لا أحسبُ أن بوسعنا تسجيل أحلامنا بالكتابة، من ناحية لأن لها لغة أخرى غير لغتنا التي لا يتاح فيها لكل كلمة إلا معانٍ معدودة ولكل صورة إلا مفردات معدودة للدلالة عليها، أمّا لغة الحلم فكل صورة فيها متاهة من الدلالات والمفردات، وكل مفردة مجرد إشارة تحيل إلى سلسلة لانهائية من الإشارات. ومن ناحية أخرى عملية فنحن لا نتذكر غالباً إلا قشرتها الخارجية، الدراما شبه المكتملة التي نتوهم رؤيتها ونحن بين اليقظة والمنام، فنثبت الحلم بداخلها مطمئنين. ومع ذلك فما بين أرض الحلم، بلا زمنيته وانفتاحه على التأويل واعتماده على الصور وبين أرض الكتابة تمتدّ خيوط لا تعد ولا تنتهي. هكذا يمكننا قراءة مغامرة محمود عبد الوهاب السردية الجديدة، التي يتحرر فيها من قبضة واقع يومي طالما اتكأ عليه في تكوين قصصه القصيرة في مجموعتيه السابقتين، معتمداً المفارقة الشفيقة وسط تفاصيل المشهد العابر والذكريات المراوغة. لم يبتعد عبد الوهّاب هنا أيضاً عن ملعبه الأثير، المفارقة والعلاقات الإنسانية الحميمة ومشاهد الحياة اليومية الموصوفة بمحبة واعتبار، ولكنه يقاربها من زاوية مختلفة تماماً، متخلياً عن المنطق الحاكم وعن النسيج المفترض للزمن والمكان، مستسلماً في ذلك كله لآلية الحلم في إعادة إنتاجها لصور الواقع، واللعب بها ومعها، وفضها لنسيج الزمن والمكان بضربة مثل لمح البصر.
قسّم محمود عبد الوهّاب أحلامه إلى خمسة أقسام أساسية تتفاوت طولاً وعدداً، هي الفترة الانتقالية، الأصدقاء، الزملاء، النساء، ثم العائلة. ومن الواضح أن كل قسم يخصّ دائرة بعينها من دوائر حياة راوينا الذي يُمكن تلمّس ملامح ثابتة له عبر صفحات المتتالية القصصية، بذكريات وتاريخ وميول محددة القسمات. التداخل فيما بين تلك الدوائر أيضاً لم يكن نادراً، فشبكة الخيوط المعقدة التي يشكّلها الحلم كثيراً ما تتجاوز هذه الفكرة المبسطة في تصنيف دوائرنا الحياتية بداخل خانات منفصلة. يحيلنا عنوان الفترة الانتقالية بطبيعة الحال إلى الأحداث السياسية التي مازلنانطفو مع تيارها حتى الآن في مصر، وكثير من أحلام هذا القسم بها إشارات واضحة إلى ثورة يناير بأجواء يغلب عليها الطابع الكابوسي، وهي هنا لا تزعم تسجيلاً أو توثيقاً لأحداث جسامٍ بقدر ما تخطف ملمحاً حلمياً من هنا أو هناك، لمجرد الاشتباك الفني والجمالي باللحظة الراهنة، معانقة الحاضر في المنام، دون فلسفة أو كلام كبير. غير أن الفترة الانتقالية ربما توحي في هذا الجزء كذلك بفترة خاصة من حياة الراوي، ينتقل فيها من سن إلى سن، ومن حيز إلى آخر، ولعلنا سنجد الكثير من المفاجآت إذا ما تتبعنا عبر هذه النصوص العربات والسيارات ووسائل الانتقال والمواصلات التي تعج بها القصص، والتي تختفي أو تُسرق أو تعطب أو ترفض الحركة ببساطة، حتى الحذاء قد يشكّل أحياناً رغبة غير متحققة في الحركة أو الهرب ببساطة.
الواقع هنا أسلم مفاتيح قوانينه الصارمة للعقل اللاواعي، عقل الطفل اللاهي، ليعيد التركيب والتشكيل وفق أهوائه، وليكتشف أيضاً طبقات أخرى خفية وراء سطح هذا الواقع. الحلم هنا – كما في كثيرٍ من أحلام محفوظ – مجرد كشف لزيف الصورة، وإضاءة سريعة وقوية للخفي والمستور، فيما وراء الحياة وأحياناً حتى فيما وراء الموت. لكن كثيراً ما كان الحلم مجرد إشارة في القطع السردية، حين يهمين عليها التعليق من جانب الراوي لتوضيح سياق هذا الحلم وظروفه، فتأتي المفارقة من خارج عالم الحلم، فيكون على سياق الواقع أن يضيء لغز الحلم، وليس العكس. وهنا سنلاحظ الراوي المتردد بين عالمين، عالم الواقع بعلاقاته وتشابكاته وعالم الحلم المحفوف بالعجائب، وربما المخيف بالنسبة له أحياناً.
من بين أهم اكتشافات هذا الكتاب السردي الممتع هو لعبة التحوّل والتماهي في الزمن والمكان، وهو اكتشاف وثيق الصلة بأرض الحلم حيث لا زمن متعين أو مكان صلب، وباكتشافات قديمة للسوريالية. وقد استغل الكتاب هذه اللعبة حتى النفس الأخير، فأصاب كثيراً من الضربات الموفقة، لكنه قد يكون أسرف في الاتكاء عليها دون سواها أكثر مما يجب. على أرض الحلم حيث يلتقي الأحياء بالموتى، وحيث يختلط نسيج الأعمار وينقض غزل الأماكن، لا يقين يمكن لهذا الراوي المسكون بالأسئلة أن يقف عليه. وهو في وقفته هناك على الأرض السحرية برمالها الناعمة لم يكن عليه أن يجيب أو يفسر، بقدر ما أن يفتح عينيه على المشهد لاستيعابه دونما اعتبارات مسبقة أو نتائج، إذ تبقى الحكمة والعِبرة غريبة ومقحمة في غرف الأحلام، مهما توارت واندست بين السطور بأناقة. ويبقى أن أنفاس نجيب محفوظ تتردد بين صفحات هذا الكتاب بارتياحٍ وعمق، دون أن تكون اللغة في بعض المواضع على مستوى هذا الطموح الرفيع، ولكن يتبقى لنا جميعاً بهجة المحاولة والتماس الأسباب.