فى إطار غلبة كتابة الموضوعات الخارجية والقضايا العامة، مؤخرا، فى القصة والرواية على الأخص، شهدت الكتابة الذاتية، أو ما كان يسمى كذلك فى وقت سابق، انحسارا ملموسا، ومع ذلك فمازالت هناك بعض الكتابات – وهى كتابات قصصية فى الأغلب – تحاول أن تستكمل مغامرة سبر الذات، وهى مهمة أرى أنها لم تكتمل بعد، من ناحية ما تم إنجازه فيها، ولا تكتمل بالمرة، على الصعيد الذاتى للمبدع. ما يثير الانتباه أن أغلب الكتابات التى مازالت تعكف على هذا المشروع، هى كتابات أنثوية، وكأن الهم الذاتى لدى المرأة، من الثراء والتعقد، فى مجتمعنا، بحيث يصعب إزاحته بسهولة، تحت وطأة الصرعات الأدبية المؤقتة.
سمر نور واحدة من الكاتبات التى عنيت فى مجموعتها الثانية بتقصى الجوانب الخفية للوجه الأنثوى، أو هذا ما فرض نفسه على تجربتها، على حد تعبيرها فى العبارة المقتبسة من قصتها الأولى أعلاه.
فى القصة الثانية من هذه المجموعة، سيكودراما، نتابع لعبة مثيرة بين إحدى المدربات المسرحيات تعمل مع مجموعة من الفتيات، وتقودهن – تتصور ذلك على الأقل – خلال تمرين نفسى يعتمد أساسا على تخيلهن ما تمليه عليهن من أجواء وجدتها إحدى الفتيات كئيبة وغريبة، فاستبدلت بها أجوائها الخاصة فى خيالاتها الطليقة، فبدلا من البئر المظلمة راحت فتاتنا تنطلق فى الحقول الخضراء تحت نور الشمس، ترافقها أسراب الطيور. وفى نهاية اللعبة تعود من رحلتها الأثيرية بخصلة من شعر طفل وخاتم بفصين، الدلالة هنا أوضح من أن تفسر. هنا نوع من التمرد الداخلى، البرئ والساذج على توجيهات المدربة، وكل التوجيهات ضمنيا، التى تحاول أن تقودنا نحو نقطة محددة سلفا، حسب خطط الآخرين وتصوراتهم عن الحياة.
نلمح هذا التمرد البرئ فى أغلب قصص المجموعة، كما نلمح من بين الحين والآخر، الطفل بنقائه الملائكى الذى يلوح وعدا غامضا للذات، كما فى قصة لون الوحدة، التى تبدأ بوضع الخطوط الحادة بين الذات والآخرين المجتمعين حول ما يبدو أنه طاولة تحرير فى إحدى الصحف: “تزيح مقعدها بعيدا عن الطاولة…الزملاء المجتمعون يتناقشون حول قضايا كبرى وصغرى.(…) تشارك فى الحوار بصمتها الخارجى وغليان داخلى يوحى بانفجار قريب” ثم نتابع علاقة مبتورة بين الذات المروى عنها وبين شاب يجلس على المقهى نفسه، وعندما تتوجه بعد ذلك إلى السينما، تلتقى بزميل قديم وزوجته وطفله، وهنا: “نظرت إلى الطفل فوجدت مهربها فى نظرته السابحة فى جهة خامسة لا تراها تلك الوجوه الآلية (…) عينيه مرآة لعينيها تفيض بلون الوحدة المنتظرة… تركت الجميع لتكمل طريقها” لا نعرف هنا إن كانت الذات تلوذ بالوحدة أم تتململ منها وتتوق الانعتاق منها، لكنها تراها وتلمسها وكأنها هذا الطفل ذاته السابح فى ملكوته الخاص.
فى قصة شاى العصارى، نبتعد قليلا عن الهموم الداخلية لذات واحدة، لها سمات متشابهة تقريبا فى أغلب القصص، لنشهد جوا نسائيا حميما بين جارات فى حى واحد. مازالت الذات الساردة تحتفظ بموقعها، غير أنها تميل هنا إلى الرصد والمراقبة، وإن شابت نظرتها شوائب الحنين لزمن قديم وتغنى على الأطلال، رغم ذلك جاءت هذه القصة بلغة أكثر نصاعة وحيوية من لغة أغلب القصص الأخرى، وانزاحت العبارات الشعرية لتفسح مجالا للوصف ولغة الحوار والحركة فى المشهد.
باستثناء قصة شاى العصارى وربما سيكودراما بدرجة ما، تجتمع بقية القصص على لغة معتمة، تتوسل بشعرية ثقيلة من قبيل : أكوام اليأس والإحباط – أطياف الماضى – أريج الذكرى فى مباخر الأعماق …. وتقترب القصص، فى بعض الأحيان، من الجو الأسطورى ، وهى وسائل موجودة فى متناول الوعى الذى يتحرك فى قصص المجموعة، وهو وعى عاطفى، شجنى، يميل للتعبير عن أوجاعه بالرمز والإيحاء، بدلا من تقديمها ببساطة مجردة.
تبرز المفارقة عندما يحاط هذا الوعى، أو يحيط نفسه، بمفردات شديدة المعاصرة، من قبيل عالم الانترنت وفضائه الافتراضى بكل مشتملاته…ففى قصة: “منذ خرجنا من الكهف .. إلى أن عدنا من جديد” التى تبدأ بخبر فى صحيفة عن جريمة قتل ارتكبتها فتاة، لا تجد الذات الراوية أى شك فى أنها هى نفسها الفاعلة، ننسى ذلك المدخل المشوق بعد سطور قليلة، لنهيم معها فى ظلال علاقة عاطفية شاحبة ومقدمة بلغة أسطورية ومجازية، وفى النهاية نعرج معها على مقهى للانترنت حيث يلوح وجه الحبيب الغامض من وراء إحدى الشاشات، وحيث تواجهها كل بشاعات العالم على صفحات الانترنت، ويتجدد مرة أخرى إحساسها الغامض بالذنب، وحيث تبحث أيضا فى محرك البحث عن كل الإشارات الممكنة لتعود إلى الكهف – الموضع المثالى للقاء الأسطورى بين حبيبين، دون أن تجد أثرا لمثل تلك الصفحات. ما تبحث عنه الذات هنا لا علاقة له بهذا الديكور فائق الحداثة ولا يوجد فى الواقع الافتراضى، بقدر ما يسكن فى الكهوف الأولى للإنسان، وفى مغامرته الروحية والحسية التى كانت ذات مرة لا حدود لها.
تعيد قصص هذا الكتاب تذكيرنا جميعا بحاجتنا الماسة للتمكن من الأدوات الأسلوبية عموما، وما يشار له باستهانة فى كثير من الأحيان باعتباره مجرد حرفة أو صنعة، ذلك لأن أفكارا عديدة وحالات ومشاهد متميزة بالمجموعة لم تكن بحاجة إلا لقليل من المجهود الحرفى البسيط حتى تصير أقدر على أسر قارئها وسبر غور شخصياتها..أى ببساطة أكثر إمتاعا وقوة. فمثلا الانحراف الجميل عن المتوقع فى القصة التى تحمل اسمها المجموعة بريق لا يحتمل، والمتمثل فى سعى الضحية إلى القاتل الطليق بضاحية المدينة، ومحاولتها جذبه إليها بأى طريقة، ينتهى إلى أن يتجه القاتل إلى ضحية أخرى غافلة عنه، ويتجاهل من كانت مستعدة ومستمسلمة لمصرعها. هذا الانحراف الجميل، والجدل بين الضحية وجلادها، كان من شأنه إنتاج قصة أروع وأبدع، بالقدر القليل من العمل على ما يسمى بالحرفة.
تبقى أن نقول إن قصص الكتاب يحسب لها أنها لم تشق سبيلا مطروقا ومعبدا بخطوات السابقين، ولم ترتكز على تجارب سابقة ذات صيغة أو وصفة سهلة – نسوية كانت أم غير نسوية – كما أنها لم تركن للتوابل السردية التى قد تضمن للكتاب رواجا سريعا، والمعروفة للجميع، بقدر ما اجتهدت لتسبر غورا وعيا مؤنثا، أصابه ما أصاب كل ما حولنا الآن من تشوش للرؤية وفقدان للاتجاه. وهكذا جاءت قصصها صادقة وطليقة مثل أحلام الطفولة، أو حتى كوابيسها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: بريق لا يحتمل – قصص: سمر نور
الناشر: ملامح
