرحية ماكبث.

وإذا كان أبو الطيب المتنبي قد قام أحيانا بدور شاعر البلاط، واقترب بشدة من بعض الحكام، مثل “سيف الدولة”، فإنه دفع الثمن غاليا، واحترق بنار السلطة، كما يلاحظ أدونيس ذاته، الذي يبدو المتنبي موضوعا مفضلا له، بل ومصدر إلهام أحيانا، حتى إنه خصص، في عمله الشعري “الكتاب”، الكثير من التفاصيل الدالة والشيقة عن حياة المتنبي، ودليل الشاعر العبقري ورحلته داخل تاريخه وثقافته وتطلعاته وعلاقاته.

وفي دراسة مستفيضة، اعتبر المستشرق وولفهارد هاينريش، الأستاذ بقسم لغات الشرق الأدنى والحضارات في جامعة هارفارد، أن المتنبي ما يزال يشكل لغزا كبيرا في التاريخ العربي، موضحا أن السياسة والعصر المضطرب الذي عاش فيه يمثل أحد أهم أسباب الالتباسات التي حولت هذا الشاعر العبقري للغز، فيما يبدو أدونيس بدوره موضع اهتمام كبير من جانب المستشرقين ووسائل الإعلام والصحف الكبرى فى الغرب.

نوهت جريدة نيويورك تايمز أن الشاعر السوري علي أحمد سعيد، الشهير بأدونيس، “قام بثورة في الشعر العربي، وسعى لتحرير هذا الشعر من قوالبه النمطية وموضوعاته التقليدية”، فيما قال الشاعر السوري للصحيفة الأمريكية، منذ نحو عامين: إنه لا يفكر في جائزة نوبل، ولا يرغب في الحديث عنها.

وقالت النيويورك تايمز، إن أدونيس يعتبر أن الشعر لا يسمو فوق “سياسات الأدب” فحسب، وإنما يعلو على السياسة ككل، معتبرة أن “الشعر بالنسبة له طريقة تفكير”، فيما ينتقد بشدة الشعر العربي المعاصر، لأنه يكرس في أغلبه الوضع السياسي القائم ويحتفل به ويبرره.

وفي حوار مع جريدة “أخبار الأدب” المصرية، رأى صاحب “الثابت والمتحول”، الذي يقترب عمره من الـ82 عاما، أن رسالته إلى الرئيس السوري بشار الأسد، التي تعرضت لانتقادات من العديد من المثقفين في سوريا والعالم العربي، لم تكن تعني أنه يتفق مع الأسد أو يراه منزها أو عادلا، مضيفا، أن “بشار الأسد رئيس حزبي لكنه غير طائفي”.

وأكد صاحب “أغاني مهيار الدمشقي” أن مطلبه المفصلي والجوهري في هذه الرسالة هو “إعادة الحق في التفويض إلى الشعب وحده، وحصر الحق في إلغاء التفويض أو تجديده، في الشعب عبر اقتراع حر وعام، وبلا شروط مسبقة، وأنه لا حزب ولا زعيم يختزل الشعب ويستولى على إرادته”.

فيما كانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قد لفتت إلى أن بعض النقاد يعتبرون شعر أدونيس بمثابة “شعر المنفى”، الذي عرفه شعراء عرب من أصحاب القامات العالية، كتعبير عن العلاقة المعقدة بين الشعراء والسلطة والسياسة، فبقدر ما تعرض الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري لاتهامات بالتكسب السياسي، والتقلب من أجل مغانم شخصية، وصولا إلى الانتهازية، فإن حياة الشاعر الراحل، التي امتدت 97 عاما، ورحلته الطويلة بين المنافي وأصقاع الأرض، تظهر بجلاء جناية السياسة على الأدب، حتى إنه أقام 30 عاما في مدينة براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا حينئذ.



ومع أنه كان يلعن السياسة في مناسبات كثيرة، ويصف الساسة بأنهم “يبتسمون في وجهك ويطعنونك في ظهرك”، فإنه تعاطى مع السياسة بصورة مفرطة، فيما اعتبره نقاد، مثالا “للشاعر الفذ والسياسي المتذبذب يسارا ويمينا”، غير أن أحدا ليس بمقدوره الطعن بجدية في قامته كشاعر كبير استحق عن جدارة العديد من الكتب والدراسات، ومن بينها كتب “سوسيو ثقافية”، لمسيرته الشعرية، ككتاب “الجواهري: جدل الشعر والحياة” للدكتور عبد الحسين شعبان.

وإذا كان أدونيس قد اضطر لمغادرة سوريا لأسباب سياسية، في ستينيات القرن العشرين، متجها إلى لبنان ثم باريس فى الثمانينيات، وحصل على الجنسية الفرنسية، معتبرا، على حد ما ذكرته النيويورك تايمز، أن “كل فنان منفي داخل لغته”، فإن الجواهري قد اضطر لمغادرة العراق عام 1961، لخلاف مع الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، وشعوره بأن حياته باتت في خطر، غير أن اتهامات التكسب السياسي عبر الشعر طالته قبل سنوات بعيدة في العهد الملكي.

ولفترة محدودة، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أقام الجواهري في القاهرة، تاركا دمشق التي كان يعيش فيها كلاجئ سياسي أو “لاجئ إنساني”، حسب التعبير الذي فضله، غير أنه كان يقتفي أثر المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي، لدى شعوره بعدم الاستجابة لبعض مطالبه في الدول التي قصدها لاجئا بعيدا عن العراق.

وإلى جانب الجواهري- الذي يوصف تارة بأنه “متنبي العصر” وتارة أخرى بأنه “شاعر العرب الأكبر”، طالت اتهامات التحول السياسي، والتذبذب بين اليسار واليمين، والتنقل بين اتجاهات سياسية مختلفة لتحقيق منافع ذاتية، شعراء كبارا في العراق، كعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب، لكن أحدا لم يستطع الاقتراب من أسماء مثل مظفر النواب، الذي يبقى حالة متفردة، حتى لو كان قابضا على الجمر، شأنه شأن أمير شعراء الرفض المصري العروبي الراحل أمل دنقل، والشاعر التركي الكبير ناظم حكمت، وغيرهم.

ومن المفيد، في هذا السياق، استدعاء حالة سيد الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ، والفارق الكبير، كما لاحظ العديد من النقاد بين كتاباته كمبدع وروائي ومقالاته الصحفية أو آرائه السياسية عبر منابر عامة.

وكان نجيب محفوظ ذاته قد حسم هذه القضية، حين قال عن كتاباته الروائية وأعماله كأديب: “عندما أكتب لا أعبأ بشيء.. بأي شيء”.

وإذا كان المثقف ناقدا لذاته وللسلطة، سعيا لغد أفضل، فإن عصر ثورة الاتصالات والإنترنت يثير المزيد من التساؤلات، حول قضايا كهذه في الربيع العربي، ويضع على المحك أسماء مبدعين كبار كأدونيس، الذي يؤكد دوما أن الشعر لا يتوافق مع الأيديولوجيات.

وتتبدى محنة أدونيس في ضوء ما ذكره من قبل لصحيفة نيويورك تايمز، من أن “الشعر لا يغير المجتمع، وإنما بمقدوره فقط تغيير تصور ومفاهيم العلاقات بين الأشياء”، مضيفا، “حتى الثقافة لا تغير دون تغيير المؤسسات”.

وفي تصريحات سابقة، اعتبر أدونيس أن “الاعتراض على كشف العنف في التاريخ العربي يعني إخفاء الرغبة العميقة في إشاعته وترسيخه”، وأن “الذين يخافون من الكلام عن رأس مقطوع يخافون في الوقت ذاته من أن تظل رؤوسهم عالية، ويفضلون أن تظل أعناقهم محنية”.

ولا جدال في أن التاريخ سيتوقف طويلا أمام مواقف مشاهير المبدعين والمثقفين الكبار، في العالم العربي الذي يمر بلحظات حاسمة، تشكل اختبارا عصيبا للعلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، وبين الأفكار والوقائع.


فهل تتحول السياسة إلى لعنة تحل على مبدع كبير كأدونيس، وتنال من منجزه الشعري الشاهق، وهو القائل أن الإنسانية الكبرى هي الحرية، وأن علو إنسانية الإنسان مشروط بقدرته على الكلام عن أخطائه، وبخاصة الوحشية منها؟! آه من هذه السياسة!!

مقالات من نفس القسم