جماليات الحكي بعيون غارسيا ماركيز وطارق إمام

طارق إمام وماركيز
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد القادر كعبان

كثيرا ما تستهوينا قراءة القصص العالمية والعربية معا، ليس لأجل مضامينها فقط بل بالشكل أيضا الذي يقدم لنا ذلك المضمون، فهو مجموع ما يقدمه لنا الراوي من وسائل وحيل سردية، وهذا ما نلمسه في جماليات الحكي بعيون أديب نوبل الكولمبي جابرييل غارسيا ماركيز والأديب المصري طارق إمام.

دائما ما يشير أهل النقد إلى أن القول السردي أو الحكائي يكتسب فنية ديمقراطية أي بانفتاح موقع الراوي على أصوات الشخصيات، بما فيها صوت السامع الضمني، فيترك لهم حرية التعبير الخاص بهم ويقدم لنا منطوقاتهم المختلفة والمتفاوتة والمتناقضة أيضا.

يمكننا القول إذن إن الراوي هو ذلك الشخص الذي يسرد الحكاية وهي من اختراع الكاتب، حتى أن هذا الأخير هو من يختار له موقعا يقربه من الحدث والشخصيات، وهذا ما نلمسه إجمالا في قصص العالمي غارسيا ماركيز ابن أراكاتاكا والمبدع العربي ابن الإسكندرية طارق إمام.

وسنحاول ههنا، الوقوف أمام أربع قصص كنماذج، اثنتين لماركيز واثنين لإمام تتقارب فيها الحكايات بشكل أو بآخر، رغم أن طرائق السرد مختلفة ومتنوعة أين نلمس تحرك عين الراوي لتقدم لنا الشخصيات والأحداث بشكل مختلف.

“حكاية امرأة ديسمبر” قصة لطارق إمام تحكي لنا عن امرأة عجوز فقيرة تسكن أطراف المدينة تخرج في شهر ديسمبر من كل عام ساعية منها لجمع كل ما تجده في شوارع المدينة من بقايا، وكأنها تخلص ذلك المكان من ذكريات ثقيلة: (رغم أنها تعيش معهم منذ سنين طويلة جدا، ويعرفها الأجداد عن أجداد أجدادهم، فإن أحدا لم يكن يعرف شيئا تقريبا عن تلك المرأة الغريبة التي تسكن بيتا فقيرا في أطراف المدينة ولا تغادره أبدا إلا مع أول خيط في فجر أول أيام ديسمبر، ثم تعود إليه بجوالها الثقيل المتخم بالذكريات مع أول خيط في فجر العام الجديد.) ص 98-99.

بطلة قصة “المرأة التي تصل في السادسة” لغارسيا ماركيز لا تخالف موعدها هي الأخرى كبطلة قصة إمام، فخطوتها تدفعها بثبات  نحو ذلك المطعم الذي اعتادت على دخوله يوميا لتجد حبيبها (خوسيه الرجل البدين) في انتظارها ليتبادلا أطراف الحديث معا: (بلغ زحام المحادثة حدا مثيرا. كانت المرأة تتكلم بصوت خفيض، ناعم، فتان. ووجهها يكاد يلتصق بالوجه المعافى والمسالم للرجل الذي يظل يقف بلا حراك، كالمسحور ببخار الكلمات.) ص 33.   

أما في “حكاية الجارية والعصا الملعونة” فالأديب طارق إمام  يحكي لنا قصة تلك العجوز التي ماتت، والتي كانت لها جارية ظهرت لها كرامات في أيامها الأخيرة لم تخطر على بال سكان المدينة: : (شيء غريب صار يحدث في المدينة، حتى أن لون الهواء تغير وصار شكل السماء غريبا بينما كانت للتراب رائحة غير مسبوقة: رائحة الموت الذي له قوة الحياة.) ص 55. 

ماركيز بدوره يحكي لنا في قصته الموسومة “ورود اصطناعية” عن حكمة العجوز الضريرة التي تبصر ما لا يبصره المبصرون من حولها، كما نقرأ ذلك في المقطع الآتي: (ظلت العمياء ثابتة دون حراك بانتظار أن تغلق مينا باب غرفة النوم. ثم مشت بعد ذلك إلى أقصى الشرفة. وانحنت متلمسة إلى أن وجدت على الأرض الفنجان الذي لم يمس.) ص 43. 

لعل ما يميز القصص التي اخترناها نموذجا هو استنادها في المطلق على الخيال العجائبي الذي يستدرج المتلقي إلى عالم يلامس الواقع بل ويشبهه إلى حد ما في كل شيء، عالم رتيب هادئ يدعو إلى الاسترخاء وبغتة تنتصب أمامه حادثة لا تفسير لها تمزق عالمه المطمئن ككرامات الجارية ولعنة عصاها السحرية، وكذلك اختفاء وعودة عجوز ديسمبر المخيفة في قصص طارق إمام. غارسيا ماركيز هو الآخر ينسج خيالا من قصص الواقع كما حدث مع امرأة المطعم والعجوز الضريرة التي ترى ما لا يراه الناس من حولهم.

لربما العجائبي في قصص إمام يرتكز على إثارة الرعب وينتهي في غالب الأحيان بنهاية مؤساوية كما نقرأة إجمالا في قصص مجموعته “مدينة الحوائط اللانهائية”، ولنا هنا كمثال قصة  “حكاية امرأة ديسمبر”، أما العجائبي بالنسبة لغارسيا ماركيز يمثل الجانب الحلمي من الخيال في أغلب قصصه ” ولنا هنا كمثال قصة “المرأة التي تصل في السادسة”.

يهتم كل من ماركيز وإمام بأبعاد الشخصيات التي تشكل المحور الأساسي في قصصهما، أين نجد اهتمام كل منهما بالبعد الجسمي حيث يرسم كل واحد منهما ملامح شخصيته من حيث الطول والقصر والبدانة ولون البشرة، وهذا ما نجده في قصة ماركيز مثلا من وصف لصفات جسم البطلين في قصة “المرأة التي تصل في السادسة” حيث يصف تلك المرأة بالجمال الأخاذ: (رأى خوسيه شعر المرأة الغزير المطلي بفازلين سميك ورخيص. رأى كتفها العاري فوق حمالة صدرها المزينة برسوم أزهار. ورأى منبت الثدي الغسقي، عندما رفعت المرأة رأسها، والسيجارة مشتعلة بين شفتيها.) ص 31.

ويصف ماركيز أيضا شخصية صاحب المطعم بالبدانة: (إنه الشيء نفسه الذي يقوم به خوسيه كلما دخل أحد إلى المطعم. حتى مع المرأة التي توصل معها إلى نوع من الألفة، كان صاحب المطعم البدين متورد الوجه يقدم تمثيليته اليومية كرجل نشيط.) ص 31. 

كما نجد طارق إمام هو الآخر يصف مثلا بطلته في”حكاية امرأة ديسمبر” وهي التي تعودت أن تجوب طرقات المدينة حافية القدمين كالآتي: (وجهها أزرق، وجسدها ضئيل نحيل، ويخمن الجميع أنها شبح شتوي يرتوي بالمطر ويتغذى على أوراق الشجر الذابلة.) ص 99. 

كما يهتم كلاهما بتصوير الشخصية من خلال بعدها الاجتماعي وميولها والوسط الذي تعيش فيه، ففي قصة ماركيز ذكر مثلا مكانة بطلة “ورود اصطناعية” وهي فتاة من أسرة متدينة تهتم عائلتها بزيارتها للكنيسة وتصمم على حضورها القداس بانتظام: (وعندما دوت دقة الناقوس الثالثة من أجل القداس، تناولت مينا الكمين من الموقد، وكانا لا يزالان رطبين. ولكنها ارتدتهما. فالأب آنخل لن يقدم لها خبز القربان وهي في فستان يكشف عن الكتفين.) ص 43.

كما نجد ذلك في شخصيات قصص طارق إمام أيضا كمثال هنا بطلة “حكاية الجارية والعصا الملعونة”، التي كانت بدورها خادمة قبل وفاتها لتصبح بعد ذلك صاحبة الكرامات في تلك المدينة: (المرأة الميتة تحت قبة الضريح الذي حل مكان جبل الكحل القديم، كانت في حياتها جارية…) ص 55.

كما لا يغفل كل من إمام وماركيز على تصوير البعد النفسي لكل شخصية من حيث طبائعها وسلوكها وعواطفها،  ففي قصة “حكاية امرأة ديسمبر” للأديب المصري نجد البطلة تستلم أمام دموع الناس وتحتضنها: (البعض لم يكونوا يملكون سوى الدموع، هنا كانت تفتح كفيها النحيلتين المعروقتين على اتساعهما، لتأخذ الدموع وتسكبها في جوالها.) ص 98.

أما البعد النفسي من خلال قصة “ورود اصطناعية” للكولومبي ماركيز، نجده يتمحور من خلال عصبية البطلة التي دفعتها لعدم الذهاب للكنيسة وحضور قداس الجمعة: (لدى عودتها من المرحاض، سكبت مينا لنفسها فنجان قهوة وجلست مستندة إلى حافة الباب المطلية بالكلس بجانب العمياء. لكنها لم تستطع شرب القهوة.) ص 43.

ما نلاحظه هو أن الحوار جاء تناوبيا في قصص ماركيز وهو أكثر انتشارا في الأعمال القصصية في العموم، مما جعله عاملا أساسيا في دفع العناصر السردية إلى الأمام كما أنه يرتبط ارتباطا بالعمل الداخلي للعمل القصصي.

ربما يميل طارق في قصصه إلى الحوار الداخلي وكأن شخصياته تحبذ المناجاة النفسية التي تجعل الحوار بين الشخصية وذاتها وكأنها تتكلم وآخر ينصت في لحظة ما من لحظات الشكل السردي.

المكان دعامة من دعامات الحكي في القصة، إذ يساعد على التركيز والإدراك العقلي لكل تلك التفاصيل الصغيرة التي ينقلها الكاتب وقد يكون مفتوحا أو مغلقا.

كما نعلم أن الشخصيات تلعب دورا مهما في تكوين المكان وبنائه، ويكون ذلك عن طريق حركة الشخصيات التي تبث في المكان الحيوية، كما تزيده لمسة فنية تقترب من الواقع، وتبعده من الديكور المتخيل، لأن حركة الشخصيات وتنقلها عبر الأمكنة ينعكس على الشخصيات وسلوكياتها ومشاعرها.

أماكن طارق إمام مفتوحة كالمدينة أين نجدها جاءت محملة بالحياة والموت والمودة والخوف، ففي قصة “حكاية امرأة ديسمبر” مثلا نرى البطلة تجوب الشوارع والطرقات لتلم كل تلك الذكريات: (كان الناس ينظرون إليها، بينما تخلص شوارعهم من بقايا العام، كمجنونة، ولكنهم أيضا كانوا يشكرونها في سرهم لأن المدينة، بمجيء أول فجر في العام الجديد، تكون قد تخلصت تماما من كل ذكرياتها الثقيلة، وصارت مهيأة لاستقبال عام جديد كورقة بيضاء لم تلوثها نقطة حبر.) ص 97.

أما في قصص ماركيز فنجد أنفسنا في أماكن مغلقة، وهذه الأخيرة ظاهرة مكانية مجتمعية تؤثر في الشخوص ويؤثرون فيها بما يملكون من عادات اجتماعية وأخلاقية، وهنا كمثال في قصة “ورود اصطناعية” نجد أنفسنا في بيت أسري وما يمكن أن نقول عنه أنه سوى مكان أليف مغلق: (بينما هي تتحرك بالتلمس في عتمة الفجر، ارتدت مينا ثوبها الذي بلا كمين، والذي علقته في الليلة الفائتة بجوار السرير، وقلبت صندوق الملابس بحثا عن الكمين المنفصلين. ثم بحثت عنهما على مسامير الجدران وخلف الأبواب، محاولة عدم إحداث ضجة كي لا توقظ جدتها العمياء التي تنام في الحجرة نفسها.) ص 43.

انطلقت أحداث قصة طارق “حكاية امرأة ديسمبر” في بدايتها بالفصل السنوي، في الزمن الحاضر والذي هو فصل الشتاء، حيث عمد القاص إلى نسج الحدث مع المظهر الطبيعي محاولا خلق انسجام بين ذلك المظهر وبين حيثيات الحدث، واستدل على ذلك في قوله على لسان الرواي: (لم تكن المرأة العجوز تغادر بيتها إلا في ديسمبر. تتحرك بين طرقات وشوارع المدينة بخفة، تمشي حافية، بقدميها المتشققتين، حتى يصير التراب أخا لها.) ص 97.  

ويواصل الرواي سرده بالحديث عن حالة العجوز وسكان المدينة وعن الأعمال التي كانت تقوم بها، واصفا حالة السكان وخوفهم الشديد منها طوال شهر ديسمبر.

أما في قصة طارق “حكاية الجارية والعصا الملعونة”،  يواصل الراوي في سرده للأحداث مرهونا بالزمن الحاضر ثم يعود بنا إلى أحداث سابقة مستخدما تقنية الفلاش باك، حيث نشاركه ما حدث للسكان مع تلك المرأة المبروكة: (بعد إقامة الضريح بلحظات، تحركت العصا من مكانها فوق القبة، وبدأت تتطاير في هواء المدينة تاركة خلفها رائحة غريبة تشبه عطرا عتيقا.) ص 58.  

يتابع الرواي سرد الأحداث في قصص ماركيز بحيث تبقى خطية الزمن، تسير على الوتيرة نفسها، في الحديث عن حكاية المرأة التي تصل في السادسة، وفيها وصف لحالتها اليومية عند ذهابها لذلك المطعم لتتبادل أطراف الحديث مع صاحبه وهذا ما نقرأه كالآتي: (لم يكن هناك أحد في مطعم خوسيه في تلك الساعة. لقد دقت الساعة السادسة للتو، والرجل يعرف أن الزبائن المعهودين لا يبدؤون المجيء إلا في الساعة السادسة والنصف. وقد كانت الزبونة بالغة المحافظة والانتظام في موعدها، فلم تكد الساعة تنتهي دقتها السادسة حتى دخلت امرأة، مثلما تفعل كل يوم في هذه الساعة…) ص 31.  

ويبقى الزمن يسير على نفس الوتيرة نحو الأمام في “ورود اصطناعية” ليتابع الراوي سرده الذي يتميز بتصوير الحدث وكأننا نعايشه لحظة بلحظة مع كاتب القصة ماركيز: (كانت الشمس تبعث الحر باكرا. وقبل السابعة أقامت مينا ورشة ورودها الاصطناعية في الصالة: سلة ممتلئة بالبتلات والأسلاك، وصندوق من ورق مطاطي، ومقصين، وبكرة خيط، وعلبة صمغ. بعد قليل جاءت ترينيداد حاملة تحت إبطها علبة كرتون، لتسألها عن سبب عدم ذهابها إلى القداس) ص 44.  

في الختام، يمكننا القول أن صورة المرأة العجيبة في النماذج التي اخترناها كمثال من قصص الكولومبي غارسيا ماركيز و المصري طارق إمام إنما تدل على عمق وجماليات الحكي لكلا الأديبين في وقوفهما على زمن ثقافي وحضاري، بنظرة تأملية تحدد مكانتها وسط مجتمع بعينه رسمها كل من ماركيز وإمام كحكايات عجيبة في لوحات، لا تخلو من بقايا معتقدات تصل في تاريخها إلى أقدم العصور وجاءت فرصة كل حكاية للظهور مجددا بشكل لا يخلو من التجريب والفنية الجمالية.

……………………..

المصدر

(1) طارق إمام: قصص مدينة الحوائط اللانهائية ، الدار المصرية اللبنانية،2018.

(2) غابرييل غارسيا ماركيز: جنازة الأم الكبيرة، دار أمريكا الجنوبية، بوينوس آيرس، 2001 (باللغة الاسبانية).

(3) غابرييل غارسيا ماركيز: عينا كلب أزرق ، دار أمريكا الجنوبية، بوينوس آيرس،  1974 (باللغة الاسبانية).

…………..

* كاتب وناقد جزائري

 

مقالات من نفس القسم