“أحدهما عارٍ و الآخر بذيل”.. مسرحية للكاتب الإيطالي داريو فو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 523
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بقلم: الكاتب الإيطالي: داريو فو،1983

ترجمة: د.إقبال محمد علي

One Was Nude and One Wore Tails

By: Dario Fo

“أحدهما عار و الآخر بذيل”

مسرحية ساخرة بفصل واحد

شخصيات المسرحية: 1- الكناس رقم واحد 2- الكناس رقم إثنان  3- اِمرأة 4 – رجل عار

5- شرطي الدورية 6 – رجل ببدلة سهرة.

تجري الأحداث في شارع بأطراف المدينة.مجموعة من أعمدة الإضاءة. صف من الشجيرات الذابلة. مصاطب قديمة متداعية. كشك لبيع الجرائد (مغلق). لافتة صغيرة كُتِب عليها “أصلاحات في الطريق”.

يدخل مجموعة من الكناسين، يدفعون عرباتهم، يغنون بانسجام:

الرجل الحكيم ينام على فراش من الصوف،

الرجل الكسول ينام على فراش من الريش

و مصاب الروماتيزم ينام على الخشب،

و الشقيّ على صدر فتاة جميلة.

في الليل، ننظف الشوارع،

في النهار، تمتليء الطُرق الطويلة بالأوساخ،

وأوراق ميتة، يغطيها الصقيع،

أو خراء الكلاب.

نجمع الخرق و الأوساخ،

لتنتهي النفايات، لسوء الحظ

في البالوعات فتغلق مجاريها…

نعثر أحيانا على الآلاف من  الليرات المزيفة

التي لا قيمة لها.. احيانا نقوم بحرقها

و أحياناً يأكلنا الندم، فنتعطف بها على فقير أعمى..

 

يغادر الكناسون المسرح إلا إثنين. كانا يتحدثان بصوت خافت لفترة، بعدها أرتفع صوت أحدهما..

الكناس رقم واحد: هل سمعتَ ما قلته لك؟ أنا أعتقد، أنه من الأفضل قول الحقيقة، لنُنَفِّس عما في داخلنا.

الكناس رقم إثنان: ..تَتَكَلّمَ عن الحقيقة، ها…فما هيَ الحقيقة، برأيك؟ ستقول لي، إنّ الحقيقة عكس الكذب… و هذا صحيح. اِخبرني، الآن: ما الفرق بين الصدق و الكذب؟ هل كُلُّ ماهو حقيقي، حقيقة وهل كُلُّ ما هو باطل، حق؟ أم إن الإثنين، واحد ( يبتعد الكناس الأول بإنزعاج).. هَيْ… اِنتظر لم هربت مني، بهذهِ السرعة؟

الكناس رقم واحد: لأنني أريد أن أبقى لوحدي. هذا هو السبب.

الكناس الثاني:أ أنت غاضب مني ؟

الكناس الأول: من قال أنني غاضب مِنك..؟ أحسُّ بالصداع و المرض، من أحاديثك الليلية هذهٍ. هذيانك بهذه النظريات المجنونة، يجعلني أفَكِّر. لقد أخبرتك العديد من المرات، إنّ التفكير بما تقول، يُمرضني، هنا..( يؤشر إلى جبهته).

الكناس رقم إثنان:هذا لأنك غير متعود على تدريب نفسك .. فالدماغ عضلة، يجب ان نجهدها بالتمرين…

الكناس رقم واحد: (مقاطعاً) يا لها من فكرة ألمعية! أراهنك ان تمارين عضلات المخ  التي تتحدث عنها، ستزيد من توترعضلات مخي، بالتأكيد.

الكناس رقم إثنان: (يبتسم)، توتر في العضلات .. ها ها ها! يعجبني ما قلت…

الكناس رقم واحد: تباً..الشيء الذي لا أفهمه، كيف لرجلٍ متعلمٍ مثلك، بذل الكثير من الجهد لتدريب عضلات مخه، أن ينتهي بالعمل كناساً؟

الكناس رقم إثنان:لأن الكنس  بالنسبة لي ليست مهنة، بل رسالة..

الكناس رقم واحد: ها نحن نعود ثانية، لسماع أفكار جنونية جديدة..

الكناس رقم إثنان:لا بأس عليك..لديّ سؤال، أرجو أنْ تجيبني عليه بصراحة: ما هو الشيء المهم في الحياة ؟

الكناس رقم واحد: باِعتقادي، أنْ يتمتع الواحد منا، بالصحة و السعادة..

الكناس رقم إثنان :… بهذه الطريقة يحقق، الإنسان سعادته؟!!

الكناس رقم واحد:نعم. و الشيء الأكثر اهمية في أعتقادي، عدم الإكتراث، بالناس و الأشياء.

الكناس رقم إثنان:هذا هو بيت القصيد… أحسنت. عليّ ان أعترف بأنني كنتُ مخطئاً بشأنك. فلسْتَ بالأحمق كما كنت أعتقد. أنت مصيب بما قُلت. علينا أنْ نعلو بأنفسنا عن التفكير بالحياة و مآسيها… نسيان طموحاتنا، خنق مشاعرنا و كبتً أحاسيسنا و رغباتنا.

الكناس رقم واحد: بالضبط، عدم الإكتراث. لكن عليك أنْ لا تنسى، إنّ الأقوال أسهل من الأفعال….

الكناس رقم إثنان: بالتأكيد هذا ليس بالشيء السهل، لطالما كانت هناك، طُرق أخرى.

الكناس الأول: مِثلَ ماذا؟

الكناس رقم إثنان:هل سمعت سابقاً باليوغا؟

الكناس رقم واحد:هَهْ! و ما هيّ اليوغا؟

الكناس رقم إثنان:عليّ ان أعترف، بأنني لم أكن مخطئاً بشأنك، فأنت غبيٌّ قلباً و قالباً..اليوغا تمرين لتربية النفس و الجسد، تساعد من يمارسها على تحقيق التسامي الروحي المطلق من أجل الوصول إلى أعلى درجات المتع الحسية… بكلمة أخرى، السعادة.

الكناس رقم واحد: و ما علاقة هذهِ” اليوغا”، بعملك ككناس؟!

الكناس رقم إثنان: علاقة كبيرة،  فَهما مبنيتان على نفس المبدأ. و حياة الكناس هيّ النموذج الأصلح لمثل هذه المقارنة التي تعلمنا، تحرير أنفسنا مِن مظاهر الغطرسة و التعالي و الطموحات التي، تقف حاجزاً بيننا و بين ما تحمله دواخلنا من تفاهاتٍ لا جدوى منها، وأن نمضي قُدما في الحياة، عرايا لكن سعداء، للأغتراف من عالم الأفكار الأفلاطونية ؟

الكناس رقم واحد:عرايا؟ الحمدُ لله أنني أعرف معنى هذهِ الكلمة. بدأت الآن، أشعر بدوار في رأسي! اِخبرني بربك بما عنيته بعرايا؟

الكناس رقم إثنان:عاري.. عاري من الخارج. لكنك روحياً تشعر أنك بكامل ملابسك الروحية.

الكناس رقم واحد: لباس روحي؟!! أعجبني ما قلت، وعليّ أن لا أنسى ذلك… استحلفك بالله، ان تُعيد عليّ ما قلت الآن؟؟

الكناس رقم إثنان: سألخص لك ذلك، ببضع كلمات.. أنت على سبيل المثال: ماذا تحسُبَ نفسك؟

الكناس رقم واحد: ما هذا السؤال؟! أنا كناس..فماذا حَسَبْتَ أن أحسُبَ نفسي؟

الكناس الثاني: بالضبط. أنت تعتقد أنك لا شيء.. باِختصار، لربما اللاشيء هيّ بداية كل شيء.. بكلمة أخرى .. المُطلق؟ و المُطلق كما يقول بلوتو، هو الله و بالتالي، أنت الله..

الكناس رقم واحد: أنا؟

الكناس رقم إثنان: نعم، أنت!

الكناس رقم واحد: لا تمزح معي بالله عليك .. انت تقول هذا، لأنك تحبني.. أنتظر حين تعرفني أكثر …ها.. ها.. يبدو انك الآخر، وقعت في أحابيل القصص التي يتداولها الآخرون عني…

الكناس رقم إثنان: أنت محظوظ، لأنك لا تعرف إلا القليل! أسمع: أنتَ مهما لبست من ملابس…ملك، مهرج، جندي، قسيس،عارٍ تماماً أو ببدلة مسائية أنيقة.. ستبقى أنت نفسك، لا أحد، مجرد كناس. لأنك في نظر الآخرين لا شيء، و اللاشيئ هو كل شيئ…

الكناس رقم واحد: (مقاطعاً)، و بما إنّ “الكُل شيء” تعني الله كما يقول بلاتو، إذاً أنا ألله.

الكناس رقم إثنان:عظيم! أخيرا،أدركت ما كنتُ أقول.

الكناس رقم واحد: نعم نعم،  لم يكن هذا بالشيء الصعب…اخبرني باللهِ عليك: هل يعرف البابا انني الله؟؟

الكناس رقم إثنان: البابا؟

تدخل امرأة راكضة.. يبدو عليها الإضطراب.

المرأة: اللعنة..ستكون نهايتي هذه المرة..يا ربي..لربما يمكنكما مساعدتي..

الكناس رقم أثنان: نحن تحت الطلب. كيف يمكننا مساعدتك؟

المرأة:حاولوا القبض عليّ، حين كنت اتعامل مع أحد الزبائن…

الكناس رقم واحد: من الذي حاول القبض عليك؟

المرأة: نائب شرطة الآداب.. أنهم قادمون..ساعداني، أتوسل إليكما.. ساعداني.. أفعلا شيئاً..!!

الكناس رقم واحد: دعنا نخبئها في البرميل، فيه متسع..كل ما عليها أنْ تكور جسمها لتحشِرَ نفسها، في داخله.

الكناس رقم إثنان: ما هذا الغباء.. لا يمكنك حشر امرأة بهذا الجمال داخل هذه القاذورات!!!.

المرأة: شكراً للأطراء.. وللأسف ان جمالي الذي تتحدث عنه، لا يمكنه مساعدتي الآن….فنائب شرطة الآداب لا يمزح مع أحد..أنهم يزجون بالناس وراء القضبان مِن مجرد نظرة. أنقذني، ففي المرة السابقة، أدّعى رجلٌ انني خطيبته.. لكن هذه المرة ؟؟!!

الكناس رقم إثنان: أفهم ما تقولين.. تصوري المنظر، لو أدعينا انك خطيبتنا..سنصبح مضحكة للآخرين، فالكناس في نظر الآخرين، محرم عليه الحب.

الكناس رقم واحد: مِن جانب آخر، خطيبة يشترك فيها إثنان، شيءغير مقبول أيضاً.

الكناس رقم إثنان: يا لغبائي كيف لم أفكر بهذا..!

الكناس رقم واحد: سنتناوب عليها.. سأكون أنا الأول…!

الكناس رقم أثنان: اِحترم نفسك و خذ هذه ( ينزع قبعة التنظيف) تحولت دودة القز إلى فراشة؛ نزعت عنها شرنقتها و طارت (يرمي قبعته و معطف عمله في البرميل ثم يسحب قبعة من صندوق أدواته)، لنذهب يا حبيبتي . أنا من سيحميك الليلة.

المرأة: عاجزة عن الشكر. أنت شخص كريم و تبدو كرجلٍ مهذّبٍ حقيقي .. و لا أدري كيف أعوضك، لمساعدتي.

الكناس رقم إثنان: لا تهتمي سنجد بالتأكيد، طريقة لتعويضي، ( بطريقة مسرحية)تأبطي ذراعي ياكنزي..فالحب حامينا….

الكناس رقم واحد: اِنتظرا لحظة، قبل أن تتأبطا ذراعي بعضكما، ماذا عليّ ان أفعل ببرميلك الآن؟ فمن الصعب عليّ دفع برميلين  في نفس الوقت. أليس كذلك؟ و ماذا لو التقيت بمديري!!

الكناس رقم إثنان: أنت على حق.. ماذا علينا ان نفعل؟

الكناس رقم واحد: لربما هنالك طريقة.. سأخفي برميلي وراء هذا الجدار القصير و أأخذ برميلك إلى المستودع ثم اخبر المدير انك مريض و كان عليك ان تعود إلى البيت. بالطبع لن أخبره مع مَنْ..

الكناس رقم إثنان: عظيم.. أنت إلَهي المقدس.

الكناس رقم واحد: أعرف، لقد شرحت لي ذلك، قبلاً.. و لا أريدك أن تنشر هذا الخبر بين الناس لأن القضية حساسة كما تعرف! لنذهب.

المرأة: شكرا لك أيضاً. أشعر ان مقابلتي لك كانت، أشبه بمعجزة..

الكناس رقم واحد: أرأيت؟ أنا معجزة الآن! ماذا لو شاعت هذه الكلمة في كل مكان.!! هيا بنا..عَجِّل…

المرأة: نعم، نعم.. نحن ذاهبان. إلى اللقاء و شكراً لك مرةً ثانية.

(يخرج الأثنان، متأبطين ذراعي بعضهما. يتبعهما الكناس رقم واحد دافعاً برميل

الكناس رقم إثنين …. ظلام لثوان معدوات،  اشارة لمرور الوقت)   

الكناس رقم واحد: (يدخل الخشبة، مرة أخرى).. هَيْ.. علينا التوقف عن الألاعيب الآن.. مَنْ حَرّكَ برميلي؟ ( البرميل الذي كان على خشبة المسرح قبل التعتيم، تم وضعه خلف السياج).. أها، ها هوَ هنا. أصابني الرعب ( بدأ يلتقط الأزبال من على الأرض) تصور المنظر، رفيق يقلق على برميل رفيقه في الوقت الذي ُيسرق فيه برميله… لو أستطيع الإمساك بالجرذ الذي حركه من مكانه….

( يفتح غطاء البرميل لرمي الأزبال التي جمعها في داخله)..

رجل عاري: ( يبرز من داخل الصندوق  مستاءاً )، تباً لك لِمَ ترمي عليّ هذهِ القاذورات؟ هل تعتقد ان هذا مضحك.. ها !!

الكناس رقم واحد: ( غير مصدّقٍ عينيه).. ها .. عذراً..

الرجل العاري: (ينفض القاذورات من على القبعة التي يلبسها)..أيها الملعون، إنّ ما فعلته غير مضحك أو مقبول كما أنه، خالٍ من اللياقة…

الكناس رقم واحد: (غير مصدّقٍ عينيه)….أنت مَنْ عليه ان يسمعني، الأن .. فكما يبدو لي، انك غاضب..

الرجل العاري: (مقاطعاً)، تنعتني بالغاضب، ها؟ حَقّرتني بما فيه الكفاية….. فما الذي يمنعك من ضربي الآن..ها؟.. تفضل اِضرب على الرحب و السِعة.. لكن أُحذرك من مغبة ضرب رجلٍ عارٍ…

الكناس رقم واحد: رجلٌ عارٍ ؟ دعني أرى.. .

الرجل العاري: تفضل. أُنظر( وقف ليريه الجزء الأعلى العاري من جسده) هذا الجزء يكفي.. فنحن بالكاد نعرف بعضنا البعض .. ألا تشعر انك شطحت بعيداً.. انا اعرف انك اعتدت العيش بين القاذورات و لا اعتقد ان رؤية رجلٍ عارٍ سيسبب لك الإحراج! من حسن الحظ  ان حَياؤك، سيمنعك عن فعل ذلك…

الكناس رقم واحد: (يفقد اعصابه)..هذا يكفي .. عليك الآن ان تختار بين إعادة القاذورات إلى مكانها، أو إجبارك على إعادتها و أخذ صندوق قمامتي و انت في داخله، و رميّ كل ما في داخله في أول حفرة تصادفني…

الرجل العاري: (يرد بتهذيب).. لا داعي لكل هذا.. هيا.. أهدأ قليلاً …

الكناس رقم واحد: كلا يا صديقي . أنتَ من عليه ان يهدأ و التوقف عن العبث معي.. لأنني أستطيع ان أصيح الشرطي، عندها ستأسف على كل ما بدر منك.

الرجل العاري: أرجوك ان لا تفعل. ها أنا،أطلب منك بكل تواضع قبول أعتذاري و سأركع على ركبتيّ متوسلاً ان  لا تسلمني للشرطي .. أفضل الإنتحار، على ان تسلمني للشرطي..

الكناس رقم واحد: طيب، طيب.. لن أستدعي الشرطي و لكن اطلب منك ان تستمع إلي و ان تخبرني كيف انتهيت بحق السماء، داخل صندوقي؟

الرجل العاري: أنتهيت بهذا الصندوق لأنني كنت عارياً.. هل تعتقد انني لو لم أكن عارياً سأنتهي داخل هذا الصندوق..ها؟

الكناس رقم واحد: لربما كنت تحاول أن تجرب، كيف سيكون منظرك داخل صندوق القمامة، عارياً؟

الرجل العاري: كنت عارياً لسبب آخر.. من أجل قضية سامية.. من أجل الحب.. و لكن لسوء الحظ عاد الزوج كما يحدث في أية مسرحية هزلية من الدرجة الثالثة..

الكناس رقم واحد: ها ها ها . كما يحدث في أفلام الكارتون…

الرجل العاري: بالضبط. و بدلا من ان يكون رد الفعل التقليدي الإختباء تحت السرير أو داخل دولاب الملابس، انتشلت قبعتي ( يؤشر على القبعة السوداء التي يضعها على رأسه)،جززت على أسناني وهرعت إلى الشرفة عارياً كما خلقني ربي….

الكناس رقم واحد: ها ها ها ..عارٍ، قبعته على رأسه و أسنانه تصطك… أعذرني، لكن أشياء مثل هذا النوع، تجبرني على الضحك.

الرجل العاري: لا عليك، أستمر أستمر .. اتمنى لو كنت أستطيع مشاركتك الضحك و لكن يصعب على واحد عارٍ مثلي ، مغموراً بالأوساخ حتى عنقه، ان يفعل ذلك.

الكناس رقم واحد: نعم، نعم.. أنا اعرف صعوبة وضعك. لكن الحالة كلها تدعو للضحك..ها ها ها ها.على أية حال، علينا معالجة الأمر الآن… نعم.. علينا معالجة الأمر.. أها.. نعم: ( بدأ يتمنطق، مقّلّداً صديقه الفيلسوف)، عاري، نعم عاري…لكنك روحياً، تشعرأنك بكامل ملابسك.. عاري من الخارج و بكامل ملابسك من الداخل و بما انك في الداخل الآن، فأنت بكامل لباسك……

الرجل العاري: لم أفهم.

الكناس رقم واحد: هذا نوع من الفلسفة.. ستأخذ مني وقتا طويلاً، لإفهامك .. آسف، عليّ ان أكمل دوريتي، لذا أسألك بالخروج من صندوقي و إلا فلن يكون، هناك مكانٌ لقمامتي.

الرجل العاري: كلا، أرجوك .. فمن غير اللائق تركي عارياً بهذا الشكل؟

الكناس رقم واحد: ماذا تقصد بعدم اللياقة؟ و ماذا تعتقد ان عليّ أن افعل؟ لنفترض انني صادفت مشرفي، فكيف سأتصرف عندها؟ سيكتب تقريرا للإدارة متهما إياي باستخدام عربتي لأغراض غير قانونية أو شيء من هذا القبيل!

الرجل العاري: ارحمني.. قَدّر وضعي و خذني إلى بيتي…

الكناس رقم واحد: بيتك؟ أقصد..! ماذا تحسبني، سائق تاكسي؟؟

الرجل العاري: بيتي غير بعيد من هنا.. و للتعبير عن مدى امتناني، خُذْ هذا.. خُذ ساعتي. ( ينزع ساعته من رسغه) ، هذا الشيء الوحيد المتبقي على جسدي عدا قبعتي بالتأكيد… خذها.. أنها ثمينة، قيراط 18، من الذهب الخالص ( يسلمه ساعته).

الكناس رقم واحد: (يأخذها منه بإستحياء)… تعطيني هذه الساعة الثمينة من عيار 18 قيراط من الذهب  الخالص لأخذك إلى بيتك؟

الرجل العاري: بالضبط… و أعتذر، لعدم وجود شيء آخر عندي الأن، لأقدمه لك…

الكناس رقم واحد: لا داعي للإعتذار. إهدأ و اخبرني عن وجهتنا؟

الرجل العاري: شارع دونيني رقم 27..

الكناس رقم واحد:27  شارع دونيني؟ و تقول انه ليس ببعيد من هنا؟ هل تعرف ان عليّ قطع ميلين مشياً على الأقدام، كي أُوصلك لبيتك؟ خذ ساعتك، فأنا لست بحاجة للمشاكل.. لنفترض انني صادفت، مشرفي في الطريق… ماذا سأقول له؟

الرجل العاري:ها نحن نعود لمشرفك ثانيةً…ألا تستطيع ان تفكر بشيء آخر غير مشرفك؟

أنا أستغرب من عقلية هؤلاء الكادحين! و المثل القائل “الكناس يبقى كناس” ينطبق عليك.

الكناس رقم واحد: تساهل معنا يا رجل.. لكني على كل حال، اريد ان أعرف، قائل هذا المثل؟

الرجل العاري: أنا.. و ازيدك القول: ان أمثالك، يجعلونني أشعر بالخجل من نفسي.. يمكنني تَقَبّلَ، الجبناء، الفقر، الجهلة لكني لا استطيع تقبّل، اللاشيء.

الكناس رقم واحد: اللاشيء، ها؟  لربما لم تفطن إلى ان” اللاشيء هو كل شيْ”..و الله هو كل شيء.. تستطيع ان تقول ما شئت على ان لا تمس “ربي” بحرف واحد. ( يظهر في تلك اللحظة المشرف الليلي من خلف الخشبة. عندما لمحه الرجل العاري،اختفى داخل الصندوق ثانيةً.. الكّناس الذي كان معطياً ظهره للمشرف، يستمر في الكلام)، لأنني تحولت الآن إلى حيوان و لم يعد أمرك يهمني بشيء.

الرجل العاري: (يهمس له)، توقف و أخرس و انظر وراءك…

الكناس رقم واحد: أتوقف، تريدني ان أتوقف؟ ( رفع قبضة يده لترتطم بغطاء الصندوق الذي أغلقه الرجل العاري)، أنت من عليه ان يتوقف أيها العجوز القذر..تعاشر نساء الغير و تمسك بالجرم المشهود بعدها تأتي هنا، لتتمسخر علينا.. لكني أعرف كيف أؤدبك ( يركل الصندوق) و أشكر حظك أنك دون ملابس و إلاّ ( يبدأ بضرب غطاء الصندوق بقبضته) هشّمت وجهك البشع.. اللعنة عليك. ( يقف المشرف خلفه غارقاً في الضحك) .. نعم ، نعم، اِستمر في الضحك! ها ها ها ها.. الضحكة الأخيرة ستكون لي.. اِنتظر حين تجد نفسك مرمياً في القناة.. ها ها ها كم يعجبني رؤيتك داخل الماء و أنت تصرخ: النجدة النجدة.. ها ها ها و تغرق في أعماقها .. قلُق… قلُق.. قلُق.. مثل الغواصة.

أرتبك الكناس حين فطن لوجود المفتش، لكنه استمر يردد مغنياُ، قلُق قلُق، قلُق قلُق، مقلداً صوت غرق الغواصة…

الغواصة تُغني، قلُق قلُق، قلُق قلُق

و الأسماك الصغيرة تُغني، قلُق قلُق، قلُق قلُق

الاثنتان معاً، قلُق قلُق، قلُق قلُق

( رافقت أغنيته، رقصة نقر القدم على الأرض- تاب دانس- راكلاً صندوق قمامته)

المفتش الليلي: (بحيرة)، هل أنت على ما يرام؟

الكناس رقم واحد: كلا، كلا.. كما ترى.. كنتُ… كنتُ أحاول تمضية الوقت.. بِقلُق قلُق

المفتش الليلي: تمضية الوقت!! و ماذا فَعَلَ لكَ صندوق القمامة، لتركله بهذا الطريقة، يا تُرى؟

الكناس رقم واحد: أنه.. أنه..أنه يجعلني غاضباً.. أنه يدفعني لركله، بين وقت وآخر..أنه لا يتحرك إلا بالركل، لا ادري ما السبب .. الخسيس، يسخر مني ( يركله). اليوم قرّر ان لا يتحرك (يركله مرة أخرى، فيتحرك الصندوق) هل رأيت؟ تَحَرَّكَ الآن.. يبدو أنه خاف منك. عربات القمامة مثل الأطفال، أن لم تصرخ عليهم بين فترة وأخرى، فأنهم سيفعلون ما يريدون. لا يحترمون أحداً، ( يوجه الحديث إلى الصندوق)،هيا هيا علينا ان نتحرك، دون ألاعيب هذه المرة، وأن فعلت سأستدعي حارس المتنزه مرة أخرى، وعليك ان تعرف ان حراس المتنزه لا يحبنون ان يعبث أحد معهم. هيا هيا، تحرك.. أصرخ عليها أنت أيضاً…

المفتش الليلي: ( بحرج) آه.. حسنا، ما دُمتَ على ما يرام، عليّ مواصلة دوريتي،.. إلى اللقاء..

( يغادر راكباً عجلته)….

الكناس رقم واحد: حسناً.. أراك فيما بعد.( يمسح العرق من على حاجبيه و من داخل قبعته)، يا لها من خمس دقائق رهيبة.

الرجل العاري: (يخرج رأسه بحذر)، هل ذهبَ؟

الكناس رقم واحد: أنتَ من وضعني في هذا الموقف.. أنظر إلي، إنني أتصبب عرقاً..

الرجل العاري: لن أخبرك عن حالي، فلو بقيّت دقائق أكثر داخل هذا الصندوق، لأختنقت.

الكناس رقم واحد: أصحيحٌ ما قلتَ يا ولدي الحبيب؟؟

الرجل العاري: ( يتكيء بيديه على حافة الصندوق كما يتكيء  القسيس على حافة منبره)، لا تتصرف معي، بهذه الطريقة.. تيقنت الآن انك عكس ما تُظهِر.. عليك التوقف عن التظاهر بأنك قاسٍ بلا قلب. لأنك في الواقع رجلٌ طيبٌ جداً جداً. شكراً لك و شكراً لكل ما فعلته من أجلي و اؤكد لك بأني سأكافئك مكافأة كبيرة على تضحيتك، بعد ان توصلني إلى البيت.

الكناس رقم واحد: ها نحن نعود لنفس الأسطوانة.. أنت مجنون، إن أعتقدت أنني سأخذك إلى بيتك.

الرجل العاري: طيب، أخبرني كم تتقاضى شهرياً؟

الكناس رقم واحد: أنا؟ تعتمد.. فعلى سبيل المثال، كان مرتبي هذا الشهر.. انتظر. عليّ أن أخرج الظرف، فقد أستلمته اليوم… ها هو، إثنان و عشرون ألف و خمسون، بالتمام. لماذا يهمك هذا الأمر؟

الرجل العاري: طيب سأضاعف المبلغ،إضافة لساعتي.

الكناس رقم واحد:ماذا؟ تعطيني ساعتك ذات الـ 18 قيراط من الذهب إضافة إلى إثني عشر الف و خمسين ليرة، لمجرد أخذك إلى البيت؟

الرجل العاري: بالتأكيد. ستنتظرني تحت، لأجلب لك النقود، عندما نصل شارع 27 دوميني …. اوه ، لا  لا.. لا أستطيع.

الكناس رقم واحد: ماذا تقصد بلا أستطيع؟ في البداية قُلتَ، أنك تستطيع.. الآن تقول، لا أستطيع؟ حَكِّمْ عقلك.

الرجل العاري: ماذا ظننت، أنني كنت أقصد؟ أخبرتك لتوي، انني لن أستطيع الذهاب إلى البيت بحالتي الحالية.

الكناس رقم واحد: و لِمَ لا؟ و من سيراك في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

الرجل العاري: زوجتي.. و لأنني فقدت مفاتيحي، فهيَ من سيقوم بفتح الباب. ماذا سأقول لها عندما تراني عارياً دون بدلة السهرة ؟

الكناس رقم واحد: دون بدلة سهرة؟

الرجل العاري: نعم. فقبل وقوع هذه المصيبة كنت أرتدي بدلة سهرة. أخبرت زوجتي انني ذاهب لحضور عرض فني في السفارة…

الكناس رقم واحد: عرض فني ببدلة سهرة؟ لحظة واحدة، هل كانت بدلة السهرة، بسترة ذات ذيل طويل؟

الرجل العاري: نعم، لماذا؟

الكناس رقم واحد: و نحن نتحدث في هذه اللحظة، أرى شخصاً يركب دراجة متوجهاً إلينا.

الرجل العاري: ببدلة سهرة على دراجة؟

الكناس رقم واحد:نعم، أنظر..( أشار إلى رجل خارج الخشبة، خلف الرجل العاري).. يبدو انه أحد الأشخاص الذين يدورون ليلاً لبيع الزهور.

الرجل العار: أ أنت متأكد..! ببدلة سهرة حقيقية…!

الكناس رقم واحد: اهدأ. سأتولى الأمر. هَي، يا لابس بدلة السهرة، توقف، رجاءً؟

الرجل ببدلة السهرة: هل تقصُدَني؟

الكناس :نعم… إسمع، هل تبحث عن صّفْقة؟

الرجل ببدلة السهرة: لا تقل لي ان كناسي الشوارع أصبحوا يشترون الزهور في هذهِ الأيام؟

الكناس رقم واحد: كلا، أريد شراء بدلة السهرة التي تلبسها، الآن.أخبرني ثمنها.. لكن دعني أولاً، تفحص  قماشها..( يشعل عود كبريت و ينظر إلى العلامة الملصوقة في ذيل السترة).. هَم.. من القطن البالي الرخيص.

الرجل ببدلة السهرة: أنتبه لعود الكبريت أيها البائس و ابعد يدك الوسخة عن بدلتي، من فضلك لأنني أخذتها لتوي من المكوى.

الكناس رقم واحد:كما أرى، انها ليست مصنوعة من الذهب الخالص.. كنت أحاول عقد صفقة معك، فلا تحاول التظاهر بأنك غير مهتم و احتفظ ببدلتك لنفسك. ما يدهشني، قلة ذوق لابسي بدلات السهرة.

الرجل ببدلة السهرة:لِمَ تريد شراءها، ان كانت خالية من الذوق؟

الكناس رقم واحد:لأنني فاسد الذوق..و فَساد الذوق، مسألة نفسية.. انا أحب الأشياء التي تثير اشمئزازي.

الرجل ببدلة السهرة: كأن تكون كناساً على سبيل المثال؟

الكناس رقم واحد: أنت محق تماماً.. أصبت الهدف. الآن هل تريد ان نتحدث عن الصفقة؟ مقابل البدلة، ستحصل على ساعة ذهبية عيار 18 من الذهب الخالص بالإضافة إلى 15,000 ليرة، عَدّاً و نقداً. أنت حر في قبولها أو رفضها.

الرجل ببدلة السهرة: رفضها كارثة..حتى ان وافقت، كيف سأعود إلى البيت؟ من الصعب العودة إلى البيت عارياً.

الكناس رقم واحد: أنت مُحقْ، فماذا ستقول لزوجتك؟

الرجل ببدلة السهرة:عن أية زوجة تتكلم..! أنا غير متزوج..

الكناس رقم واحد: إذاً..؟

الرجل ببدلة السهرة: طيب.. اريدك ان تُفكر معي قليلاً، و تتخيلني راكبا دراجتي، كما خلقني ربي؟

الكناس رقم واحد:ها ها ها، هذا المشهد أفضل بكثير من مشهد الرجل الآخرالذي،يقف عاريا في الشرفة.. ها ها ها…. ها

الرجل ببدلة السهرة: الشرفة؟ ما علاقة الشرفة بحديثنا؟!

الكناس رقم واحد: لا شيء، لا شيْ.. أنسى ما قُلت!مشهدخطرببالي. هناك طريقة.. عندما تتعرى أدخل في برميلي…

الرجل ببدلة السهرة:ماذا، ماذا؟أنا، عارياً في صندوق قمامتك؟

الكناس رقم واحد: نعم، جوف الصندوق ليس سيئاً.. لقد جربناه.. عندما تستقر في داخله بلطف وراحة، سآخذك إلى البيت.. و أعتبرها خدمة مجانية، من الباب إلى الباب. هذا هو الأتفاق و لكَ ان تقبل به أو ترفضه..

الرجل ببدلة السهرة: يبدو ان هناك خللاً في عقلك.. أعني، أنا، عاري، في صندوق…؟ و بما اننا ما زلنا نتباحث فلِم لا تضع مصاصة في فمي و قبعة طفل على رأسي و تُمثلَ أنت دور مربية تجر طفلاً بعربته؟

الكناس الأول: يا ربي. لم تعقد الأمور؟ ماذا لو عرفت ان رجلاً يجلس داخل صندوق قمامتي، الآن (يشير إلى صندوق قمامته).. انه يجلس هناك منذ ساعات.. لكنه لم يشتكِ أو يتذمر، مِثْلكَ.

الرجل ببدلة السهرة: ماذا، ماذا؟ هنالك رجل داخل الصندوق؟

الكناس رقم واحد: (نظر إليه منزعجا)، بالتأكيد… فماذا كنتَ تظن داخل الصندوق؟

الرجل ببدلة السهرة: رجل حَيْ؟

الكناس رقم واحد: طبعاً حَيْ. هل توقعت وجود جثة في داخله؟ أنا لست دفان موتى.. نعم يوجد رجل حَيْ، عاري من الملابس.

الرجل ببدلة السهرة: مستحيل.. دعني أرى! ( تحرك لرؤية ما بداخل الصندوق)

الكناس رقم واحد: هيّ، تَمَهَلْ..قف جانباً.. أنت  لست في بيتك الآن..عليك أن تَقرعَ أولاً؟ فلربما مزاجه غير مهيءٍ لإستقبال الضيوف اليوم.. أنتظر هناك.. فهو لا يثق بأحد (يقرع)، معذرتي أيها السفير، أتمنى ان لا اكون قد أزعجتك؟! (يلتفت للرجل ببدلة السهرة)،أنه من السفارة! (يتحول للرجل العاري)،لو سمحت، اريد أن أقدم لكم…

الرجل العاري: (يرفع غطاء الصندوق)،ماذا؟ هذا أنت! ( يلاحظ وجود الرجل بملابس السهرة الذي كان ينظر إليه بدهشة).. ماذا تفعل بحق السماء؟ ألا تفهم الوضع الذي أنا فيه الآن..أعني، هل تقصد تشويه سمعتي، بتقديمي إلى غريب و انا في هذا الحال؟

الكناس رقم واحد: صحيح أنه غريب، لكنه يرتدي بدلة سهرة.. و للأسف، إن لم نتوصل معه إلى اتفاق، سيكون من المستحيل عليك، العودة إلى البيت…

الرجل العاري: يمكنني التغاضي عن هذه الإهانة… مسرور… يا صديقي. ( و مد إليه يده بتعالِ)

الرجل ببدلة السهرة: لي الشرف. الذي لا أفهمه، كيف انتهيت هنا، بحق السماء ؟

الكناس رقم واحد: لا عليك، لا عليك..أنها قصة طويلة..و أعتقد انك حزرت الآن، سبب رغبتي بشراء بدلة سهرتك…

الرجل ببدلة السهرة: آها..لهُ ..أنا آسف جداً..و لن أسمح لإي كان، دفعي إلى التعري و الغوص في هذا الصندوق، بدلاً عنك.

الرجل العاري: لديّ حل. تخلع أنتَ، ملابسك.. تعطيني بدلتك..و تلبس ملابس الكناس..

الكناس رقم واحد: (يقلب الإحتمالات في ذهنه بسرعة)،رائع،هذا يعني أنني سأنتهي عارياً!!

الرجل العاري: لكنك تستطيع الدخول في الصندوق.

الكناس رقم واحد: يا لهُ مِنْ حَلْ…..أنتما الإثنان تعودان لبيتكما و أبقى أنا هنا، أنتظر أحداً، يدفعني إلى مركز الشرطة.

الرجل ببدلة السهرة: يجب أن تكون هناك طريقة أخرى (يشير إلى الكناس)، أنت تلبس ملابسي و أنا أتنكر بملابس الكناس…

الكناس رقم واحد: (يقلب الإحتمالات في ذهنه)عظيم، عظيم!! لأنه في كل الأحوال سيبقى عارياً…

الرجل العاري: رائع.. رائع، فكل الأمور ستُحل عند الحصول على بدلة السهرة ( يستدير إلى الكناس)، خذني إلى بيتك، أنا متأكد أن لديك بدلة أخرى.

الكناس الأول: لديَّ بدلة عادية.

الرجل العاري: جيّد. علينا البدء بالمقايضة.

الرجل ببدلة السهرة: صَح،علينا ان ننهي الموضوع الآن، مادمنا جميعا متفقين على التفاصيل .. لكن عليكَ شراء زهوري أيضا …

الكناس رقم واحد: لماذا؟ و ماذا سنفعل بها؟

الرجل ببدلة السهرة: و ما حاجتي إليها بعد نزعي بدلة السهرة و لبس ملابس الكناس؟ و لِمِن سأبيع الزهور؟ فمن المستحيل الذهاب إلى ملهى ليلي لبيع الزهور بملابس كناس..

الكناس رقم واحد: كم تطلب مقابل شراء زهورك؟

الرجل ببدلة السهرة: دعني أرى، (يحسب سريعاً)،25  زهرة× خمسة + 15,000 لبدلة السهرة =22,050 , تدفعها نقداً، دون نقصان ليرةٍ واحدة منها.

الكناس رقم واحد: قرر.. أما ان تأخذها أو ترفضها؟

الرجل ببدلة السهرة:سأأخُذها..

الكناس رقم واحد:أنا أرفضها.. ( يرمي الزهور، يلتقطها الرجل بملابس السهرة) ..

الرجل العاري: خُذْها!

(يأخذالرجل العاري الزهور و يسلّمها للكناس)

الكناس رقم واحد: لا أريد الخروج من الصفقة دون ليرات…

الرجل العاري: سأسدد لك النقود (ينتزع محفظة نقوده من يد الكناس و يسلمها للرجل ببدلة السهرة)

الكناس رقم واحد: على الأقل، أعِدْ لي محفظتي…

الرجل ببدلة السهرة: و ما حاجتك لمحفظة فارغة؟ هيا، علينا ان نتعرّى قبل ان تغير رأيك.      ( يبدأ بخلع ملابسه )

الكناس رقم واحد: تمهّل، ماذا لو رآنا أحد، نتعرّى في الشارع العام..ثلاثة رجال عراة.. هذا شيء كثير…

الرجل ببدلة السهرة:أنت على حق.. لنخلع ملابسنا خلف ذلك المكان…

الكناس الأول: ساذهب أولاً..

الرجل بملابس السهرة: إذهب.. إذهب و اسرع في خلع ملابسك…

( يختفي الإثنان خلف أحد الأكشاك. يدخل خشبة المسرح، شرطي الدورية على دراجته. يشاهد الصندوق في وسط الخشبة فيتوقف. يختفي الرجل العاري داخل الصندوق في الوقت المناسب)..

الرجل العاري: إنتباه! أغطس…!

شرطي الدورية: يا لعدم المسؤولية…نفس المخبول الطائش، ترك صندوقه هنا و ذهب يتسكع…(ينظر حوله) أين ذهب يا تُرى ( ينحني لقراءة رقم اللوحة على الصندوق).. ها هو رقمه، 30..(حاول رفع الغطاء لكنه لم يستطع)أووف..! يبدو عالقاً….

( تدخل امرأة تمشي على أطراف أصابعها بحذر متوجهة إليه، تقوم بركله من الخلف)

المرأة: إرفع يدك!

شرطي الدورية: (يمد يده إلى جراب مسدسه بطريقة لا شعورية)… من هذا؟ أها … أنتِ…

المرأة: ها ها ها .. أخفتك ها!…

شرطي الدورية: لا أحب هذا النوع من المزاح…و لأدخل في الموضوع: هل حصل ان صادفت صاحب صندوق القمامة هذا، في مكان ما ؟

المرأة: و لِمَ تسألني؟ ليكن في عِلمَك، أنني لا أتسكع مع كناسين.

المفتش: لربما مرة في الشهر، عندما يستلمون أجورهم….

المرأة: ماذا تقصد بهذهِ التلميحات؟ أنا لا أخجل من مهنتي..لكنهم في النهاية، أفضل من غيرهم بالدفع.. احيانا أتفاجأ بتصرفات هؤلاء الكناسين..لِعلمك، أنني ألتقطت هذا المساء واحداً منهم.

شرطي الدورية: نفس أسطوانة، ملاحقة نائب شرطة الآداب لك. إحذري، ان يوقع بك احدهم يوماً ما..أرجو ان تسامحيني لصراحتي…

المرأة: سأكون أكثر حذراً مستقبلاً. كما قُلت لكَ قبل قليل، ألتقطت أحدهم ولم أشعر بالحرج لمعرفتي أنه كناس.. أه لو سمعت احاديثه، كان يتكلم مثل أستاذ حقيقي.

شرطي الدورية:( بسخرية)، نعم أعرف، أنه أستاذ الكناسين.

المرأة: هل تسخر مني؟     
شرطي الدورية: بالتأكيد كنت أسخر! على كل حال، أطلب منك خدمة صغيرة:عليّ ان أقوم بمكالمة هناك، كي يرسلوا أحداً لأخذ هذا الصندوق، و احذري ان يقوم أحد بسرقته.

المرأة: تحرك إذاً، فلديّ ما أعمله.

شرطي الدورية:سأعود خلال دقائق.

( في اللحظة التي ترك بها المراقب المكان، يظهر الكناس من خلف كشك الجرائد ببدلةسهرة)

بائع الزهور: (سابقاً الرجل ببدلة السهرة، يظهر من خلف الكواليس)، ها ها ها.. تبدو في غاية الوسامة، أشبه بمتعهدي دفن الموتى.

الكناس رقم واحد:و أنت أيضاً تبدو في غاية الوسامة بهذا المعطف المنسدل حتى قدميك. (يلاحظ وجود المرأة)، مساء الخير.. آنسة ( يحاول تغطية وجهه بحزمة الزهور التي يحملها. عرفها على التو لكنه لم يكن يرغب ان تتعرف)، مساءٌ دافيء، أليس كذلك؟

المرأة : استمتعت بإطراء هذا الرجل العالي المقام لمحاولته فتح حديث معها)أها..صحيح، فالحر لا يحتمل. خرجت كي لا أختنق داخل البيت.. و ماذا عنك؟ سمعتك تمزح مع صديقك يبدوأنك تتمتع بروح نكتة عالية…

الكناس الأول:هذا صحيح..أجد متعة كبيرة في المزاح..

المرأة: أستطيع أن أراك أفضل الآن..يُخيّل إلي، أنني رأيتك من قبل في مكانٍ ما.

الكناس الأول: كلا، كلا .. لم يكن أنا، لربما رأيت شخصاً آخر.. أنا.. سفير..

(بدأ يمشي مثل حصان السيركس بخطوات واسعة طويلة)

المرأة: يا إلَهي..! سفير…! انا لم أرَ واحداَ عن قُرب.

(بطريقة مسرحية، دار حول خشبة المسرح، بوثبات طويلة عالية، مقلّدا فيها،أحصنة السيركس في عروض قفز الحواجز الأستعراضية)….لِعلمك، نحن السفراء لا نميل ان يرانا الناس عن قُرب، فنحن نشعر بخجل شديد أمامهم..

المرأة:عرفت، أين رأيتك الآن…. في التلفزيون أو في نشرة الأخبار…

الكناس الأول: أجل..ربما..أذهب إلى السينما في بعض الأحيان.

المرأة:هذا يعني أنك “كونت” فالسفير يجب أن يكون من النبلاء؟

الكناس الأول: كونت؟ كلا نحن لسنا بِـ كونت…

(يقف بين صندوق القمامة و المرأة)

المرأة: لِمَ تنكر..لقد عرفت من الوهلة الأولى، انك كونت.. هناك شيء خاص بك و سماتك تشي بدلائل الرفعة..

(عند هذه النقطة، ينفتح غطاء الصندوق و يخرج الرجل العاري رأسه من داخله و يشير للكناس بالتحرك).

الكناس رقم واحد: سببها هذا، الذيول الطويلة ..(ينفش نفسه كالطاووس)، التي علينا نحن السفراء جرجرتها خلفنا.

المرأة: هذا آخر ما كان يمكن ان أفكر به، سيماؤك ستفضحك حتى لو لبست، ملابس كناس..

الكناس: حتى لو كنت كناساً ؟ ( الرجل العاري يخطف ذيل سترة سهرته و يظل ممسكا به) أرجو المعذرة عليّ ان أعود إلى عملي الآن…

المرأة: خسارة..

الرجل الكناس: نعم، و لسوء الحظ… عليّ أخذ هذه الزهور.

( أخذ باقة الزهور و بدأ يحشرها حول فتحة الصندوق، لكأنه يرتبها في زُهْرِية)

المرأة: أحسد المرأة التي ستقدم لها هذهِ الزهور….

الكناس الأول: هذهِ لكِ ( قدم لها وردة)، سعدت كثيراً بلقائك…

المرأة: (قدمت له يدها ليقبلها. شعر الكناس بالحرج قليلا لكنه أستجمع شجاعته وقبل يدها)، هذا لطف منك و شرفني لقائك..شكراً لك.

( أنحنى لها بحرج و غادر يمشي مشية الحصان دافعا أمامه صندوق القمامة)

الكناس رقم واحد: إلى اللقاء.

المرأة: (تنهدت بنشوة و بنفس الوقت شعرت بالحيرة لطريقة خروجه الغريبة) لكن …ماذا…لماذا..؟ يا سعادة السفير ..ها ..ها .. كم أنت غريب الأطوار…..(أخذ الصندوق و مضى لكأنه يسوق دراجة نارية) ها ها!

يدخل شرطي الدورية

شرطي الدورية: ما الذي يضحكك..؟ وما عن الصندوق؟ هل جاء لأخذه؟

المرأة: من؟

شرطي الدورية: الكناس..

المرأة: لم يكن كناساً كان كونتاً..

شرطي الدورية: كونت..؟ الكونت أخذ صندوق الكناس؟

المرأة: بكل تأكيد..

شرطي الدورية: ماذا، ماذا؟ كونت يدفع صندوقاً؟ لِمَ لم تقولي شيئاً؟

المرأة: فَعلتْ..أخبرته كم هو لطيف و قدم لي زهرة و قَبّلَ يدي كما يفعل مع سيدة. كم هؤلاء النبلاء، محترمون !!

شرطي الدورية: قَبّلَ يدك و أخذ الصندوق؟ ما الذي سيفعل به؟

المرأة:يبدو أنها كانت مجرد مزحة من مزح الرجال المحترمين..

شرطي الدورية: كان يسلّي نفسه. عليّ أن أعطي هذا الرجل درساً، في العبث بممتلكات الدولة.. هل قلتِ أنه ذهب من هناك؟

المرأة: نعم..هل ستتشاجر مع الكونت بسبب صندوق القمامة..؟ اِنتظر سأتي معك…

ركب مفتش الشرطة دراجته و غادر قبل أن تكمل حديثها

تخرج المرأة راكضة أيضاً.. يدخل الكناس من الجانب الآخر، ببدلة سهرة يدفع عربته.

الكناس رقم واحد: ( يوجه الحديث للرجل العاري الذي أخرج رأسه من بين الزهور الموجودة على سطح الصندوق)، علام التذمر الآن؟ ها انت، تبدو وسط زهوري أشبه بلوحة بوتشيلي”برايمافيرا”..لا أستطيع أن أسرع أكثر من هذا. من يرتدي بدلة أنيقة كالتي أرتديها، عليه أن يمشي بوقار. فمن غير المعقول أن اركض كما تفعل الناس العادية الذين لا يلبسون بدلات سهرة، كما تعرف!!

الرجل العاري: هل كان من الضروري تضييع الوقت بلعب دور”الدون جوان” مع هذه الفتاة… اتمنى ان تعرف مدى أشمئزازي من أن أكون محشوراً، في هذا الصندوق مثل سمك السردين في العلبة.

الكناس الأول: و هل تعرف كم أشعر بالمرض مِن أن أكون خادمك للساعات الثلاث الأخيرة…

شرطي الدورية: (يصيح من خارج الخشبة)،هَيْ، أنت أيها السيد.. توقف..

الرجل العاري: ما الذي يجري؟

الكناس رقم واحد: تهيأ، اِلتزم موقعك.. اِغطس الآن!!

الرجل العاري: سأغطس… (يختفي)

الكناس رقم واحد: (يرتب زهوره على سطح فتحة الصندوق، حول رأس راكبه البائس، متنهدا بهدوء منتظراً ظهور شرطي الدورية)…

أنظر لهذه الزهور الصغيرة الجميلة

الزهور الجميلة تتفتح في الربيع

شرطي الدورية: أعتذر لإيقافك، ! هل يمكنك ان تخبرني عن سبب أخذك الصندوق؟

الكناس رقم واحد: عن أي صندوق تتكلم؟ ( ينظر إلى الصندوق بدهشة لكأنه يراه لأول مرة)، أها..نعم الصندوق!!! لَمْ أنتبه له.. كما ترى، أشتريت هذه الورود و لم أعرف أين اضعها،عندها قررت ان أنضدها هنا، مقنعاً نفسي أنها زهرية…

شرطي الدورية: زُهرية؟ بعجلات؟؟

الكناس رقم واحد: نعم. انها واحدة من الصرعات الحديثة.. زهرية متنقلة…

شرطي الدورية: يبدو انك في مزاج رائق لإطلاق مثل هذه المزح السخيفة؟

الكناس رقم واحد: صدقت..فمزاجي اليوم في أفضل حالاته.. انا أحب التهريج. ماذا عنك؟

شرطي الدورية: في الواقع، أنا….أنتظر لحظة…هل رأيتك من قبل! فوجهك مألوف جداً!!

(تدخل المرأة لاهثة بعد ركض طويل)

المرأة: أوف ..يا لها من ركضة..! مساء الخير.

(دفعت بيدها تحت أنف الكناس ليقبلها)..

شرطي الدورية: أنا واثق أنني رأيتك في مكان ما؟

المرأة: رأيته بالتأكيد… لربما في الصور أوفي التلفزيون… لقد أخبرتك أنه كونت و سفير

شرطي الدورية: سفير؟

المرأة: لا تجعل من نفسك مضحكة…يبدو لي انك مصرٌ على مواصلة إهانته بدلا من سماع ما قلته لك.

الكناس رقم واحد: أتركيه و شأنه و ليهينني كما يشاء، فكلماته لن تجرحني.

المرأة: شكر لك يا كونت. و شكراً لطيبة قلبك… أشكره…

شرطي الدورية: شكرا…و عليك ان تفهم ان الأمر ليس بيدي و إلا لقلت لك، خذ أية عربة تريد ( تبدأ الزهور داخل العربة بالإهتزاز بطريقة غير طبيعية.. يبدو ان من في داخلها يطلب من سائقه أن يتحرك)، لكنها ممتلكات مجلس المحافظة وبدون تصريح رسمي لا أستطيع بكل أسف…

الكناس رقم واحد: (مقاطعاً)، أنا أتفهم وضعك…أنت تقوم بواجبك.. و لا نية لي بسرقتها… كنت أرغب بإستعارتها لا غير.

المرأة: هذ صحيح كان ينوي إستعارتها و إلا كيف يمكنه حمل كل هذه الزهور إلى بيته… ولا أظن انك تتوقع من كونت بمكانته، حمل كل هذه الزهور على يديه؟

شرطي الدورية: يمكنه حملها بالطريقة التي يريد..لكني غيرمُخول بالسماح له أخذ العربة، دون تصريح رسمي. (بدأت الزهورتًلوِح و تتمايل بطريقة غيرطبيعية، مما دفع بالكناس صفعها متظاهراً، بأنه ينش الذباب).. والأدهى من ذلك، أنك لم تفكر مطلقاً بالكناس المسكين الذي سيفقد عمله إن أخذت الصندوق.

الكناس رقم واحد: بالضبط….هذا تماما السبب الذي يدفعني  لعدم أخذه … لأنه صندوقي.. .

شرطي الدورية: ها انت أيها اللورد الوسخ تسلّي نفسك بطرد الكناس المسكين من عمله. و المأساة، أن الناس، ما زالت تصوّت لبقاء الملكية.

الكناس رقم واحد: أرجو ان لا تُدخلنا في السياسة، و عليّ أن أخبرك إن كنت مصرا على معرفة الحقيقة، أن لا وجود لشيء أسمه كونت أو سفير بيننا الآن، و ما أنا إلا، كناس شوارع.

شرطي الدورية: و أنا فيل..

الكناس رقم واحد: (ينظرإليه، نظرة متفحصة).. فيل؟… فيل بمسدس؟ هل تعتقد انه يمكنك خداعي؟ فانا خبير بالأفيال..

شرطي الدورية: أخدعك؟ هل تعتقد انني لم أعرف أنك كناس منذ بداية لقائي بك؟؟

المرأة: ماذا تعني؟

شرطي الدورية: كان من الواضح لي أنه كناس، من بدلة السهرة التي يلبسها، فالكل يعرف أن مجلس المحافظة أصدر قراراً بتغيير الزي الرسمي  لموظفيها بموديلات جديدة..و أصبح لزاماً على جميع جميع الكناسين أرتداء “ستر سهرة”… وعلى جميع  ملاحقي الكلاب، لبس”ملابس صباحية”.. و عمال المواسير لبس” سترات رقص”… فما الغرابة في ذلك؟؟؟

الكناس رقم واحد: قَبل ان تبدأ بالتمسخر عليّ، اريدك ان ترى هويتي ( يبحث عنها في جيوب  سترته)... اللعنة، كانت في محفظتي التي سرقها النشال….

شرطي الدورية: أخبرتك منذ البداية انك لست بحاجة لإقناعي، فأنا مقتنع كلياً.. عليك أقناع المفتش الذي يفتقر كلياً إلى الخيال.. وان لم يجد ما يفعل، فأنه سيضع الأصفاد في معصميك…

الكناس الأول: ها ها ها ..عظيم … أصفاد…كنت أمزح، لا أكثر!

المرأة: هذا صحيح..أتركه و شأنه…كان يمزح معك..

شرطي الدورية: طيب. أجمع زهورك و أترك لي الصندوق ( يستدير نحو المرأة و يعطي ظهره للكناس الذي كان يتكأ على العربة) من الآن فصاعدا عليكَ، الإهتمام بشؤونك الخاصة..

الرجل العاري: (يظهر من الصندوق)، لن أفعل! (يختفي في الصندوق ثانيةً)

شرطي الدورية: (معتقداً ان الكناس يتحدث معه) لا؟ كن على يقين انني سأسجل كل ماقلت و سيستخدم كدليلٍ ضدك…

المرأة: أتركه…و لا تزج نفسك بمشاكل.

(يدير شرطي الدورية ظهره مرة ثانية)

الرجل العاري: (كما ذكرنا أعلاه)،هيا.. أقبض عليّ، لكنك ستدفع الثمن في النهاية!

شرطي الدورية: (بعدوانية)..هل تعتقد أنك أخفتني، أنصحك ان لا تتحامق معي و إلا ستضع نفسك في مشاكل..

المرأة: ( تبدأ بشدّه من سترته للفت أنتباه شرطي الدورية)..

الرجل العاري: (أستغل الموقف بضرب شرطي الدورية الذي كان ممسكاً بياقة الكناس).. أبعد يدك القذرة عني أيها الجلف…

(يختفي داخل الصندوق مرة أخرى)

شرطي الدورية: تسميني بالجلف؟ ( يصفع الكناس المسكين على وجهه)، لقد حذرتك.

الكناس رقم واحد:ه َيْ…آخ… ليكن لديك شيء من الرحمة…أنت تؤذيني..آخ؟!

المرأة:هل جننت؟؟ سيقاضيك بالأعتداء عليه و ضربه… و هو محق بهذا..

شرطي الدورية: (يدير ظهره مرة أخرى للعربة) أ ها .. لكونه نبيلاً، فهو على حق..في عالم الحمقى، يحق للأغنياء، ان يسخروا منك، أن يهينوك و يصفعونك على الخد…

الرجل العاري: (يرمي شيئاً من التفاح على رأسه) و يرمون التفاح العفن على رأسك…

شرطي الدورية: (يستشيط غضبا و يستدير للكناس، قابضا على لفاع عنقه)، أيها الخسيس…! أتريد مني أن أقتلك؟

الكناس رقم واحد: كلا، كلا، لا أُريد..

(يتلقى لكمة أخرى على وجهه و ضربة في بطنه… المرأة المذعورة، تغطي وجهها بكفيها).

المرأة: سيقتله… يا إلهي.. توقف..توقف. النجدة، لقد قتل السفير…

الرجل العاري: (كان يراقب بفرح من مخبئه بين الزهور، الضربات التي كان يتلقاها الكناس) ها ها ها .. ضربة جيدة.. بقوة على اليسار…

في تلك اللحظة بالذات اِنحنى الكناس من الألم فجاءت الضربة بوجه الرجل العاري، حمله

شرطي الدورية ودار به للحظات حول الخشبة.. ثم توقف. أختفى الرجل العاري مغمىً عليه داخل الصندوق بسبب اللكمة التي تلقاها من شرطي الدورية.. وتناثرت بعض الزهور على الآرض…غطي الكناس صندوق القمامة بهدوء …. .

الكناس رقم واحد: (… يرى شرطي الدورية يعود مرة ثانية لمواصلة ضربه).. لنعلن السلام.. السلام. لا أريد مواصلة اللعبة

شرطي الدورية: و أخيرا عُدت لصوابك..

الكناس رقم واحد: نعم… نعم بالتأكيد.. تستطيع الأحتفاظ بالعربة و ما في داخلها.

المرأة: هل آذاكَ؟ (تستديرللشرطي الدورية ساخرة).. قمت بعمل جيد أيها الشرطي.. أتمنى ان تكون فخوراً بنفسك الآن… .

شرطي الدورية: لحدٍ ما.. كان على هذا الرجل ان يتعلم درساً، في عدم التدخل بشؤون عربات الغير ( يجمع الزهور المتساقطة على الأرض).. خُذ زهورك.

الكناس رقم واحد: كلا.. خذها أنتْ.. فهي هدية الفائز.. هذهِ تقاليد متعارف عليها.

شرطي الدورية: شكراً..سأخذها بكل سرور..يرمي الزهور في الصندوق دون ان ينظر في داخله…

الكناس رقم واحد: سعدت بلقائك..عيد فصح مبارك

( يعتلي الشرطي دراجته و يخرج جاراً صندوق القمامة وراءه)…

المرأة: لماذا هنأته بعيد الفصح؟

الكناس رقم واحد: العادة في عيد الفصح، ان تفتحي بيضة عيد الفصح.. و ستنتظرك الكثير من المفاجآت داخل البيضة…

(يضحك)

المرأة: توقف عن الضحك بهذه الطريقة لأنه يدعوني للبكاء..

الكناس رقم واحد: هل ضحكتي سيئة لهذه الدرجة؟

المرأة: لا.. عندما أرى آخرين يضحكون و لا  أشاركهم الضحك، أغضب لدرجة البكاءلأنني لا أعرف سبب ضحكهم..

الكناس رقم واحد: ما السبب؟

المرأة: لأنني أكتشفت في النهاية، مدى غبائي، فأنا آخر من يلتقط النكتة .. .

الكناس رقم واحد: على العكس، يجب ان تكوني سعيدة.. فكما يقولون: الآخير يجب ان يكون الأول و ما قبل الأخيرهو الثاني و الثالث هو الأخير.. وهَلُمِ جرا…

المرأة: كم استمتع بِأحاديثك..شيء جميل ان يحس الواحد منا، بآدميته..

الكناس رقم واحد: في الواقع، انا لم أشعر في حياتي، أنني كنت شخصاً ذا قيمة.. بأختصار،كنتُ لا أحد..لا شيء… و بما ان اللاشيء (جلس مكتئباً على المصطبة)..تباً لي… نسيت ماهو أللا….. ما اريد قوله : سواء لبست بدلة ملك، أو مهرج، جنديٍ أو قسيس، عارٍ تماماً أو ببدلة سهرة أنيقة، سأبقى بنظر نفسي، عاريا..بكلمة أخرى سأبقى الكناس… هل فهمتِ ما قلت؟

المرأة: كلالالالا! فأنا آخر من يستوعب ما قلت..!

الكناس الأول: كلا..لنفكر بما عنيتِ، حين قلتِ انكِ آخر من يستوعب ما أقول… لأنكما الأثنان (مشيراً لها و لشرطي الدورية الذي غادرالمسرح لتوهِ)، لم تفهما انني كنت عاريا أو بكلمة أخرى”كناسا”… بمعنى: حين كنت ألبس بدلة السهرة، كُنت بنظَركُما ” أحد”… و هذا يعني انني لم أعُدَ ” الله”…هل فهمتِ ما قلت؟

المرأة: كلا بالتأكيد..على كل حال، انتَ ما زلت بالنسبة لي الكونت و السفير…

الكناس الأول: اِسمعي، لقد أخبرتك انني لم أكن سابقاً، كونتاً أو سفيراً. و اليوم بعد ان فقدت  عملي و نقودي، لم أعد كناساً. كان عليهم على الأقل، ان يبقوني” الله”… ماذا سأقول للبابا الآن؟! أنا واثق أنه سيكون في قمة الإستياء، إن عَلِمْ بذلك…

المرأة: (تتحسس جبهته بقلق).. هل ما زلت تشعر بصداع؟

الكناس رقم واحد: كلا…كلا..أشعر بتحسن الآن.. لن تصدّقي ما حدثَ لي.. فبقدر تعلق الأمر بي، لم يعد هناك شيء يعنيني على الأطلاق… أنتهى الوقت الذي ظننتُ فيه أنني” الله “، بعد ان أدركت، أنني أحَد… و الأفضل من هذا كله، إدراك الآخرين أيضاً، انني أحَد.. لذا أنا سعيد..

المرأة: و أنا سعيدة أيضا…

الكناس الأول:غريبة هي الحياة. يُمضي الواحد منا حياته، يصارع يائساً، تحقيق ما يطمح إليه، ليكتشف في النهاية، ان كل ما كان يحتاجه، هو استبدال ملابسه، بملابس رجل آخر..! أخيراً، حصلت على ما أريد، بسبب لقائي غير المتوقع بـ “الدبلوماسي العاري”…

المرأة:عن أي دبلوماسيٍ عارٍ، تتكلم؟

شرطي الدورية: (نسمع صوته يصيح من خارج الخشبة )… أمسكوه.. أمسكوه

الكناس رقم واحد: ها هو ذاك..

يؤشر إلى خلفية خشبة المسرح.. بإمكاننا رؤية رجل عارٍ يعبرمسرعاً الخشبة،لكأنه يدفع عربة بيده..

 

ظلام

28.05.2020

Primavera

تعني باللغة الإيطالية” الربيع”، عمل فني للرسام ساندرو بوتشيللي عام  1470 أو 1480

__________________

نبذة عن حياة الكاتب المسرحي داريو فو

       يتحدث داريو فو الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1997 في إحدى المقابلات التلفزيونية(1) عن رحلته الحياتية قائلاً:”ولدت (راوية) في بلدية سانجيانو، شمال غرب ميلانو، الواقعة قرب بحيرة ماجوريّ. كانت البلدة تتمتع بوضعية نادرة غريبة: كان فيها مصهر كبير للمعادن و معمل قديم جداً لصناعة الزجاج، يزود العالم بمختلف أجهزة الطبابة و الأعمال الفنية الصغيرة منها و الكبيرة لأغراض الديكور في البيوت و الشوارع و البنايات. عمل في هذا المصنع الآلاف من أسطوات الفن و نافخي الزجاج الذين جاؤوا بجماعات من آسيا و أوربا طلباً للرزق. كانوا يتحدثون بلغات مختلفة و لأجل التواصل و التفاهم فيما بينهم، ظهرت لغة غريبة، كانت مزيجاً من الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، لهجة اللومبارد و اللغات الأسيوية، لتصبح فيما بعد وسيلة التفاهم المتداولة بين هذه الأقوام. في مرحلة الدراسة الأولية، أبتدعنا لهجة جديدة، أعتمدنا فيها على إقران الأشياء و الأفعال بالأصوات المرتبطة بها لتصبح فيما بعد، وسيلة التفاهم بيننا.(9)

       ولِدتُ مهرجاً

       تعلمتُ فن السخرية و الهزل، من جدي الذي كان يصطحبني معه على عربته التي يجرها الحصان متجولين في الأرياف لبيع محاصيله ..كان يجتذب الناس بقصصه و نوادره المذهلة، و إخبارهم بما يجري حولهم. و عندما لا تكون مبيعاته جيدة كان يقول لي:”يبدو ان حكاياتي لم تكن ممتعة هذا اليوم”. في سلسلة جولاتي كممثل أرتجالي، كنت أقلد حكايات و نوادر جدي، كما و تعلمت من والدي الذي كان يتنقل بنا من بلدية إلى أخرى بسبب عمله كناظر محطة في السكك الحديد بالإضافة الى عمله كممثل مع بعض الفرق المسرحية، أساليب سرد و قص الروايات وكان للرعاة و صيادي السمك و المهربين دورٌ مهمٌ في الألمام بفن الاْرْتِجال و التورية و المحاكاة، كذلك فن التلاعب بالألفاظ، الإيماء و القدرة على أستخدام تعابير الوجه وحركات الجسد. كان الجميع مولعا بالقص في بلدتنا، فقلدتهم و أقتبست من الأجانب رواياتهم.. بعدها بدأت أنا الآخر، بالقص. بدلاً من إكمال دراسة الرسم في كلية الفنون، اِنضممت إلى بعض الفرق المسرحية الجوالة و بدأت اقدم من خلالها، عروضي الاْرْتِجالية الهزلية.

       “لقائي بزوجتي (فرانكا ريمه)، الفنانة السينمائية و المسرحية كان له الأثر الكبير في حياتي. علاقة عائلتها بفن التمثيل، كانت تعود إلى القرن السادس عشر. تأثرت بجدها و والدتها اللذين سلكا الطريق نفسه… يبدو ان فن التمثيل، كان يجري في عروق هذه العائلة. كانت تقول:”أنا لا أعتبر عملي ككمثلة مسرحية مهنة بل الحياة نفسها”. علمتني المعنى الحقيقي لأخلاقيات المسرح و حرفياته و العمل على نشر التوعية من خلال موضوعاتي السيا/اجتماعية الهزلية و الكتابة عن أشياء مثيرة للجدل كالسياسة، الاِستغلال، البطالة، القمع، الفقر… و كسر الجدار الرابع بيننا و بين المتفرج. فالجمهور، هو الجزء الأهم المكمل لعملنا.

بوجود ممثلة محترفة إلى جانبي استطعنا خلق ثنائي متفرد في العروض الاْرتِجالية الهزلية التي كنا نقدمها في عروضنا التلفزيونية. في الأعمال التي قدمناها على خشبة مسارح الطبقة البرجوازية التي كانت تستمر لأشهر، نجحنا في فضح سلوكياتهم و أخلاقياتهم وإشراك جمهورهم بنقاشات أثارت حفيظتهم و غضبهم لأننا حملناهم عقدة الشعور بالذنب.

       في هذهِ المرحلة من عملنا، شعرنا بضرورة تغيير نوعية جمهورنا و التوجه الى تجمعات العمال و الفلاحين الذين لا تسمح لهم امكانياتهم المادية بارتياد مسارح البرجوازية. طرقنا أبواب المراكز الإجتماعية التي لا تبعد كثيرا عن بعضها، التابعة للبلدية و التي لم يكن لها علاقة بالمسرح. كان أغلب مدرائها من ذوي التوجهات الاشتراكية و الشيوعية و كذا كان الحال مع روادها الذين كانوا يذهبون إلى هناك لقتل الوقت….قاعات فسيحة واسعة لا تمتلك خشبة مسرح، و أجهزتها الصوتية في غاية الرداءة .. قابلنا مدراءها و اتفقنا على تقديم عروضنا فيها و تجهيزها بما نمتلكه من معدات، شرط مساعدتنا بالتنظيم و دعوة الناس .. اِجتذبت عروضنا إلى جانب العمال و الفلاحين، الطلبة و ربات البيوت.. أصبح لدينا مسرح جوال نتنقل به بين المراكز الاِجتماعية.

       مهمتي اصبحت أسهل فأنا اِبن هذه البيئة. بدأ الجمهور يرتاد مسرحنا بأعداد كبيرة مما حدا بالبعض منهم بسبب الحماس، أن يصعد الخشبة لمشاركتنا في التمثيل. كنت في عملي أهتدي بأفكار برشت حين قال: “عند الكتابة لا تنسَ عامل المتعة على الأطلاق”. من هذا المبدأ، بدأت أُدخل في اعمالي الغناء، الموسيقى، الإشارات، التمثيل الصامت  وكل ما يدخل المتعة للجمهور الذي كان يستمتع بدعوته مشاركتنا نقاش العمل و التحدث عن مشاكله و عن ما يجري في قراهم وفي عملهم، أو لما يتعرضون له من اِستغلال و اِضطهاد… كانوا يستفسرون عن مدى مصداقية و أمانة برامج الأحزاب السياسية (المحافظة و الشيوعية) بتنفيذ وعودها. كنا نقدم عروضاً في الملاعب الرياضية المغلقة تجاوز جمهورها الآلاف، مما أثار حفيظة المحافظين و الأحزاب الفاشية.لجأوا إلى التفجيرات التي حصدت أرواح المئات من جمهورنا .. اِستخدموا مختلف الحجج لغلق مسرحنا  و منع عروضنا.. اعتقلوني مع مجموعة من زملائي و كنا نربح المرة بعد المرة و أخيرا اختطفت( الجندرمة الفاشية)، زوجتي الممثلة، و أغتصبوها في سجنها و أستخدموا أبشع أنواع التعذيب معها… الجريمة الجنائية التي ارتكبتها الدولة ضد زوجتي لم يحاكم عليها احد. و على الرغم من نشر اسماء من قاموا بها في الجرائد مع قوائم الأرهاب إلا أنهم نجحوا في طمطمة القضية ولم يتم الاِقتصاص من جلاديها”(1). اصبحت فرانكا فيما بعد عضواً في مجلس الشيوخ الإيطالي.

       “”كان داريو فو، من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل على مستوى الكتابة المسرحية

       لقد كان راوية اِرتجاليّاً ساخراً،؛ كان مغنٍ و مؤلف أغاني؛كاتباً؛ مخرجاً و ممثلاً مسرحيّاً؛ رساماً؛سياسيّاً؛ قلّدَ مهرّجي العصور الوسطى في فضح السلطة الاِستبدادية للدفاع عن المضطهدين”. اِستمد أولى موضوعاته المرتجلة، من قصاصي و رواة القرون الوسطى مستخدماً، فنون و شخصيات المسرح الاِرتجالي الإيطالي القديم التي قام بتكييفها لتتلاءم و إرهاصات عصره. شعوب عانت من حربين عالميتين، تم فيها تدمير، عقليات و أخلاقيات مجتمعات كاملة، كانت بحاجة لكتاب و فلاسفة و فنانين و مهرجين من نوع جديد. هيمنة الكنسية، إنتشار الأفكار الوجودية و العبثية و الماركسية، كانت من الأسباب و العوامل التي أثرت على تفرده، تطوره و انتشاره لاحقاً ليصبح، شاهد عصره و الابن البار الذي تمكن و بإبداع من عكس واقع البيئة الأجتماعية التي نشأ و ترعرع فيها.

…….

1-Louisiana Channel, Louisiana Museum of Modern Art,

Dario Fo was interviewed by Christian Lund at Hotel Bella Sky in Copenhagen on 10 November 2015.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم