محمد هاني
عودة
١
انزلقت بخصرها جانبًا لتبقي رأسها مستريحةً على صدري وفخذها حول خصري، ضمتني بذراعها المقابل لي واحتويتها بدوري. تهاوت حدة أنفاسنا تدريجيا، اصطدمت أنفاسها بأعلى صدري وأسفل رقبتي بينما توغلت أنفاسي في شعرها الكثيف من القمة الخلفية لرأسها إلى أسفلها، وظلت يدي تملس جلدها الندي من وسط ظهرها إلى مقدمة فخذها متأملا منحنياتها. مرت بضع دقائق في صمت، عدلت فيهم موقع رأسها لتتبين لي ابتسامة هادئة مرتسمة على وجهها، أضافت جفونها المغلقة بعض الغموض لتلك الابتسامة.
لم يكن الموقف يحتاج لمزيدٍ من الغموض فكنت احتفظ بسيل من الأسئلة بداخلي، وأقنعت نفسي أن من الحكمة الانتظار وطرحها بأوقاتها المناسبة، وربما احتفظت بها داخلي إلى الأبد، تعوّدت أن أفعل ذلك معها بشكل خاص تعبيرًا عن التفهم. أما فيما يتعلق بتلك الابتسامة الآن.. بعد ما اختبرناه للتو.. وبعد الخمسة أيام الأخيرة، فكل ذلك كفيل بتشتيت تفكيري عن أي استفهام آخر، أردت أن اسألها عن السبب دون أن أقابل برد تقليدي، هل كانت تعبيرًا عن إشباع؟ أم انتصار؟ أم تمهيد لأجندة غائبة عني؟، ارتفع صدري مستجيبا لنفس عميق انتبهت له فقاطعت ما دار برأسي بسؤالها، “مالك؟” دون أن تغير وضعها، وعندما طال عجزي عن الإجابة رفعت رأسها ملتفتة لي، فابتسمت:
“.. معلش.. لسة بستوعب”
ابتسمت لإطراء تعلم أنه راجع لسنوات مضت تمنيتها بها دون أمل حقيقي. حاولت أن تسحب الغطاء علينا وهي ترجع لوضعها الأول، لكني شاكستها بدفعه مرة أخرى. كان ذلك إطراء آخر لم يغب عنها لكنها صممت على استعادة الغطاء بعد أن كافأتني بقبلة طويلة، ثم وضعت رأسها بمكانها ثانية. ساد الصمت مرة أخرى في محاولة انتقال لقيلولة بينما استمر تأملي لشعرها، فقد كنت أراه للمرة الأولى…
٢
عادت بعد سنتي إجازة الأمومة، ووقع بصري عليها تتحدث مع موظف الاستقبال. كنت أسير باتجاهها في طريقي إلى استراحة تدخين، متجاوزا البوابات الإلكترونية، عندما انتبهت إليَّ حسمتُ خياراتي بين المضي متظاهرًا بعدم ملاحظتها وبين الترحيب بها كأن شيئا لم يكن.
“حمدالله عالسلامة”
“الله يسلمك”
ألقيتها بحماس وأنا مقبل، أخذت هي خطوتين تجاهي مبتعدة عن موظف الاستقبال، ثم رفعت يدها بدعوة لإنزالها على كفي. استجبت متأخرا بضع ثواني للتأكد إن كان هذا ما نوته فعلا بعد أربعة سنوات اعتذرت أثنائها أمام الأيدي الممتدة. بعد التحية والترحيب استفسرتُ إن كانت ستكمل عمل بالمكان أم في زيارة لتنهي إجراءات الاستقالة، فأكدت لي استمرارها.
“أنت كنت طالع تشرب سيجارة؟”
سألتني وهي تهم باصطحابي ووافقتها للخارج، أردت استجماع أفكاري إثناء خطواتنا فكان هناك الكثير من التظاهر بالطبيعية في الثواني السابقة، لكنها فاجتني للمرة الثالثة بإعطائي محمولها لأرى صور لها مع طفلها، في بعضها ظهر زوجها معهما، ومرة أخرى تظاهرت بطبيعية التأثر لما أشاهد.
استقررنا ببقعة دخنت بها سيجارتين وأنا أتابع حديثها عن ابنها وسلوكه، ما يرهقها به وما يريحها، علاقته بمن حوله، أقارب كانوا أو غرباء. استمعت وأنا ادعي الحماس مضيفا بعض الاستفسارات لابتسامتي. انتهى حديثها عما فاتني عنها، وبدأت تظهر لحظات من الصمت حاولت ملأها بأسئلة أعادت ما قالته بالفعل بصيغة جديدة، ثم عدنا للصمت مرة أخرى. كنت أتحسب لأي إحراج أو أي إشارة لفترة انقطاع اتصالنا. ظل ذهني يتوقع ما قد يربكني وكيف لي برد يتجاوزه. كنت أفضل أن يمر لقاؤنا دون عتاب أو مناقشة يمكن الاستغناء عنها، لاعتقادي بعدم الجدوى أو ربما لجهلي بها.
استغرقت وقت استراحتي واستهلكت كل ما يمكن سد فراغات حديثنا به، فهممت بالدخول مرة أخرى. أشار موظف الاستقبال لها بانتهاء المطلوب فاتجهت صوبه لتستلم بطاقتها ثم التحقت بي عند البوابة الإلكترونية المجاورة.
“انت قاعد فين؟”
حاولت وصف مكان المكاتب الذي انتقلت له في غيابها،
“وريني طيب.”
تأملت المكان عند وصولنا وانتبهت إلى غياب باقي الزملاء، سحبت أحد الكراسي المجاورة وانضمت لي: “ممكن أعرف أنت ليه خدت جنب؟”
كانت تعرف أسبابي جيدا، مجرد تجاوب لمسافة قدرتها هي وقررت فرضها على كلينا بمجرد زواجها. مهد سلوكها الفاتر لتلك المسافة وأكدها قرارها بعدم دعوتي لمراسم الزواج. تعجب البعض من غيابي يومها لكني تمسكت بجانب آخر مما حدث، اعترافها الضمني بأثر ظهوري المتأخر بحياتها. غير أني لم أستطيع لومها جديا لعلمي أن صداقتنا هي الأولى من نوعها والوحيدة لها. كل ذلك لم يترك لي غير الانسحاب حينها والتجاوز الآن:
“لا جنب ولا حاجة، أنا ما عنديش مشكلة، أنت خدتي قرار وأنا احترمته، ما ينفعش بقى افضل موجود عادي.”
سألتني وهي تماطل عن سبب عدم محاولتي للاستفسار، وأجبتها مبتسما: “كده يا أبقى ما بفهمش يا ماعنديش دم”.
عجزتْ عن إكمال ما بدأته، لكن رجوع اثنين من الزميلات من استراحتهما منحها ما تحتاجه. غادرتْ معهما بعد استقبالهما الحميمي لها ورجعا بدونها. أما أنا فعدتُ لما أوقفته قبل وصولها. راجعت ما دار بيننا وارتحت نسبيا لنتيجته، غير أنها لم تكن (نتيجة) للقائنا.
انتبهت ليدها تترك على مكتبي احدى قطعتي شوكولاته “باونتي” وعندما رفعت رأسي لوجهها لم الحق سوى خطواتها مسرعة خجلى. نفس خطواتها التي ميزتها بصوت تلجيم عرض تنورتها لطول خطوتها. تتبعت ذات الخطوات قبل ذلك بثلاث سنوات بعد أول “باونتي” تقتسمها معي، تركتني مرةً ثانيةً مستعدًا لأيٍّ ما ستتركه لي.
ذهاب
١
فرغتُ من إجراءات الاستقالة وسلّمتُ كلّ متعلقات الشركة، استنزفت الزمن الباقي في التنقّل بين مجموعات مختلفة من الزملاء، احتوت أغلبها على تمنيات بالتوفيق وسط استفسارات متحمسة عن الخطوة القادمة. عادة ما يُحسد صاحب التغيير على إنجازه، وينظر له بعين الأمل كأي منتصر. لكني راقبت الوقت متشوّقا للقائها أثناء استراحتها كعادتنا. فقد كانت نظرتها منذ أن أخبرتها هي ما ثبت خطواتي، ومصارحتها ” كنت حاسة إن انت جنبي ومتطمنة” أنستني المسافة التي خلقها زواجها بيننا، حتى وإن كانت مقولتها في سياق المساندة العاطفية للأصدقاء.
ابتسم كلانا حين تقابلت نظرتانا، وعندما وصلت لمجلسي لفت انتباهها:
“أنت خدتي بالك إن احنا دايما بنبتسم لما بنشوف بعض؟”
ردت بنظرة بها استسلام، ثم سألتني كيف صبرت على سلوكها الجاف في أول تعارفنا وعلى أفقها الضيق:
“أنا كنت هبلة قوي”.
كانت محقةً، ولكني قررت التحدث إليها عندما رأيتها أول مرة، اختلقت حجةً طالبا مساعدة فنية، وأخبرتها بحيلتي في وقت لاحق، فبما أني لم يكن لدي صداقة من هذا النوع غيرها، وكنت بدوري الوحيد لديها فلم أر سببا للاحتفاظ بما شعرت به، وشجعني دوما خجلها.
“أنا مش فاهمة إيه اللي عجبك فيا.”
كانت تعلم أثر جمالها علي، لكنها استغربت اختلافنا العميق، ما بين شابة تزوجت من زميل دراستها وشاب لم تدم له علاقة أكثر من ستة أشهر. لم يخف على أحد ملازمة أحدنا للآخر، لكن لم يتوقع أحد اقتصارها على ساعات العمل. فعلى مدى السنوات لم نلتق ولو وسط آخرين، كلما أعددنا لذلك فشلنا لسبب أو لآخر، لكن فعليا كان السبب واحد.
وافقت على تعجبها ساخرا: “احنا ما بنحبش حد عشان يستاهل”،
ومنطقيا كان سؤالها التالي لماذا لم أتوقف. أسبابي لم تكن منطقية، لم يكن هناك ما يقنعني بفرصة بيننا وتعاملت خارج علاقتنا على هذا الأساس، استمرت علاقاتي بعيدا عنها، وكانت مطلعة عليها جميعا.
مرة أخرى وافقتها “مش عارف.. بس هي مش حاجة أنانية.. أنا مش مستني منك حاجة..”
ساد الصمت لحظات ثم مددت يميني طالبا يسارها، “لأ”، أبقيت يدي على وضعها، هزت رأسها رافضة بينما استجابت عينيها، سلمت أطراف أصابعها، فأطبقت عليهم لثواني حاولت هي الإفلات خلالها نصف جادة.
قاربت استراحتها على الانتهاء، ولم يكن هناك ما يبقيني بالمكان أكثر من ذلك. رافقتني إلى خارج المبنى ووقفت معي لسيجارة أخيرة بصحبتها، راحت وغدت بطولها أمامي كـ “فهد ريلكة”. راجعنا ما قد تكون خطةً للقاء جماعي قريب، وربما بشكل دوري لكني لم أعلق أي آمال، وتوقعت أن يرسو أمرنا على مكالمات متباعدة الوتيرة، ثم غادرت بوداع مؤقت.
٢
حاولت قراءة ما يدور برأسها وهي مستغرقة بقيلولتها، بدت لي في سلام تام بفكها المرتخي وأنفاسها الطويلة. بينما لم يكفّ ذهني لحظة عما تفعله وخفت أن ترجعها اسئلتي. بعد انقطاع دام قرب عام من أخر اتصال بيننا، تصورت أنها أرادت طي صفحتنا كما توقعت من قبل، فوجئت باسمها على المحمول وأجبتها مخفيًا تعجبي واحتفظت بأريحيتي عندما اقترحت أن نتقابل. صار لقاءنا هادئا فقد استنُفذ شغفي على مر السنوات، حتى بعد ما أخبرتني أنها منفصلة عن زوجها منذ عدة شهور نزلت بها عند والدتها، وأن محادثات الطلاق سارية، وحتى بعد مجاملتها لي بطبخ صحن قرع عسلي وإحضاره كما كنت اطلبه منها فيما مضى دون استجابة. ظللت محتفظا بثبات انفعالاتي وفضولي، منتظرا للمزيد من التفسيرات وربما اعتراف ما.
“أنا جعانة”، أعلنت عن استيقاظها مقاطعة أفكاري. فكرت بما يمكن عمله ثم انتبهت لخيار رومانسي. قبلت رأسها وقمت بهدوء احضر صحنها الذي تحججت بالزيارة لاسترداده وقد عوضت فراغه بقطع صغيرة من ال”باونتي”، تقديرا كما علمتني أمي. ابتسمت عندما رأت الصحن الذي جمعنا بالفراش وضحكت عندما لاحظت محتواه. اقتسمت معي أول قطعة ثم استقامت بجلستها بالثانية انتباها لمحمولها. أشارت لي بالسكوت، “أيوا يا ماما”، خرجت بخطوات هادئة من الغرفة وابتعد صوتها، حاولت الاستماع من مكاني لكني لم التقط سوى بضع كلمات عندما تعالت همهمتها،
“ما قولتليش ليه الأول؟!”.. “وهو خاله ماله؟!”.. وختام مكالمتها وهي عائدة.
استلقت جانبي مرة أخرى وبقي ذهنها بالمكالمة، ربت على ظهرها وملست شعرها لكنها لم تعد.
“تحبي نتكلم؟”
أشارت بالنفي ثم سالت دمعة أخفتها بثبات، “أنا لازم أقوم”. ارتدت ملابسها واقتربت تودعني بحضن دون أن تلتقي أعيننا ثم غادرت. خلفت ورائها صحن الشوكولاته، تحججت به بدوري بعد عدة أيام لكنها لم تجب اتصالي، مرت شهور ولم ترده، ولم أسمع بها إلى أن التقيت صدفةً بزميل مشترك أخبرني أنّها تستعد لإجازة وضع ثانية….