أحمد عبدالمعطى حجازى.. ما زال في الشعر بقية

البهاء حسين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: البهاء حسين

    حجازي الذي تراه صلباً، عنيداً، واثقاً بنفسه، إلى حد التعالي فيما يرى البعض، روضته المدن والمصادفات، حجازي يغري بالحوار.. بالاختلاف، لأنه، أولاً وأخيراً، أمين وحر يصادق تجربته ويثمن حظه.

شعره هو ما يتوكأ عليه في تسيير اسمه يومياً، رغم تغير الذوق وجريان المياه في النهر، مازال محل اهتمام. لم تنل عشرون عاماً، انقطع خلالها عن القصيدة، من صداه.

إذن لم يعد ساخطاً على “القاهرة”، وإن كان لايزال، فلأسباب مختلفة، ليس منها التجاهل الذي استقبلته به قبل 50عاماً، على العكس أظن أن حجازي يشفق على القاهرة.. لقد انتهت صلاحية احتكارها للحقيقة.

كان في السبعين، حين رايته منذ عامين تقريباً بلا غضون في الوجه او كرمشة في الرقبة، متوثباً في حركاته وطريقة أدائه، حتى للكلام العادي، غير أن أكثر ما يحفزه غريزياً هو أن تقتحمه.. أن تحاول عدم الامتنان لاسمه.

باريس: أظنها منحته رخصة الرضا عن الذات والدور، ففي مصادفه اخرى سعيدة، ذهب اليها حجازي في مهمة صحفية خطط لها أن تستمر بضعة شهور، فإذا بها تتمدد على 17عاماً.

إذن عرف حجازي كيف يختار أماكنه وجبهاته ومواقفه.. مصادفاته إذا أمكن التعبير.

ثم انه قد تناسل في كثيرين، وربما انتظر من شعراء “قصيدة النثر” أن يكونوا “أحفاد حجازي”.. اي في سياقه، مع ذلك سأؤجل سؤاله عن قصيدة النثر أو “الكتابة الناقصة” كما يسميها. سأسأله عن الحنين عن ذلك الطفل “الذي رمته خاطئة، فلم يعره العابرون في الطريق حتى الرثاء” عن الطفولة والشيخوخة والشعر.. فيم يلتقون:

– طبعاً، نحن جميعا نتذكر طفولتنا، ونعتقد دائماً إنها فردوسنا المفقود وهي كذلك، لأن الطفولة هي فترة الأحلام التي تراودنا. الفترة التي نكون فيها محل عطف. مرحلة اكتشاف العالم. ففي كل يوم متعه وفي كل يوم اكتشاف. من هنا لابد ان نحنّ لطفولتنا، لكن للطفل الذي نوهت عنه في سؤالك طفولة مضادة، معاكسة تماماً للطفولة التي أحدثك عنها، لأن “الطفل الذي رمته خاطئة” ضائع في المدينة، وحيد، مستوحش، منفي عن نفسه، خارج من فردوسه المفقود الذي هو “القريه” ملقياً بنفسه في جحيم المدينة الكبيرة، ولذلك يشعر هذا الطفل الذي كتبته في قصيدة “الطريق إلى السيدة”، يشعر وهو في هذا الجحيم، ضائع لايلتفت اليه احد، كأنه طفل غير شرعي، ليس فقط لايلتف اليه احد، ولكن يتبرأ منه الجميع.

هذا الموقف لا أحن اليه طبعاً. وانما أحن إلى طفولتي الحقيقية، أحن إلى مواقف الطفولة. لأن الطفولة ليست عمراً فقط، الطفولة وعي وثقافة. هناك الطفولة الطبيعية، وهناك الطفولة التي هي ثمرة الثقافة. وأنا اقصد بالطفولة هنا.. البراءة والصدق والطيبة التي تجعلنا نتمنى لأنفسنا ولغيرنا الخير، ونعمل من اجل ذلك، بمعنى آخر ان هناك طفولة يمكننا استعادتها من خلال إيماننا بالقيم التي تتحقق في الطفولة.

أما الشيخوخة والطفولة فتلتقي في البعد عن العراك، هناك حكمه.. وعن حكيم لدي الطفل ولدي الشيخ تتمثل في الاكتفاء بعالم محدود، محدود مادياً بالنسبة للشيخ، ولكنه فسيح عاطفياً لأنه عالم الخبرة، العالم الذي يستغني به الإنسان عن العالم المادي حين تعلو به السن. أظن أن الأمر كذلك.

( وشرد مني حجازي، كأنه يحاول استعادة فردوسه، لكنه سرعان ما عاد إلى شيخوخته يفتش فيها عن طفله الغائب.. عن وجه الشبه بينهما )

..  وأظن أن الأطفال ولست متأكداً من ذلك، متسامحون وكذلك الشيوخ. كما أنهما خاليان من الطموح.

* وعقبت مذكراً.. وربما يلتقيان في العدم، فالطفل آت منه بينما الشيخ ذاهب إليه. على كل ماذا عن العلاقة بين الطفولة والشعر؟

– علاقة وثيقة جداً الشعر هو طفولة العالم. هو طفولة الإنسانية، طفولة الوعي الإنساني. الوعي الإنساني في بدايته كان دائما شعراً، ليس معنى ذلك أن الشعر ساذج. لا، ولكن الوعي الأول وعي مركب وشامل ووعي عاطفي انفعالي. يعني تقسيم المعرفة إلى ميادين وفنون.. الخ مسألة تالية، والبشر كانوا جميعاً شعراء. يعني لم يكن الشعر حرفه. البشر جميعاً كانوا شعراء، لأنهم كانوا يرون العالم رؤية شعرية. وفي ذات الوقت حكماء، فلاسفة، ذوو خبرة، وكانوا متدينين. وعيهم الديني كان مرتبطاً بالرؤية الشعرية. الشعر كان طقساً من الطقوس لا فناً منفصلاً عن الحاجة الروحية ولا عن أي فن أخر، لأن الجمال كان واحداً. كان البشر يغنون وينشدون الشعر ويرقصون ويتعبدون بطقس واحد. هكذا كانوا يمارسون الحياة والحب. أعياد الربيع كانت أعياداً لهذا كله. إذن كان الشعر بداية الوعي الإنساني.. طفولته. ثم إن الطفل شعر.. أي طفل، لأنه يرى العالم رؤية شعرية، وهو لا يستطيع أن يستخدم اللغة استخداماً تجريدياً.. تقريرياً. لا يقول مثلاً إن المطر ينزل، لكنه يقول، السماء تبكي.. وهي نفس رؤية الإنسان القديم. كان عندما يرى البرق مثلاً، لم يكن قادراً بالطبع على تفسيره علمياً، إنما كان يرى فيه شرراً يتطاير من أعين الألهه. والشاعر قادر على استعادة طفولته وطفولة العالم بالموهبة، لأن الشاعر اصلاً مؤهل بصورة تكاد تكون طبيعية لأن يرى العالم رؤية شعرية. وهذه العلاقة بين الشعر والطفولة لا تعني أن يقف الشاعر على عتبة “السذاجة” لأن للشاعر رؤية مركبة، ولذلك تجد خبرة الشعر القديم خبرة محدودة قد تدهشنا فيه بكارة الرؤية، ولكن الشعر الحديث يمتعنا بعمق الخبرة فضلاً عن بكارة الرؤية، ما رأيناه بالأمس لا نراه اليوم، ففي كل لحظة أمامنا فرصة للرؤية البكر، إذا حافظنا على قدرتنا على أن نرى الأشياء على هذا النحو.

 * هل كان سفرك إلى باريس منفى اختيارياً، بعد أن انهار عالم جيلك في أعقاب النكسة؟

– لا في الحقيقة، أنا لم أعتبره نفياً أو منفى، لكن رحلتي إلى باريس كانت اختياراً خالصاً، ليس معنى ذلك أني لم أكن أواجه متاعب في مصر قبل السفر، لا..لقد فصلت من عملي طيلة عام 1973، وقبل ذلك واجهت متاعب مختلفة، منعت مثلاُ من السفر، وحدث في عام 1954و1965، أني اعتقلت، والاعتراض على ترشيحي للسفر ضمن وفود.. الخ لكن هذا كله ليس هو السبب الذي دفعني للسفر. فقد كنت أرى أن من الطبيعي أن أواجه هذه المتاعب، ومن الضروري أن اقاومها أنا وغيري ليس بالهرب منها إنما السفر كان فرصة لتلبية حاجة قديمة. من البداية وأنا اشعر بحاجه للاتصال بالثقافة الأوروبية اتصالاً مباشراً.

 * لماذا فرنسا بالذات؟

– أولاً: وهذا سبب موضوعي، لأنني مثقف مصري، والثقافة المصرية الحديثة كلها بدأت بأصول فرنسية، نحن خرجنا من العصور الوسطي إلى رفاعة الطهطاوي.ورفاعة لم يقدم لنا إلا ما تعلمه في فرنسا، واستمرت هذه الصلة بطرق مختلفة من خلال علي مبارك ومحمد عبده ولطفي السيد وطه حسين ومصطفي عبدالرازق ومحمد مندور وإسماعيل صبري وتوفيق الحكيم.

ولا تنس أن الفرنسية كانت لغة أساسية في التعليم خاصة في الكليات النظرية، ونحن نشأنا ونحن نحلم بالحي اللاتيني وبالكلمة المحفورة على قاعدة تمثال دوموسيه.. أن الفن العظيم لا يأتي إلا عبر ألم عظيم، وأمثال هذا الكلام الرومانتيكي كان يحرضنا على شد الرحال إلى هذه النهضة بالذات. الثقافة الانجليزية قدمت لنا الحرفة، التقنيات. الذين أرادوا أن يتعلموا الطب ذهبوا إلى إنجلترا لكن من أراد أن يتعلم القانون والفلسفة والآداب وحقوق الإنسان والديمقراطية.. الخ ذهب إلى فرنسا.. إلى ثقافة الثورة الفرنسية.. التي لا يملكها الانجليز. لديهم بالطبع تراث من الديمقراطية ولكن كان خاصاً بهم، بينما الفرنسيون لم يكتفوا بأن يحققوا لأنفسهم ما حققوه من خلال الثورة، بل خرجوا للعالم. رسالة بونابرت، طبعاً لم يكن يقول انه جاء مستعمراً بل جاء ينشر الحرية، وبالفعل ساعد شعوباً كثيرة على أن تنال حريتها. المهم أن فرنسا بالنسبة لي كانت هي الوطن الروحي الذي جاء منه طه حسين وغيره ممن ذكرت لك.

 * من الملاحظ أن رحلة المراجعة تبدأ بمفكرينا وأدبائنا دائماً من الغرب.أتكلم عن صدمة الحضارة الغربية، هل هي درس لابد منه.

– طبعاً، لا غنى عن الاتصال بالغرب إذا أردنا أن نعرف أنفسنا. أما الذين يعتقدون أن الاتصال بالغرب تخل عن الذات، فهؤلاء خارج التاريخ، أنت لا تستطيع أن تعرف ذلك إلا عن طريق التحديق في غيرك، خاصة إذا كان الغير اسبق منك. بقدر ما تملك أنت من رغبة وسعي لاكتشاف الحقيقة، سوف تعرف ليس فقط الآخر، ولكن سوف تعرف نفسك بالاحتكاك بالآخر. وهذه المعرفة قائمة اصلاً على وحدة الخبرة البشرية.

يعني ليس من الضروري لكي أكون احمد عبدالمعطي حجازي، أن اكون مختلفاً 100% عن لوي ماسينيون مثلاً أو عن جاك بيرك، أو عن بودلير. لا، أنا ألتقي مع هؤلاء ولكني أظل أنا احمد عبدالمعطي حجازي ويظل فلان فلاناً وهكذا. كيف عرف المصريون أنهم مصريون وليسوا عثمانيين. عن طريق بونابرت “الحملة الفرنسية وحجر رشيد وقراءة النصوص المصرية القديمة، كان المصريون يظنون أنهم مجرد رعية عثمانية، وهذه الرعية يحكمها شركسي أو تركي.. أي أحد لا يهم، الشرط أن يكون مسلماً، هذا هو الشرط الوحيد، يأتي غازياً أو مستعمراً، لا يهم يعني سليم الأول، هو غاز محتل، لكن لم يعامله المصريون على أنه غاز محتل، بل كانوا يعتقدون أن من حق هذا العثماني أن يحكمهم. أن يدخل بلادهم. إذن نحن عرفنا أنفسنا من خلال الآخر. طبعاً أحيانا يكون اللقاء بالآخر عنيفاً. يعني لم يأت نابليون معه بالعلماء لكي يثقفونا ويعلمونا أننا مصريون، لا، جاءوا عن طريق الجيش، وقد ثار المصريون في وجوههم وحاربوهم ومن حقهم ذلك، لكننا، بالرغم من كل شيء، استفدنا منهم، وعلينا أن نقول هذا الكلام عن الجميع.

 * ما سبب انصرافك منذ آخر ديوان لك “أشجار الأسمنت” 1987عن الشعر إلى المقال؟

– هناك ما لايمكن أن يتسع له المقال. لأنه محتاج إلى تفاصيل وتحليل وإلى منطق.. محتاج إلى الدخول في جدل كما فعلنا نحن قبل قليل، هذا لاتنفع له القصيدة، القصيدة تعمق مشاعر وانفعالات. ثم ان القصيدة بحد ذاتها قيمة. وكتابة الشعر بحد ذاتها قيمة بصرف النظر عما يقوله. ليس معني ذلك أن المقالة تغني عن القصيدة. والعكس صحيح ثم لا تنس أنني أعمل بالصحافة منذ عام 1956، لكن كانت على هامش الشعر. الآن وجدت نفسي في مركز الكتابة الفكرية. وبعد صدور “أشجار الاسمنت” كتبت بعض القصائد ولكنها لاتكفي لديوان.

 * إذن ما زال في الشعر بقية؟

– ما زال في الشعر بقايا، عندي مايقرب من عشرين قصيدة غير مكتملة.واتمني أن يكون هذا العام آخر عام لي في الصحافة. للأسف الشديد أني لم أعط مسألة التقاعد عناية كافية، لأني قضيت حياتي بالطول والعرض دون النظر إلى ما تتطلبه مراحل معينة في السن. لكن هذا ماحدث. وأنا محتاج إلى، على الاقل، إن لم أقطع صلتي بالصحافة، أن أكف عن العلاقة المنتظمة.

 * ماذا أعطتك الصحافة؟

– الكثير طبعاً، أعطتني فرصة الاتصال المنتظم بالرأي العام وبالمثقفين والأدباء.ونظمت لي تفكيري، وساعدتني على أن أدقق فيما أقول.

 * لكنها جرتك إلى المحاكم؟

الصحافة ليست هي المسئولة عن الجرجرة إلى المحاكم. المسئول هو التخلف. عزائي أن كثيرين واجهوا هذه المحنة، وأحياناً بصورة عنيفة جداً، انتهت أحياناً باغتيالات. إذن انا محظوظ لأن الأمر اقتصر على الحجز على المنقولات. نجيب محفوظ لم تكن له علاقه بالصحافة، وإنما لقي ما لقيه لأنه روائي. هذا هو الذي أدي بي إلى الانتظام في كتابة المقال. لأني مقاتل ومستعد للتضحية، وهذه المرة كانت التضحية بالقصيدة وهذا، كما قلت لك، أمر مؤسف، لأن خلال عشرين عاماً كان يمكن أن أخرج على الاقل مجموعتين شعريتين وربما حققت حلمي في الكتابة للمسرح الشعري. كنت قادراً على صنع ذلك، لكنه لم يحدث.

 * أهى مراجعة أم ندم؟

– هي مراجعة لا تخلو من الندم. لكن هذا الندم ثمن على أن أدفعه، ولو عاد بي العمر إلى الوراء، مع ذلك، كنت سأختار نفس الطريق، الكتابة في الصحافة.

 * هل اطمئنانك إلى شعرك القديم كان وراء هذا الاختيار، وبما أنك غبت مدة طويلة عن مصر، ربما شعرت أنك غبت كثيراً عن قارئ أردت استعادته بالصحافة؟

– هذا صحيح، كان لدي احساس بانني موجود شعرياً، حتى دون أن أصدر دواوين جديدة. كان لدي اطمئنان إلى قدرة ما قدمته على أن يظل مجيباً على أسئلة الحاضر.. الأسئلة الجمالية والفكرية.

 * وماذا عن أسئلة المستقبل.. أتساءل عما يبقي منك؟

– الشعر لايجيب فقط عن أسئلة الحاضر، الشعر يجيب على أسئلة الانسان، قد يتاثر الشعر بالحاضر، لكنه لا يقتصر عليه، بل يتجاوزه. الشعر ليس خبراً وليس تعليقاً على حادثة وليس وصفاً. أما ما يبقي مني فهذا سؤال يوجه للنقاد، ومع ذلك اعتقد أن ما كتبته يستطيع أيضا أن يجيب على هذا السؤال. أنت استشهدت للتو بمقطع من قصيدة كتبتها عام 1956″الطريق إلى السيدة” وردود الفعل التي مازلت أتلقاها، حتى من الأجانب، تدلني على أن شعري لا يخاطب مجتمعاً بالذات ولا زمناً بالذات، وهذا هو الحال مع غيري من الشعراء. أعتقد أن بعض قصائدي سوف يبقي. وأترك الحكم في النهاية للزمن والنقاد والقراء، فدعنا لا نتورط في مسائل لايمكن حسمها، هناك شعراء لا نعرفهم وربما رحلوا قبل أن نعرفهم ويصح جداً أن نكتشفهم بعد قرن أو قرنين، حدث هذا في العالم كله، وفي مختلف العصور، أن نكتشف القيمة بعد فترة، وأحياناً العكس. يعني الذين يمكن أن تهلل لهم أجهزة الاعلام وحتى الرأي العام، يمكن أن يهلل للنصابين لأن الرأي العام ليس معصوما، بل أحيانا يضحك عليه والثقافة، للأسف، تلعب هذا الدور. ما أكثر المرتزقة من المثقفين والإعلاميين، ما أكثر الكذابين الآن الذين يزيفون وعي الناس، يحدث هذا ثم نكتشف الحقيقة لكننا نعجز عن التصريح بها. ربما يتسع الغد للتصريح وهكذا. إذن علينا أن نكون حذرين. ألا نتورط في أحكام نهائية، مثل هذه الأحكام لا وجود لها. مثلاً هزيمة 1967، لقد أدت إلى أن تشعر بعض التيارات الشعرية بأنها انتصرت، لأنها كانت اتخذت موقفاً مما سبق الهزيمة، فاعتبرت الهزيمة انتصاراً لها، ومن المدهش أن الرأي العام صدق هذا. أشعار نزار قباني بعد 67التي يهجو فيها الأوضاع العربية هي من أردأ أشعاره، لكنها داعبت الحاجة إلى ما يجرح، وكانت لدى الناس رغبة في أن يذلوا، إذا جاز التعبير، لأنهم يشعرون بالألم دون أن يصرحوا، هناك من يلتذ بالتعذيب. المعذِب والمعذَب. الآن في مصر، التي كانت قادرة على أن تصون الجوهر، الآن مصر كلها عاجزة عن التمييز البسيط بين الزائف والحقيقي. المصريون الذين كانوا يسمعون أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان، استمع إلى مطربيهم الأن. المصريون الذين قدموا البارودي وشوقي وحافظ وعلي محمود طه وناجي وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل. انظر الآن إلى شعرائهم، طبعاً هناك شعراء حقيقيون ولكن أظن أن الزائفين أكثر.

 * إذن نضع شعبان عبدالرحيم وقصيدة النثر في سلة واحدة؟

– لا..لا أتحدث الآن عن قصيدة النثر، لكن أتحدث عن قصيدة النثر المزيفة وقصيدة الوزن المزيفة؟

 * على ذكر “قصيدة النثر” هل ما زالت “كتابة ناقصة” كما تسميها.ألا تستلفت نظرك في هذا التيار أصوات موهوبة، ثم هل الوزن وحده يخلق شعراً من العدم؟

– لا الوزن ولا عدمه يخلقان شعراً من العدم، لكن الوزن يساعد على خلق الشعر أكثر من عدم وجوده،والدليل هو أن البشر جميعاً إلى اليوم مازالوا يتعاطون القصيدة الموزونة. هذا هو السائد، الوزن قيمة مضافة للغة، ولغة الشعر تحتاج إلى قيم مضافه حتى لاتكون لغة حياة يومية، لغة عادية.الشعر لغة خاصة، لغة اخرى، يحتاج الشاعر إلى أن يغير لغته حتى يقبض على الشعر، اللغة شبكة نصطاد بها، فمن الضروري أن تكون هذه الشبكة مختلفة حتى لا تصطاد تفا هات، مع ذلك أنا اشهد أن في قصيدة النثر نماذج جيدة جداً، وأنا أقرؤها باستمتاع.

 * مثل من؟.

– بصرف النظر عن التسميات، أستطيع أن أسمي، لكن ليس من الضروري ذلك.وحين أنشر قصيدة النثر في مجلة “إبداع” أختار من هذه النماذج.لكن هذا لا يمنعني من التصريح بأن الشعر محتاج إلى الوزن.

 * رصدت في أحد مقالاتك أوجه الشبه بينك وبين العقاد، أليس من بينها التراجع عن التجديد؟

– لا، السؤال بهذه الصورة غير صحيح. أولاً.. العقاد لم يتراجع أصلاً عن التجديد،كل ما هنالك أنه رأى التجديد في تلك الصورة التي قدمها ودافع عنها، لأن التجديد بالنسبة له كان خروجاً، كان عودة للأصل في نظره، ولذلك كان متحمساً للبارودي على حساب أحمد شوقي، العقاد لم يكن يطلب شيئاً جديداً في الشعر، بالعكس طالب بالعودة إلى ماكان، وبما أن القصيدة في نظره حتى القصيدة الجاهلية، كانت تعبيراً عن الشخصية، لذا طالب بالعودة إلى الشخصية، كان يرفض شعر المناسبات الشائع في ديوان شوقي وحافظ، لذلك كان البارودي أقرب له، لأن البارودي لم يمدح أحدا، كان دائم الحديث عن نفسه، أما المناسبات فكانت قليلة الحضور في شعره. إذن لم يتراجع العقاد، بل طالب بشعر الذات.

 * أسألك وفي ذهني إحالة العقاد شعر صلاح عبدالصبور إلى لجنة النثر؟

– طبعاً لأنه لم يستطع قبول هذا الشعر، كان عنده حق، نحن ثرنا، صنعنا ثورة في الشعر العربي، وأعتقد أن الثورة في هذه الحدود مقبولة.

 * هل لتلك الثورة حدود، لماذا تحللون الثورة لأنفسكم وتحرمونها على غيركم؟ أليس من حق هذا الجيل أن يثور على طريقته.

– نعم للثورة حدود، ومن حق هذا الجيل أن يثور، وفي النهاية نحن نحتكم للناس. جيلي بمجرد ظهوره استتب وضعه.. بعد سنة أو سنتين، لكن قصيدة النثر تكتب منذ 20عاماً أو يزيد ولم يستتب وضعها. ما معنى ذلك.

 * أنت قلت إن الرأي العام من السهل تضليله؟

– على الاقل، الرأي العام المثقف، قراء القصيدة، مقياس قد لا يكون المقياس الوحيد، لكنه مقياس أساس.

 * هذا يأخذنا إلى المشهد الشعري، كيف تراه؟

– أرى نشاطاً شعرياً ولكن هذا النشاط محروم من متابعة نقدية حقيقية، ماذا تعني المتابعة الحقيقية؟ المتابعة تختلف عما ينشر في هذه الأيام، لأن ما ينشر مقصود به تجميل وجوه الذين يكتبون النقد أكثر منه نقداً حقيقياً، لأن النقد الحقيقي عليه أن يساعد القارئ المتذوق على فهم القصيدة وتذوقها، أن يضع يده على ما فيها من فن. بدون ذلك، لايمكن للقارئ أن يتذوق. القصيدة لا تقدم للقارئ لكي تفهم، أولكي يلم بموضوعها، هذا كلام فارغ. أمتع من هذا أن اقرأ حادثة عن السيدة التي أكلت ذراع زوجها مثلاً. القصيدة متعة قبل كل شيء. يجب أن أتذوقها. والنقد الذي يقدم هذه الأيام لا يساعد على ذلك، وأحيانا القصيدة نفسها لا تساعد على هذا. لكن، بلا شك، هناك شعر يجب ان يقدم، لكنه لا يقدم.

ثانياً: على الناقد أن يساعد الشاعر، لأن الشاعر، كما هو معروف، ليس عاجزاً على أن ينقد نفسه، الشاعر في الحقيقة هو أول ناقد لنفسه، وهو أفضل ناقد لنفسه، والدليل على ذلك أنه كتب القصيدة، بمعنى أنه أثبت فيها وحذف منها.. هذا كله نقد. يصنع الشاعر كل هذا بنوع من السليقة. وواجب الناقد هنا أن يجعل الشاعر يعي ما يفعل. أن يحول سليقة الشاعر إلى وعي.

ثم هناك حلقة غائبة في المشهد، هي المنبر الذي يستطيع فيه الشاعر أن ينشر قصيدة، والناقد أن يكتب نقده، والقارئ الذي يستقبل هذا وذاك. هذا كله ساقط. الساحات المتاحة كذابة مزيفة، تزيف على الناس القيمة، والنقاد يترجمون أكثر مما يؤلفون، وهم أنفسهم عاجزون عن تذوق القصيدة، يصورونها كما تصورها المطبعة. هذا ما يفعله الناقد الآن.. يقدم للقارئ نسخة من القصيدة. أريد أن أقول إن المشهد الشعري ليس بما يكتبه الشاعر فقط، هو ما يكتبه الشاعر، وهو ما يكتبه الناقد، وهو ما يتلقاه القارئ، وهو ما تنشره الصحف. وهذه العناصر لا يعمل كل منها بمعزل عن الآخر. ولكنها تعمل متعاونة، وهنا يحدث التغيير.هكذا تصبح هناك حركة شعرية.

 * بماذا تسمي القرن العشرين؟

– قرن الاحلام الكبرى والكوارث الكبرى.

 * هل توافقني الرأي على أن الشعر يظل في نهاية المطاف غناءً مهما أمعن في التركيب والبناء والرمز….. الخ.

– أوافقك، ولكن كون الشعر غناء، لايعني أن يكف عن أن يكون تفكيراً وتركيباً وبناءً.

 * الغناء..أحد مفاتيح شعرك. مما جعل رؤيتك الشعرية، فيما يرى البعض، محلك سر. ثم هل للغنائية وظيفة أخرى في شعرك غير الإفضاء؟

– ليس فقط الافضاء بالطبع، ولكن المخاطبة والانبعاث وصنع حالة. ثم إن الغنائية ليست تهمة. أنا أفهم الغناء بمعنى شامل، بمعنى أكبر من أن يكون إفضاء أو حديثاً عن النفس. الغناء أيضا انبعاث للآخرين. الغناء هو ما يصنعه الساحر الهندي لكي يخرج الأفعى.

أنا كذلك ابتعث. أصنع حالة بالغناء. وهكذا الأمر عند الشعراء الآخرين وليس عندي فحسب. وهذه الحالة توحد. تخلق وحدة. تحول الجميع إلى واحد وهم جميع، أي يظلون متعددين، ولكنهم في حالة وحدة. الشاعر العظيم قادر دائماً على أن يصنع من الجميع واحداً. وهذا بالضبط هو ما يصنعه المغني، هذا هو الوجد، وهي درجة أعلى من الطرب. عندما تصل إليها تصبح قريباً من الله. من الكل. وهذا ما نطلبه من الشعر. أو في الشعر. يجب ان تكون لدى الشاعر هذه القدرة الهائلة على توحيدنا بالغناء، ليس فقط مع الطبيعة، وإنما مع الكون.

 *  ما الذي أضافته التجارب الشعرية اللاحقة على جيلك لرصيد الشعر العربي؟

– الكثير في الواقع. كل شاعر حقيقي إضافة. ولكنك تستطيع أن تتحدث أيضاً عن إضافات جيل. مثلاً اللغة التي يكتب بها الأن أمثال حسن طلب، وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان إضافة. لاشك في هذا. اللغة التي يجربها كذلك الذين يكتبون قصيدة النثر، يمكن أن تكون إضافة. بعض النماذج أنا اعتبرها إضافة. بصرف النظر عن تقديري الشخصي، عن شروط كتابة القصيدة الجيدة، في النهاية هناك نتائج. هناك لغة شعرية.

 * أخيراً.. هل التطور التقني في الشعر يعنى بالضرورة تطوراً في الجوهر الشعر؟.

– طبعاً. لأن الشعر ليس إلا لغة، لغة بالذات. كل تطور في هذه اللغة لابد أن تكون له علاقة بالجوهر.

 

مقالات من نفس القسم