د.جمال فودة
إن النص الشعري لا يستمد دلالته من العدم، وإنما تكمن جمالياته في تحولات الأداء اللغوي الذي يجسد حضور اللغة من خلال العلاقات التي تتشابك في دائرة النص بين الدلالة والتركيب، وحتى يتمكن الشاعر من استكشاف المعاني الكامنة في بنية الكلمات، لابد له من خرق معيارية اللغة وتجاوز ثباتها إلى مجال أكثر انفتاحاً .
وها هو فارس الشعر أو كما يصف نفسه (العملاق في دنيا القوافي) وحق له هذا، فقد بلغ من العمر عتياً، ومازال إبداعه يسري ويثري؛ ليرسم لنا بكلماته لوحات خالدة تجسد تجربة حافلة بالتميز والإبداع.
منذ نعومة أظافره وهو يحلم بعالم يسوده الحب والخير والسلام، لا خوف من غدر، ولا رعب من مكر، لا ذل، ولا فقر، لا حزن، ولا ألم، ولا يحمل ذلك إلا قلب بحجم الكون.
قلب بحجم الكون: تلك قضيتي
وقضيتي الإنسان، تلك قضيتي
وأنا الوجود مجسداً في شاعر
لم ينغلق ـ يوماً ـ ولم يتعنت
وشريعتي: أن الشرائع لم تجئ
إلا لنبذ البغض والعصبية
اجتمع في المقطع السابق التّرديد والتّصدير، (قلب بحجم الكون: تلك قضيتي، وقضيتي الإنسان، تلك قضيتي) لقد غدت الصّورة الإيقاعية بسببهما مكثّفة معقّدة لِتَوزُّعِ عناصرها توزّعاً منتظماً حيناً ومختلفاً حيناً آخر. فإذا كانت اللّفظة (قضيتي) محور التّرديد، قد حافظت على بنيتها، فإنّ التّصدير قام على بنية متغيّرة، وقد أضفى هذا التّغيير على الدلالة نوعاً من الحركة رافقتها الدّلالة الزمانية المطلقة (لم ينغلق يوماً)، ولمّا قُيّض للألفاظ المتردّدة أن ترتبط نحويّاً وسياقاً بالتّصدير، فقد نجم عن ذلك تفاعل التّصدير مع التّرديد ضمن حركة الدلالة التي تدور في فلك التحرر من التعنت والبغض والعصبية.
وفضلاً عن ذلك فإنّ أهمّ ما يلاحظ في المقطع السابق هذه البنية المتناسبة عروضياً، والّتي تتردّد فيها اللفظة بعد نسبة ثابتة من الوحدات الصّوتية تجعل مدّة التّرديد متناسبة إلى حدّ بعيد.
وسوى المحبة ليس لي مطلب
أسعى إليه وليس لي من بغية
يا أيها الزاري علي صبابتي
دعني وشأني واحتدام صبابتي
إني لكل الناس في الدنيا أخ
وبنو الحياة جميعهم إخوتي
والشاعر الكوني ذي أمنيتي
منذ طفولتي للقصيدة فطرتي
وانا ابن شعري: قلتها وأقولها
وإليه تُعزى نسبتي وهويتي
ومشبَّه حبي وشعري بالمدى
وهما معاً رفضي لمحدوديتي
موتي هم المتزمتون وما دروا
أن الحياة نقيض كل تزمت
بتأمل المقطع السابق نجد كيف يسهم موقع اللفظ في بيان قيمة التقديم الفنية، لأن تصدير الشاعر النص بالمفردة المختارة ـ لا شك ـ يحمل شحنة يتلقاها المتلقي، وتمثل مرحلة من مراحل الاتصال بينه وبين المعنى، فإذا ما تكامل بنيان التركيب بتضام هذا اللفظ مع تاليه يأخذ المعنى في التكامل وتتوثق علاقاته .
فلأن ” المحبة بكل معانيها ” هي غاية شاعرنا؛ فلن يحفل بلومة لائم، ولأن فطرته جبلت على أن تتسع لكل البشر، فهو (لكل الناس في الدنيا أخ)، ومن ثم فإن نسبته للمطلق لا المحدود، فآفاق شعره تعانق المدى، هناك خارج حدود الزمان في اللا مكان تجده (الشاعر الكوني) الذي ينصهر وسط الجموع؛ كيف لا (وبنو الحياة جميعهم إخوتي)، إنه لا ينتسب لأحد سوى ذاته، ولا يؤطر هويته، فالشعر مبتدأه ومنتهاه (وإليه تُعزى نسبتي وهويتي)
والشاعر بتقديم الجار والمجرور أثار وجدان المتلقي نحو ما قدمه من ناحية، وبحذف الفاعل من ناحية أخرى قد عمل على تركيز العبارة وإثراء دلالتها.
ولو قمنا بتحويل الجمل السابقة إلى كلام نثرى من خلال إعادة ترتيب الأدلة حسب قوانين اللغة العادية، فقلنا ـ مثلاً:
وسوى المحبة ليس مطلب لي، أسعى إليه وليس من بغية لي، يا أيها الزاري صبابتي عليّ، إني أخ لكل الناس في الدنيا، منذ طفولتي فطرتي للقصيدة، وتُعزى إليه نسبتي وهويتي، لوجدنا أن النص بهذا الصنيع ـ بترتيب الأدلة حسب القواعد النحوية ـ يفقد قيمته الشعرية ومزاياه الإبداعية.
لقد أدى التقديم إلى إحكام التركيب بربط بدايته بنهايته، كما كشف عن استغلال الشاعر لما يتيحه نظام اللغة من إمكانيات تمكنه من تخطى سكونية البناء النحوي، إذ ينحرف التركيب الأدائي عن النمط التقليدي لإبراز المعطى الفني، والذي تختلف خواصه الفنية باختلاف القالب المصوغ فيه .