يوسف إدريس.. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟

يوسف إدريس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عمار علي حسن

حين غاب يوسف إدريس عن دنيانا في  أول أغسطس من عام 1991 كانت أسطورته قد اكتملت، فما كُتب في تأبينه ورثائه والحزن لرحيله كان ملء الأسماع والأبصار والأذهان، واستمر أياما بل أسابيع. وكلما تجددت ذكرى الرحيل أو حتى الميلاد انفتحت أبواب الأسى ونوافذه على مصاريعها، وكلها حافلة بتمجيد كان قادرا طيلة الوقت أن يجرف في طريقه كل من وقفوا في الضفة الأخرى، أو ساروا في الاتجاه المعاكس، وعلى رأسهم الناقد الكبير فاروق عبد القادر، الذي امتلك ذات يوم جرأة يحسد عليها وقال في كتابه “البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس” عبارته الصادمة: “لن يبقى من يوسف إدريس سوى خمس قصص قصيرة”، بينما امتلك آخرون شجاعة أقل واكتقوا بتكرار هذا القول، متكئين على القاعدة التي تقول: “ناقل الكفر ليس بكافر”، أو مسوا إدريس وقصصه ومسرحياته ومواقفه السياسية والفكرية مسا رقيقا رفيقا، لم يصنع جرحا غائرا في ذاكرة الناس حيال رجل وُصف بأنه “تشيكوف العرب” أو “أمير القصة القصيرة”.

لكن الكاتب  والشاعر المهتم بالتأريخ للأدب الأستاذ شعبان يوسف كان الثاني بعد فاروق عبد القادر الذي تحمل مشقة النيل من هالة يوسف إدريس، إو إخضاعها للفحص والدرس، رغم أنه لم يتفق تماما مع ما ذهب إليه عبد القادر، ووجد أن الحصافة والكياسة والإنصاف تفرض عليه أن يقول صراحة في ثنايا كتابه الذي حمل عنوان “ضحايا يوسف إدريس وعصر” قولا واضحا في حق الرجل، حيث نجده يقول دون مواربة، بعد تناوله الأسباب الخفية والظاهرة التي دفعت إدريس إلى المقدمة، وصنعت سطوته وجعلته في دائرة الضوء المبهر زمنا طويلا: “وأؤكد بأن كل هذه الأمور لا تنقص من تقديري لموهبة يوسف إدريس العاصفة في القصة القصيرة على وجه الخصوص، ولا تنقص من صدقيته كذلك، فهو كان يفعل كل ذلك منطلقا من شعوره الطاغي بذاته الفنية والأدبية والثقافية، ذلك الشعور الذي جعله لا يرى أحدا قبله أو بعده أو أمامه، وراح يطيح بكل من سبقوه، وقال بأنه أول من كتب القصة المصرية، وهكذا ألغى جيلين أو ثلاثة”.

ويعرض شعبان يوسف بالتفصيل أسماء شخصيات من هذه الأجيال التي توارت تحت ظل يوسف إدريس الثقيل، ليظل بعضهم في خلفية المشهد إلى الآن، ويتحقق بعضهم بعد رحيله، أو ينال إبداعهم الأدبي الاعتراف. فنقرأ في الكتاب فصولا عن أبو المعاطي أبو النجا ومحمد سالم وعبد المعطي المسيري ومحمد صدقي، مثالا للحالة الأولى. أما الحالة الثانية فيمثلها إدوارد الخراط، الذي نال حظه من الأضواء في العقدين الأخيرين، ولطفي الخولي الذي ترك كتابة القصة ليتحقق ككاتب سياسي شهير ومؤثر، والدكتور مصطفى محمود الذي توقف عن كتابة القصص والمسرحيات وانشغل بالمسائل العلمية والدينية فجعله برنامج “العلم والإيمان” الذي كان ذائع الصيت في مصر خلال ثمانينيات القرن العشرين أكثر حضورا في أذهان عموم الناس حتى من يوسف إدريس نفسه. ثم يذكر الكاتب بعض الأسماء التي يرى أنها تأثرت سلبا بوجود يوسف إدريس من أبناء جيله مثل يوسف الشاروني وعبد الله الطوخي وسليمان فياض وبدر نشأت وصبري العسكري وعباس أحمد وغيرهم، أو ممن سبقوه والذين لحقهم ضرر من الزعم بأن القصة القصيرة قبل إدريس لم تكن على ما يرام مثل محمود ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وعيسى عبيد وسعد مكاوي ويحي حقي ومحمود البدوي ويوسف جوهر ومحمود كامل المحامي وغيرهم.

 في هذا الكتاب ينتصر شعبان يوسف، كعادته، للمنسيين أو “المستبعدين”، سواء منهم الذين استمروا في نضالهم ضد الإقصاء، أو الذين انسحبوا من المشهد الأدبي قانطين أو قانعين أو مستسلمين، وهي مهمة أخذها الكاتب على عاتقه في الفترة الأخيرة، حيث راح يؤرخ لكل هؤلاء، محاولا إنصافهم والحدب عليهم، سواء في كتابه السابق “لماذا تموت الكاتبات كمدا؟”، أو مقالاته التي نشرها تباعا في جريدة “أخبار الأدب” عن بعض الشخصيات الأدبية التي لمعت وسادت ثم بادت في زمن وجيز واستقرت في قعر النسيان، أو حتى بعض الندوات التي يعقدها لكتاب لم ينالوا حظهم من الشهرة والاعتراف في ورشة الزيتون التي يشرف عليها منذ ربع قرن تقريبا.

وأعتقد أن هذا مسلك طيب ونبيل في حد ذاته، بل ومفيد في إطار تأريخ الأدب من خلال مبدعيه سواء على مستوى أدائهم أو ظروف عصرهم وتأثيره عليهم أو متون نصوصهم، لكنه أيضا مسلك يجب أن يكون معنيا ومدعيا أكثر للإجابة على سؤال مهم، يتصل بالطبع بالحديث عن يوسف إدريس وأمثاله من رموز الأدب الكبار، ألا وهو: لماذا يحصد بعض الأدباء الشهرة والمجد ولا ينال غيرهم هذا حتى لو كان إبداعهم قوي ولافت في حد ذاته؟

يحدثنا الكتاب عن أسباب محددة تتعلق بالأساس برغبة السلطة في دعم كاتب معين وتحمسها لها مقابل أن يؤدي دورا في خدمتها، لكن هذا الدعم لا يناله كل أحد، ختى لو سعى إليه، إنما من تختاره السلطة، وتتوافر فيه الشروط التي تريدها، وهنا يقول: ” لابد أن تتوفر في الشاعر أو الكاتب المدعوم والمبشر بالحماية من جناب السلطان صفات عديدة، أولها أن يكون موهوبا كبيرا كي يكون قادرا على الإقناع والإمتاع والمسامرة، وكذلك الدفاع عن الحاكم عند الطلب والقدرة على كتابة الخطابات العديد، وفي أوجهها المختلفة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية، وأيضا الهجوم على خصوم الحاكم وتسفيههم والسخرية منهم لدرجة التمزيق، ولابد أن تأتي كل الخطابات في صياغات طبيعية، أو شبه طبيعية وهذا لا يمنع أن يثأر الشاعر أو الكاتب لنفسه عندما تدور الدوائر لإقصائه”.

وكي يثبت انطباق هذا الأمر على يوسف إدريس تحدث عن علاقته بالرئيس السادات، بل يتهم إدريس بأنه كتب للرئيس المصري الراحل بعض كتبه ومقالاته، بما جعل أهل الحكم يطلبون صراحة من الدكتور طه حسين أن يقدم مجموعته القصصية “أرخص ليالي”. وعلاقة السادات بيوسف إدريس باتت متفقا عليها، بل إن يوسف إدريس نفسه يعترف: “ظللت أعمل مع السادات حتى نقلني تماما من وزارة الصحة إلى المؤتمر الإسلامي لأتفرغ لكتابة ثلاثة كتب تحمل اسمه، واعتبرتها مهمة وطنية عليا إذ أن أحدها كان عن حرب السويس الوطنية والعدوان الثلاثي، وقع في خمسمئة صفحة وترجم ونشر باسم السادات في دار نشر هندية وزعته بالإنكليزية على العالم أجمع”.

.وهناك من يقول إنه قد اختفى من الساحة العامة، على أثر تعليقات له علنية ضد الوضع السياسي في عهد السادات ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973 ليصFح أحد كبار كتاب صحيفة الأهرام. لكن ملفا صدر بجريدة “القاهرة” في 13 يوليو 2004 حتى عنوان” ” يوسف إدريس .. أمير الحكي”  حوى آراء مختلفة، حيث قال الكاتب السياسي محمد عودة: “يوسف إدريس لم ينقلب على اليسار .. هذا كلام مقاهي”، فيما أعلن شيوعيون في الملف نفسه براءته من تهمة الخيانة بعد نصف قرن من الحملة التي شنوها ضد روايته “البيضاء”، بل إن ميلاد حنا قال إن علاقة إدريس بالسادات كانت متقلبة.

أما الحديث عن دفع طه حسين أو إجباره أو حتى الإيجاء له من قبل السلطة السياسية بكتابة مقدمة المجموعة الأولى لإدريس فهو أمر يحتاج إلى تدقيق، فشخصية طه حسين تجعله عصيا على الطاعة بهذه الطريقة، كما أن ما كتبه لم يكن مدحا في هذه القصص، بل إنه عاب عليها عاميتها، وطلب من كاتبها أن يلتفت إلى مهنته كطبيب، وهو ما كان يُستخدم فيما بعد كمثال على فشل نبوءة بعض الكبار حيال الكتاب الشبان، بل إن يوسف إدريس نفسه ظل يتحدث عن هذا، ونقل في طبعة تالية تلك المقدمة إلى نهاية الكتاب باعتبارها “بركة”، وهي كلمة وضعها  إدريس في سياق ساخر، وظل طيلة حياته حانقا عل طه حسين.

وكتاب شعبان يخالف ذلك الذي ألفه الناقد الدكتور محمد فتحي قبل ست سنوات بعنوان “يوسف إدريس أبأس العباقرة”، والذي انطلق فيه من أطروحته للدكتوراه التي تناولت “تكوين المبدع وإبداع الأصالة وأصول النبوغ”، وقال فيه إن إدريس لم يكن من المتكسبين بقلمه، وأنه مات فقيرا رغم تفرده وموهبته اللاذعة، وهي الموهبة التي لا ينبو عنها شعبان يوسف نفسه حين يقول: “قراءتي تلك لا تمس قيمة يوسف إدريس من قريب أو بعيد”، أو يقول: “عبقرية يوسف إدريس لم تتكرر إلى الآن”.

وربما طغت رغبة الكاتب في إنصاف ثلاثة أجيال سابقة ولاحقة ومتزامنة مع يوسف إدريس، وهي مسألة معروفة عنه في السعي وراء المهمشين والتنقيب عن الجواهر المخبوءة في الأدب المصري، على رؤيته لموقع إدريس من هذا، فحمله أكبر مما فعله، اللهم إلا في حالتين ذكرهما عن فتور تلقي إدريس لنصوص يحيى الطاهر عبد الله ومحمد حافظ رجب، وهما لاحقين عليه، وقد ثبت فيما بعد أهمية ما أبدعاه، ولو أن أدريس قدمهما، وتحمس لهما، ما نقص هذا أو خصم من رصيده شيء، ولم يكن بوسع أي منهما أن يزيح إدريس من موقعه المتقدم ككاتب ذي موهبة طاغية في القصة القصيرة. وهاتان الحالتان في حاجة إلى تفسير آخر.

إن المقربين جدا من يوسف إدريس يعترفون بأنه كان “لا يثق في نفسه بقدر كاف” على النقيض مما يصدره للآخرين، وربما الغطرسة والاستعلاء والتطاوس الذي كان ينتابه هو نوع من الحيل الدفاعية، حتى لا تنكشف حقيقته، فينهشه الآخرون كما كان يتصور أو يتوهم، وهي مسألة يمكن أن نفهمها على وجه أعمق إن استعدنا تجربته في الطفولة والصبا، والتي أورثته عقدا لم تذب مع الزمن، وحتى بعد التحقق والشهرة. وبعض ما قاله عن نفسه، مبالغا في دوره، أو مقللا من أدوار الآخرين، هو جزء من هذا المسار، والذي دفع إدريس نفسه بعض أثمان له، لخصتها عبارة كاتبة عراقية كانت قد سعت إلى لقائه بأي طريقة بعد أن سحرتها قصصه، فلما تحققت لها أمنيتها وجلست إليه ونالها من تطاوسه الكثير قالت: “يا ليتني ظللت أقرأك من بعيد جدا”.

وفي ظني أن هناك عوامل أخرى مساعدة أو مصاحبة للموهبة الأدبية تساهم في ذيوع وشهرة وتسيد كاتب وانحسار الأضواء عن نظيره، رغم أن موهبة الأخير لا تكون أقل أو إنتاجه أضعف من الأول، مثل الدور العام للكاتب، وهي مسألة وعاها إدريس، الذي خاض معارك متعاقبة وكان يقول: “حين يكون عقل أمتي في خطر لا تسألني عن الأنواع الأدبية”، أو ما نقله عنه الأديب سعد القرش حين التقاه عام 1991 وقال له إدريس:“هل يمكنك، وأنت تمشي في مظاهرة، تضج بهتافات ومواجهات ورصاص، أن تميل لكي تجلس في ركن وتكتب قصة؟ ألتمس العذر للمبدعين العرب؛ لأنهم يكتبون في ظروف صعبة، يبدعون ضد تيار الواقع، ولا يستريحون من أزمات متوالية لا تتيح لهم تصور عالم آخر. هذه المتعة، راحة البال، لا يتمتع بها إلا الكاتب خارج الوطن العربي”.

ومن ركائز قوة الكاتب إلى جانب دوره العام اعتداده بنفسه، بحيث تصير قامته الإبداعية متناسبة مع قامته الاجتماعية والإنسانية، ومنها القدرة على التجدد والإضافة دوما، والتعامل الذكي مع دور النشر ومنابر الإعلام، ووجود قوى مبصرة أو عمياء، بفعل التدبير المقصود أو الحظ، لصناعة النجومية. لكن الكتاب يجعل ركيزة القوة أو النفوذ الوحيدة أو الأعلى للكاتب، بعد الموهبة، هي علاقته الجيدة بالسلطة، وهي مسألة لم تكن من طرف واحد بالنسبة ليوسف إدريس كما يقول هو ردا على اتهام نجيب سرور له بان السلطة قد عبثت به: “لم تعبث السلطة، أيّ سلطة، بي، العكس هو الصحيح، فقد عبثت بها كثيرا”. وبغض النظر عن صدق هذا من كذه فإن العلاقة مع السلطة لم تظل تعمل لصالح إدريس كل الوقت، بل انقلبت ضده في بعض سنوات حكم حسني مبارك حين كتب إدريس كتاب “البحث عن السادات”، ثم حين كتبت مقال “ليس صدام وحده المجرم” عقب الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990. وفي هاتين اللحظتين انهالت بعض الأقلام بنقد لاذع ليس على الموقف السياسي ليوسف إدريس إنما على أدبه، واتهمه هؤلاء بأن معينه قد نضب، ولم يعد لديه ما يكتبه، وأثر فيه هذا الهجوم كثيرا، لدرجة أن كتب يقول إن لديه كشكولا يحوي أفكارا لعشرين قصة على الأقل، وتحدث عن مسرحية يكتبها بعنوان: “يوم الحساب”.

ولو كان الأمر على هذا النحو لمات من تاريخ الأدب كتاب معارضون، ولكانت الدولة المصرية قد تمكنت من تحقيق رغبتها في فوز توفيق الحكيم ومن بعده عبد الرحمن الشرقاوي بجائزة نوبل، حيث كانت تعمل على ترشيح الأول حتى توفى فرشحت الثاني حتى في العام الذي فاز فيه بها نجيب محفوظ. ولو كان بوسع أهل الحكم أن يسدلوا ستائر العتمة فوق الموهوبين لما سمعنا بأمل دنقل الذي بنى مجده على قول “لا” أو نجيب سرور الذي بلغ في معارضته ورفضه حدا بالغا، ولما وجد صنع الله إبراهيم أي فرصة لنشر أعماله. ولهذا علينا أن نبحث عن أسباب أخرى في تحليل هذه الظاهرة إلى جانب قضية العلاقة بالسلطة، إيجابا أو سلبا، وهي مسألة لا يعجز عن فهمها والتمكن من الوصول إليها واحد من أكثر المشتغلين والمنشغلين بتاريخ الأدب المصري مثل شعبان يوسف، كما لا يعجز عن فهم حقيقة أن السلطة ليست فقط إدارة الدولة إنما هناك سلطة النقد، وسلطة الجمهور الذي يتحمس لكاتب ويهمل آخر، وسلطة “أولاد الكار” من المجايلين أو اللاحقين، وهي سلطات عملت وتعمل غالبا في صالح يوسف إدريس.

لقد ذهبت السلطة التي ساندت يوسف إدريس، بل ذهب هو نفسه، وترك أعماله القصصية لتدهش وتهز أعماق أجيال لاحقة، وهؤلاء في كتاباتهم وحديثهم وثرثرتهم جعلوا اسم الرجل لا يزال يتردد وبقوة، وربما كتاب شعبان يوسف يقع في قلب هذه الأحاديث والكتابات، التي تبرهن على أن الانشغال بإدريس لم ينته بعد، وقد لا ينتهي، ليس بوصفه أول من كتب القصة القصيرة في مصر أو العالم العربي، فهذا غير صحيح، ولا أن كتاباته أزاحت ما قبلها تماما، لكن لأنه كان الاكثر تميزا على هذا الدرب، أو أنه المغايرة القوية التي أحدثها في فن الكتابة القصصية قياسا إلى زمنه كانت واسعة، وحتى لو تجاوزها أو سيتجاوزها جيل لاحق فإن هذا ليس بوسعه أن يهيل التراب على الإضافة القوية التي جاد بها إدريس على هذا الفن الذي أصبح، على أهميته وجماله، مغبونا في وجه انتعاش وانتشار فن الرواية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نقلا عن موقع “مصراوي”

 

مقالات من نفس القسم